يسار لبناني ذيلي: دفاع عن مراقد ماركس ولينين؟

إن كانت حجّة "اليسار" المتورّط بالسير خلف القوى الطائفية هي "الدفاع عن المقاومة"، فهو يعلم تماماً بأنّ النظام السوري هو من حيّده عن الصراع مع العدو الصهيوني لصالح قوى طائفية تأتمر بأمره، وأنّ هذه القوى نفسها عادت وغيّرت مواقفها بحيث برّرت التدخّل في الحرب السورية بحجة "الدفاع عن المراقد المقدّسة"، ليس منها بالطبع مراقد ستالين أو لينين أو ماركس!

في أوائل العام 2011، وتأثّراً بما جرى من ثورات في مصر وتونس وليبيا والبحرين، التي كان اليسار اللبناني متضامناً ومتعاطفاً معها الى حدّ أنّه نظّم التظاهرات والاعتصامات والتحركات الإحتجاجية دعما لها، انطلقت حركة احتجاجية لبنانية ترفع شعاراً ذو طابع خاص بالبنية السياسية والمجتمعية اللبنانية: “الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي”.

شارك في تلك الحملة أغلب الأحزاب والتنظيمات والمجموعات اليسارية، إضافة إلى منظمات المجتمع المدني، وبعض المستقلّين.
وللبنان تركيبة طائفية تاريخية تميّزه عن محيطه، لها منظريها ومثقّفيها. وهو ما ميّز بالتالي طبيعة نضال هذه القوى اليسارية عن شبيهاتها في العالم العربي، مع الأخذ بعين الإعتبار التاريخ المشرّف لقوى اليسار اللبناني في الصراع مع العدو الصهيوني في فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. فقد كان لها صولات وجولات في هذا المجال. وهي مؤسّسة “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية – جمّول”، ما ترك أثره بشكل واضح على الداخل عندما فرضت نفسها كرقم صعب في المعادلة الداخلية، إذ كادت في لحظات معيّنة من احتدام الصراع مع العدو، والمتمفصل على صراع داخلي لا يقل أهمية، أن تمسك بزمام السلطة.

لم تكن سيطرة قوى اليسار لترضي المحيط الإقليمي، وبالأساس هنا، العدو الصهيوني، والنظام السوري الذي استغل المتغيّرات في المنطقة، لفرض معادلات جديدة في لبنان تعزّز عودة التركيبة الطائفية بما يخدم مصالحه وتوجّهاته.
كانت مرحلة نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي المرحلة الأنسب بالنسبة للنظام السوري للقضاء على هذا المارد الذي إذا ما نهض، سيغيّر الواقع المحلّي وربّما العربي، بما يعاكس مصالحه. فجاء “اتّفاق الطائف” ليُفرض على القوى المتقاتلة أواخر أيلول 1989، متزامناً مع انهيار جدار برلين. ثم في العام الذي تلاه اجتاحت القوات العراقية دولة الكويت. وفي العام 1991 أعلن عن انهيار وتفكّك الإتحاد السوفييتي و دول المعسكر الإشتراكي إلى غير عودة. تغيّرات دراماتيكية ساهمت في إعادة تموضع القوى الإقليمية، ما ساعد النظام السوري واللاعبين الآخرين على إعادة ترتيب الوضع اللبناني بما يناسبهم. وليس هنالك أفضل وأكثر مثالية من إعادة إنتاج النظام الطائفي نفسه، وإن بشروط جديدة تعبّر عن التوازنات الناشئة.
نتج عن اتفاق الطائف دستور طائفي أعرج، حمل في الفقرة “جـ” من مقدّمته: “إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية”. وحدّد الدستور آليات تنفيذها عبر لجان متخصّصة. وكأنّ من وضع الدستور كان يدرك مساوئ الطائفية السياسية التي لا غنى له عنها، لكنّ العقل المستفيد من بقاء هذه التركيبة الطائفية “باجتراحه المعجزات” لإبعاد شبهة الإستفادة من بقاء التركيبة الطائفية عينها، مع بعض التحسنات الطفيفة لم يستطع إلا أن ينتج مثل هذه المادّة المتناقضة مع مضمون الدستور كلّه.
وطوال الفترة الماضية، منذ وضع هذا الدستور والموافقة عليه من قبل “مجلس النواب اللبناني” إلى اليوم، لم ينجز من هذه المادة أي شيء، لا بل إن القوى الثورية والديمقراطية كانت في حالة صدام دائم معه ومع الترسبات القانونية الناتجة عنه وعن سابقه، ومع القوى الطائفية المتآخية معه.

فها هو اليسار يخوض معاركه من أجل إقرار قانون للزواج المدني من خارج القيد الطائفي، ومعارك أخرى من أجل إلغاء الصفة الطائفية عن البطاقة الشخصية، عدا عن الصراع من أجل خفض سن الإقتراع إلى (18) عاماً، وصراع آخر لاعتماد قانون التمثيل النسبي في الإنتخابات مع اعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة تتيح للقوى السياسية كلها أن تُمثّل في “مجلس النواب”، وقائمة المطالب لا تنتهي.
بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني سابقا رفيق الحريري، وإجبار القوات السورية على الخروج من لبنان بقرار دولي يحمل الرقم (1559) تغيّرت المعادلات، لتشعر المقاومة ذات اللون الطائفي الواحد باستهدافها. كان هذا كافياً لأن يؤشّر إلى تغيّر المعادلات الداخلية والخارجية في المنطقة. اضطر بعدها “حزب الله” للعمل على الحشد لتحالف واسع قائم أساساً على فكرة حماية المقاومة التي شعر بأنّها هي المستهدفة من اغتيال الحريري وإخراج الجيش السوري من لبنان.
ومن البديهي أن تنضم معظم القوى “اليسارية” و”القومية” الى هذا التحالف، بما أنّها جزء من ماضي هذه المقاومة، لينشأ ما عرف فيما بعد باصطفافي (8، و 14 آذار). اصطفافان بقيادة قوى طائفية من الجانبين. استمر هذا التحالف إلى اليوم، رغم المتغيّرات الداخلية والخارجية كلّها. فها هي الثورة السورية تنطلق متزامنة مع الثورات العربية الأخرى، ومع الحراك الثوري اللبناني من أجل “إسقاط النظام الطائفي” الذي انطفأ بعد حين.
لكنّ الملفت هنا أن القوى التي عملت تاريخياً على إنهاء حكم الطوائف، بما هو النظام الذي تمارس من خلاله البرجوازية اللبنانية سيطرتها الطبقية، لإقامة “نظام وطني ديمقراطي علماني، يؤمّن الخبز والعلم والحرية لكل أبنائه”.. انزلقت هي الأخرى إلى مهاوي الموقف نفسه الذي تبنّته القوى الطائفية من الثورة السورية، أو بأحسن الأحوال صَمَت البعض منها، لا لقناعة بالحياد بقدر ما هو لأسباب داخلية تنظيمية أعاقت قدرته على اتّخاذ موقف –أي موقف- سواء من الثورة السورية أو غيرها.
والموقف في لبنان من الثورة السورية ليس واحداً، فاصطفافا (14، و8 آذار) عبّر عن نفسه في الوقوف مع هذا الطرف السوري أو ذاك بما يعبّر عن وضعه الداخلي ومصالحه، أما الدولة اللبنانية فقد اتّخذت قراراً واضحاً بالنأي بنفسها عمّا يحدث في سوريا.
بقي أن “اليسار” تورّط بمواقف ذيلية قد لا تُحمد عقباها بعد أن تضع الحرب أوزارها. وهذا يعني أن موقف اليسار اللبناني من الثورة السورية متّفق مع موقف خصمه الطائفي الطبقي الذي يسعى لإسقاطه.
إن كانت حجّة “اليسار” المتورّط بالسير خلف القوى الطائفية هي “الدفاع عن المقاومة”، فهو يعلم تماماً بأنّ النظام السوري هو من حيّده عن الصراع مع العدو الصهيوني لصالح قوى طائفية تأتمر بأمره، وأنّ هذه القوى نفسها عادت وغيّرت مواقفها بحيث برّرت التدخّل في الحرب السورية بحجة “الدفاع عن المراقد المقدّسة”، ليس منها بالطبع مراقد ستالين أو لينين أو ماركس!

السابق
اتصاﻻ ورد بوجود قنبلة ستنفجر عند الساعة 12 في قصر العدل
التالي
لا أمل إلا بتسوية سياسية