سجال القانون الإنتخابي(2): لبناء دولة المواطنة أم لتكريس «دولة الطوائف»؟

في الجزء الأول من المقالة كشفت لنا الدكتورة هلا أمون بالأرقام عدد الناخبين بكل طائفة وثقلها الانتخابي، وفي الجزء الثاني تتحدث الكاتبة عن اختلاف المعايير في القوانين الانتخابية المتلاحقة والخلل الذي تسببه على مستوى تحقيق العدالة في التمثيل النيابي.

إنّ سبب هذه التباينات في التمثيل الشعبي والحصص والأوزان الإنتخابية ، لا يرجع فقط الى العامل الديموغرافي المتمثّل في حصول المسيحيين على نصف المقاعد النيابية في البرلمان ، رغم انهم يمثّلون 38,97 % من عدد الناخبين ، بل يرجع أيضاً الى أن الطبقة الحاكمة قد دأبت منذ زمنٍ بعيد ، على عدم توحيد المعايير الانتخابية ، وعلى التلاعب بحجم الدوائر ( القضاء ، المحافظة ، دائرة وسطى .. ) لأن كل طرف يريد تحديد الدوائر بما يضمن له حصد أكبر كتلة نيابية ، وعلى تطبيق الاستثناءات في تقسيم الدوائر ، لتأمين استمرار هيمنة اصحاب النفوذ الطائفي والعائلي والمناطقي ، وإستحواذهم على السلطةً عبر إقصاء الخصوم والمنافسين . ولا يتمّ لهم ذلك ، إلا من خلال تفصيل القوانين الانتخابية على مقاسات زعماء الطوائف ومصالح المتنفّذين في الدولة . مثلاً ، في إنتخابات 1992 اعتمدت المحافظات كدوائر إنتخابية ، بإستثناء محافظة جبل لبنان التي بقيت على أساس القضاء . وبيروت أصبحت دائرةً واحدة ، بعدما كانت في السابق ثلاثة دوائر. وفي انتخابات عام 2000 تمّ تقسيم الشمال بناء على ما يُسمّى “قانون غازي كنعان” ، إلى ثلاثة دوائر ، والبقاع إلى ثلاثة دوائر ، اما بيروت فأصبحت ثلاثة دوائر انتخابية ، في حين تمّ دمج الجنوب والنبطية في دائرةٍ انتخابية واحدة ، وفي جبل لبنان تمّ دمج دوائر انتخابية مثل عاليه – بعبدا، كسروان -جبيل، وبقي كلٌ من المتن الشمالي والشوف دائرة واحدة . أما في عام 2009 فقد تمّ تقسيم لبنان الى 26 دائرة انتخابية .

ورغم كل عمليات الفصل والدمج الإصطناعيين والتغييرات الإستنسابية التي طرأت على التقسيمات الإدارية ، إلا ان انعدام العدالة في التمثيل ، وفي توزيع المقاعد النيابية على عدد الناخبين ، وفي متوسط التمثيل العددي لكل طائفة ، ظلّ الميزة الاساسية لتلك التقسيمات ، وهذا ما يظهر جلّياً من خلال التباينات والمفارقات التالية :
– رغم أن الفرق في عدد الناخبين بين السنّة والموارنة هو (189,919 ناخباً ) ، والفرق بين الشيعة والموارنة هو (175,866 ناخباً) ، إلا أن حصّة السُنّة في المجلس النيابي هي 27 مقعداً ، وحصّة الشيعة هي 27 مقعداً ، فيما حصّة الموارنة هي 34 مقعداً.
– يمثّل السُنّة 53 % من ناخبي محافظة الشمال ، ويحصلون على 11 مقعداً نيابياً من أصل 28 مقعداً ، فيما يمثّل الموارنة 27 % منهم ، ويحصلون على 9 مقاعد ، ويحصل الروم الارثوذكس على 6 مقاعد ، رغم انهم يمثلون 15 % من ناخبي الشمال .
– إن كلاً من أقضية بشري ( 46,422 ناخباً) وصيدا (53,859 ناخباً ) والبترون (58,445 ناخباً) ، قد تمثّل بمقعدين نيابيين (وهناك اقتراح بنقل المقعد الماروني من طرابلس الى البترون ، ونقل المقعد الماروني من بعلبك – الهرمل الى بشرّي !! ) في حين ان كلاً من أقضية الكورة (57,794 ناخباً) وجزين (54,188) وزغرتا (71,035) وجبيل (74,938) ، قد تمثل بثلاثة مقاعد، وبذلك فهي تتساوى مع قضائيْ النبطية (121,912) وبنت جبيل (123,396) ، في تمثيلها بثلاثة مقاعد نيابية فقط ، رغم الفرق الشاسع بين عدد ناخبي بنت جبيل أو النبطية ، وعدد الناخبين في الكورة أو زغرتا أو جزين .
– تمثّل دائرة كسروان ( 89,228 ناخباً ) بخمسة مقاعد نيابية ، وتمثل دائرة بيروت الأولى ( 92,764 ) بخمسة مقاعد نيابية ، فيما تمثّل دائرة المنية – الضنية ( 97,352 ) بثلاثة مقاعد نيابية فقط، رغم ان عدد الناخبين فيها اكثر من عدد الناخبين سواءً في دائرة كسروان أو في دائرة بيروت الأولى .
– تُمثّل دائرة عالية (116,181 ناخباً) بخمسة مقاعد نيابية ، وتتساوى مع دائرة كسروان (89,228 ناخباً) التي تُمثّل أيضاً بخمسة مقاعد .
– عند المقارنة بين دائرتي زحلة (157,448 ناخباً) وعكار (226,763 ناخباً) ، نجد انهما يتمثلان بسبع مقاعد نيابية ، رغم الفرق الشاسع في عدد الناخبين في الدائرتين .
– يبلغ عدد ناخبي دائرة زحلة ( 157,448 ناخباً) ، نحو 38,8 % منهم في مدينة زحلة، اما العدد الباقي فيتوزع على القرى والبلدات التي تضمّها هذه الدائرة . ويتوزع الناخبون حسب الطوائف على الشكل التالي: السنّة: 44,406 ( 25 %) ، الروم الكاثوليك: 30,657 ( 23%) ، الموارنة: 24,524 ( 14%) ، الشيعة: 23,537 ( 14%)، الروم الأرثوذكس: 14,919( 8%)، الأرمن الأرثوذكس: 8,690 ( 4%)، الأقليات: 10,715 (من الارمن الكاثوليك والسريان والبروتستانت والدروز والكلدان واللاتين والأشوريين) . ورغم ان السُنّة هم أكثرية الناخبين في هذه الدائرة ، إلا انهم يتمثلون بنائبٍ واحد فقط.
– مُنح مقعدان نيابيان للعلويين (24,990 ناخباً) ، ومقعد واحد للأقليات (43,445 ناخباً).
– في المعدّل العام ، يوجد لكل (19,835) ناخباً “مسيحياً”، مقعد نيابي، في حين أنه يوجد لكل (30,733) ناخباً “مسلماً”، مقعد نيابي .
– لكل 12,495 ناخباً علوياً ، مقعد نيابي .
– لكل 15,215 ناخباً ارمنياً أرثوذكسياً ، مقعد نيابي .
– لكل 17,583 ناخباً أرثوذكسياً، مقعد نيابي.
– لكل 20,325 ناخباً كاثوليكياً ، مقعد نيابي.
– لكل 20,057 ناخباً مارونياً ، مقعد نيابي.
– لكل 23,053 ناخباً درزياً ، مقعد نيابي.
– لكل 32,232 ناخباً شيعياً ، مقعد نيابي.
– لكل 32,860 ناخباً سنياً مقعد نيابي.
– 4,522 ناخباً درزياً في بيروت، لهم مقعد نيابي.
– 5,129 ناخباً مارونياً في طرابلس ، لهم مقعد نيابي، رغم ان الوجود الفعلي لهم في هذه الدائرة التي يشكّل السُنة 80% من عدد ناخبيها، قد انحسر الى عدة مئات.
– 9,653 ناخباً ارثوذكسياً في دائرة البقاع الغربي – راشيا ، لهم مقعد نيابي،
– 12,145 ناخباً ارثوذكسياً في قضاء بعبدا، ليس لديهم مقعد نيابي .
– 6,483 ناخباً مارونياً في قضاء المنية – الضنية ، ليس لهم مقعد نيابي .
– 10,519 ناخبا مارونياً في الزهراني ، ليس لهم مقعد نيابي .
– 11,484 ناخباً مارونياً في بنت جبيل ، ليس لهم مقعد نيابي .
– 20,000 ناخب سُنّي ( 7,8 % من مجمل عدد الناخبين ) في أقضية زغرتا والكورة والبترون وبشري ، ليس لهم مقعد نيابي . في حين ان العلويين الذين يمثّلون 7,5% من مجمل عدد الناخبين في قضاء طرابلس ذي الأغلبية السُنية ، لهم مقعد نيابي ، وكذلك الروم الأرثوذكس ( 6,8 %) لهم مقعد نيابي ، والموارنة ( 2,3 %) لهم مقعد نيابي .
– لكي يفوز في المعركة الإنتخابية ، فقد حصل النائب الحالي “إميل رحمة” على 109,060 صوتاً في دائرة بعلبك – الهرمل ، بينما حصلت النائبة “ستريدا جعجع” على 13,066 صوتاً في دائرة بشري !

هذه هي بعض المفارقات والاعتوارات والسلبيات التي تشوب القانون الانتخابي الأكثري وتقسيماته في لبنان ، والذي جرت آخر انتخابات نيابية على أساسه في عام 2009. وهي إن دلّت على شيء ، فإنما على حاجة اللبنانيين الى قانونٍ انتخابي وطني ومدني وعصري ، عادل ومنصف وغير طائفي ، لا يتعامل مع اللبنانيين على انهم مجرد أرقام وأعداد في صناديق الإقتراع ، أو مجرد طوائف ومذاهب وملل ونِحَل، تتصارع القوى المتحجّرة المتقوقعة في غيتوات طائفية ومالية وحزبية وعشائرية ، على كسب أصواتها لتأبيد سلطتها وإعادة إنتاج نفسها ومنع القوى التغييرية والنخب السياسية من الوصول الى الندوة البرلمانية ، وذلك من خلال تعزيز الزبائنية السياسية واستخدام التحريض الطائفي وزيادة الهواجس الوجودية وتضخيم مخاوف الإلغاء والإقصاء ومصادرة الحقوق ، في صفوف القواعد الشعبية .

بسبب اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975 , فقد تمّ التمديد للمجلس النيابي المنتخب في عام 1972 , ثماني مرات ، الى حين إقرار إتفاق الطائف في عام 1989 . وقد جرت الانتخابات في الأعوام 1992 و 1996 و 2000 و 2005 و 2009 . ومنذ العام 2013 يتمّ تمديد ولاية المجلس النيابي الحالي . وتحت ضغط انتهاء المُهل الدستورية ، ها هو البازار الإنتخابي قد فُتح اليوم ، وانطلقت السجالات والنقاشات بين أقطاب السياسة الذين يتصارعون ويتخبّطون في سبيل اقرار قانون انتخابي جديد – من بين 17 صيغة مطروحة – يهندس ويحدد مسبقاً ، احجامهم ومكاسبهم الفئوية قبل إجراء العملية الانتخابية . ولأن قانون الإنتخاب هو اللبنة الأساسية في قيام مشروع الدولة العصرية ، يمكننا القول إن كل القوانين المجرّبة والمقترحة حالياً ( أكثري ، نسبي ، مختلط ، أرثوذكسي ..) لم ولن تفرز نتائجها سوى التباعد والتناقض والتناحر والانقسام وتجذير النزعة الطائفية والمذهبية والشعور بالغبن والمظلومية لدى معظم الطوائف ، ولن تنجح في القضاء على أسباب الحرب الباردة بين كافة شرائح المجتمع اللبناني . ولا يمكن تلافي كل السيئات والسلبيات التي ذكرناها آنفاً ، في مجتمع غير متجانسٍ طائفياً ، وفي بلدٍ هو عبارة عن فسيفساء مذهبية وطائفية ومناطقية وحزبية، إلا إذا تخلّي جميع المسؤولين والسياسين عن أنانياتهم وأطماعهم ومصالحهم الضيّقة، وتوافقوا على انتاج قانونٍ انتخابي إصلاحي جديد خارج القيد الطائفي يتجاوز الخلل الديمغرافي الموجود بين الأقليات والأكثرية ، بسبب تناقص عدد المسيحيين وتزايد عدد المسلمين ، ويجبر القوى والأحزاب السياسية على التنافس فيما بينها، على أساس الأفكار المبادئ والبرامج والخطط الإنمائية ، لا على أساسٍ طائفي ومذهبي، ويحرّر المرشّحين من عُقدة الركوب في المحادل الإنتخابية التي تجرف في طريقها الكتل السياسية الصغيرة ، ويقرّ الإصلاحات التي باتت ضرورية ( الكوتا النسائية ، خفض سنّ الاقتراع الى 18 سنة ، حقّ الناخب في الإقتراع في محل إقامته ، وضع ضوابط للإنفاق المالي وللدعاية الإنتخابية ، إعتماد البطاقة الإنتخابية الممغنطة … ) . هذا بالطبع اذا كان الساسة يرغبون بالفعل في تجنيب البلاد والعباد المزيد من الأزمات والصراعات ، وإرساء الإستقرار وترميم الثقة شبه المفقودة بين أبناء الوطن الواحد .

وليس ببعيد المنال ، ذاك القانون الذي يُخرج البلاد من مستنقع الطائفية ، ويكرّس حُكم الشعب الذي هو صاحب السيادة وصاحب سلطة التشريع التي يمنحها لمَن ينوب عنه ، وليس حُكم رؤوس المال والطوائف .. لقد نصّت وثيقة اتفاق الطائف والدستور اللبناني بوضوح على ذلك القانون ، بحيث تنتفي الحاجة في حال إقراره ، الى فتح البازار للبحث عن قانون انتخابي جديد ، قبيل كل استحقاق انتخابي .

السابق
لماذا علينا ان نتوقف عن الحديث حول حرية المرأة وحقوقها؟
التالي
في ذكرى انتصار الثورة سابقا .. الخمينية ماتت !!