«النّوم الأبيض»… وهاجس الموت لـ«جنى نصر الله»

صدرت للصحافيّة اللبنانيّة جنى نصر الله، رواية بعنوان: "النّوم الأبيض" (عن دار رياض الريس في بيروت، في طبعة اولى 2015). هي رواية وجدان وأحاسيس مرهفة يصدمها فكرة هيمنة الموت وانتصاره النهائي على الحياة، واستحالة خلود الذكرى بعد اليأس من خلود النفس.

نقتطف منها: مكثت في البيت طوال النهار. عاندت كل احتمالات الخروج. وضعها النفسي المزري لم يساعدها على مغادرة الكنبة، فاستوطنتها. حملها خيالها، رفيقها في وحدتها، إلى أكثر الفضاءات سوداوية وحزناً: الموت!

تخيلت موت شريكها. أرعبتها الفكرة، لكنها فشلت في استبدالها بما يبث الفرح في أوصالها بدلاً من أن يشلها ويستدرج دموعها التي ملأت مقلتيها. تخيلت موتاً مفاجئاً بكامل تفاصيله وترتيباته، منذ تلقيها الخبر مروراً بانتحابها فوق جثته المسجاة في البيت، بناء لإصرارها، تحدِّثه وترجوه أن يعود إلى الحياة وألاّ يتركها وحيدة. رأت نفسها متشحة بالسواد وحيدة لا تحسن العيش من دونه.

انفجرت بالبكاء. هربت من موته إلى موتها هي. فكرت من سيسير في جنازتها؟ من سيرثيها؟ ماذا سيكتبون عنها في الصحيفة، أي صورة سينشرون لها؟ هل تختار صورة الآن وتوصي شريكها أن يستخدمها في نعوتها؟ لا، لن تفعل ذلك. ترى في أيّة ترتيبات مماثلة نذير شؤم. هي مثلاً، لا تملك في خزانتها ثياباً سوداء مما تقتنيه السيدات تحسباً لواجب العزاء، وكأنها تنادي الموت في فعل كهذا. هذا ما تظن.

كانت تنتقل من موت لآخر، تفكر في الأمكنة التي ستفتقدها بعد رحيلها، في الأشياء التي ستبقى بعدها، في ديمومة الشوارع والأبنية والأشجار المعمرة والآثار الخالدة، وفي فنائها هي. لطالما تمنت لو أنها ولدت شجرة، واحدة من الأشجار المعمرة، ليس رغبة في الحياة المديدة فحسب، بل لأن الشجرة جميلة في شكلها وأحاسيسها التي لا يمكن أن ينفي أي عاقل أنها تتمتع بها. حملها موتها المتخيّل إلى الصحاب. من سيتذكرها بعد رحيلها وكيف؟ هل سيترحمون عليها كلما أقدموا على فعل كانت تحبه؟ أو تناولوا طعاماً كانت تشتهيه؟ هل سيترك غيابها المفاجئ أثراً في حياتهم؟ كم مرة سيتذكرونها في اليوم؟ كم سيدوم حدادهم عليها قبل أن يستأنفوا حياتهم الطبيعية فيضحكون ويرقصون ويفرحون في كل المناسبات التي تستوجب ذلك؟

قطع عليها وصول شريكها حبل خيالها الأسود، أيقظها من موتها، فأدخلته في توتر وقلق بذل جهداً كبيراً لإخفائهما.

أطرقت الكاتبة فترة، اتكأت على الطاولة ممسكة برأسها. هي أيضاً تخشى الرحيل المبكر قبل أن تطمئن إلى مستقبل أولادها، تزوِّجهم وتدلِّل أحفادها. ولكن ماذا لو باغتها الموت؟ حين دخلت مكتبها كانت تنوي إنهاء روايتها، لأنها لم تعد تحتمل حضور بطلتها القوي في حياتها ولا هواجسها المعدية.

سحبت ورقة بيضاء، أشعلت سيجارة، قررت أن تكتب وصيتها الآن، لن تؤجل الأمر حتى تفرغ من الرواية، لن تتضمن وصيتها أي كلام عن الميراث، ستترك الأمر لزوجها، ولكن ستدوّن أدق التفاصيل بالشكل الذي ترغب أن يأتي عليها مأتمها. فكرت في أن توكل الأمر إلى إحدى الشركات التي تهتم بتنظيم المآتم، نوع جديد من الخدمات الذي لم تتقبله بعد، هي لا تستوعب مهنة صانعي النعوش أو سائقي سيارات دفن الموتى حتى تهضم تنظيم المآتم كمصدر للعيش الرغيد. عدلت عن الفكرة، أرعبها احتمال أن يسألها المسؤول عن التنظيم: سيدتي، متى تتوقعين موتك؟ حتى يدرجه على دفتر مواعيده!!

إقرأ أيضاً: حسن داوود 1/2: الماضي هو الذي دفعني إلى الكتابة

رواية أولى لفارس خشّان “مومس بالمذكّر… أيضاً!”‏

السابق
باسيل: سنرد على كل تناول لشخصي للـ”الوطني الحر” بدءا من اليوم بالقضاء
التالي
كتلة المستقبل استنكرت جريمة المعاملتين: حل موضوع النفايات لا بد أن يكون تشاركيا وتبادليا