تعالوا نوقف الدماء وقد وصلت إلى ركابنا كلّنا

كلما استوطن اللبناني في طائفيته او مذهبيته، ضاق مفهوم المواطنة وصار عرضة للتلاشي أكثر. ولأن المذهبية او الطائفية عاجزة عن فتح أفق انساني أو وطني أمام المجتمع والمواطنين، فما تقدمه العصبيات المذهبية ليس سوى تعميم منهج التكفير، وقمع التفكير باعتباره سمة الانسان، كما الحرية التي ميّزته عن بقية الكائنات على هذه الأرض.

التكفير في مؤداه الفكري والاجتماعي في بلادنا هو الغاء لكل مختلف في العقيدة او في الرأي، وهو في جوهره تعبير عن عجز و جهل. عجز عن مواجهة التحديات ضمن أفق انساني معني بكل البشر، وجهل بمقومات المجتمعات والدول. إذ لم يكن التنوع الديني او المذهبي او الفكري، لا سيما في بلادنا، إلاّ نتاج تراكم حضاري، اجتماعي وثقافي وديني ممتد في التاريخ والقرون الماضية.

من هنا فالتكفير في مجتمعاتنا العربية ليس ظاهرة دينية وحسب، بل هو نتاج بنية تفكير تسيطر على العقل السياسي العربي، بنية نابذة للاختلاف وادارة هذا الاختلاف تحت قواعد الديمقراطية وشروط الدولة الحديثة. وهي ناشئة من خلل منهجي تمثل في اضفاء سلطات الاستبداد القداسة الدينية على الخيارات السياسية. فكل تقديس لخيار سياسي هو تكفير لكل من يخالفه. وهذا المنهج طالما رسخته في عالمنا العربي والاسلامي سلطات عملت دوماً ﻹضفاء القداسة على سلوكها وخياراتها السياسية والاجتماعية، بغاية منع الشرعية عن أيّ معارضة لها، بتقويض حق الاختلاف وحقّ النقد والاعتراض.

التكفير في جوهره هو إلغاء للآخر في الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية. بهذا المعنى ليس نظام بشار الاسد إلاّ نظاماً تكفيريا في جوهره، انطلاقا من نزعة الغاء الآخر المتأصلة فيه. تماما كما أنّ تنظيم داعش ليس إلاّ نتيجة لهذه النزعة التي أنتجت ما يشبهها وما يغذيها. “داعش” هو الوجه الآخر لنظام الأسد، لكنه ايضا نتيجة وردة فعل. هو تكفيري لكنه لا يختلف عن النموذج الذي يقابله. قد يكون الاختلاف في الشكل لكن ليس في المضمون الذي يستند الى منهجية واحدة تدعي احتكار الحقيقة السياسية وتكفر ما عداها سياسيا واجتماعياً.

ضد الفتنة

خطر التكفير يهدد لبنان ليس لأن التنظيمات الارهابية تهدد لبنان فحسب، بل لأن منهجية مقاربة التحديات، لدى بعض اللبنانيين، هي عقلية فئوية تكفيرية. فإذا كان تنظيم داعش، او النظام السوري على سبيل المثال، لا يقران بشرعية وجود الآخر المختلف او المتمايز، ولا يقران الا بمنطق الولاء الكامل… فذلك بالضرورة يجعلنا كلبنانيين، فيما نواجه مخاطر تمدد الأزمة السورية، نؤكد بالقول والفعل على حقّنا بالاختلاف تحت سقف الدولة وضمن شروط الشراكة الوطنية. ونؤكد التزامنا بمقتضيات الدستور وتطوير نظامنا السياسي، ودوماً بشروط الديمقراطية.

وإن كان الكلام مكرّراً، لكن في الحروب المذهبية لا يوجد رابحون وخاسرون، هناك هزيمة شاملة، وسقوط للأخلاق والمنطق، والكثرة تغلب الشجاعة. الأكثر عدداً يبقون ليقولوا إنّهم الأقوى، لكنّهم سيكونون مهزومين. لكنّ الأكثر عقلا يحفظون قراهم ومدنهم ومستقبلهم وحاضرهم.

فمن انتصر في فييتنام؟ الأميركي الغازي أو صاحب الأرض؟ من انتصر في جنوب لبنان؟ الذي وضع شريطا حدودياً في بلادنا؟ أو نحن؟ من انتصر في فرنسا؟ النازيون أو المقاومة الفرنسية؟

تعالوا نوقف الدماء وقد وصلت إلى ركابنا كلّنا. تعالوا إلى أوطان المساواة، إلى بناء دولة القانون والمواطنة. إلى دولة الهوية الوطنيّة الواحدة، إلى بناء دولة الإنسان.

حان وقت اللقاء والحوار، في لحظة تاريخيّة حاسمة، ومعاً، فقط معاً، نمضي في مواجهة منطق التكفير والاستبداد. تعالوا نعالج أساس التكفير لا تداعياته. وليس باستباحة الحدود تُبنى الأوطان. وليس بإلغاء الهويّة الوطنيّة نحفظ الوطن. بالتكافل الداخلي ومبادئ الشراكة الوطنيّة، وبالمزيد من التمسّك بهويتنا الوطنيّة.. نحفظ شروط الكيان والدولة.

تعالوا نرفع صوت العقل، صوت لبنان، في ساحة رياض الصلح في الخامسة من مساء الأربعاء.

الوحدة

السابق
الجيش : طائرتا استطلاع عدوتان خرقا الاجواء اللبنانية
التالي
السفارة الأميركية في لبنان تحيي ذكرى الاستقلال الـ239