أشباه دول وأشباه جيوش

هناك ما هو أهم من الأحاديث التي يرجع بها الصحافي من هذه العاصمة أو تلك. ليس من عادة المسؤول العربي أن يبوح فعلاً بمكنونات صدره وعميق مشاعره ومخاوفه حين يعرف أن الكلام سيأخذ طريقه إلى النشر. ما هو أهم هو تلك الجمل القصيرة التي يمررها المسؤول أو السياسي بحجة مساعدة الصحافي على الفهم وبعد الاشتراط الا تنسب اليه.
أتذكر الآن جملة سمعتها في بغداد قبل سنوات. قال السياسي أن أهل المنطقة لم يستوعبوا حتى الآن الأبعاد المترتبة على سقوط نظام صدام حسين. العراق بحكم موقعه جزء من توازنات تاريخية في هذا الجزء من العالم. أنظر إلى المثلث العراقي – التركي – الإيراني. سقوط نظام صدام نزع حجراً أساسياً من جدار الأمن العربي، وبغض النظر عن الموقف من الرجل ونظامه. سقوط هذا النظام خلق معادلات جديدة وتوازنات جديدة. لم ينجح العرب في بلورة رد موحد يملأ الفراغ الذي أحدثه سقوط الضلع العراقي من المعادلة الإقليمية. بعد سقوط نظام صدام وانكفاء أميركا هناك إيران جديدة وتركيا جديدة.
جملة أخرى سمعتها في دمشق قبل هبوب التصدعات التي سميت «الربيع العربي». قال المتحدث أن أميركا استنزفت في العراق دم أبنائها وبلايين الدولارات من ثروتها، إضافة إلى صدقيتها وهيبتها. هناك حقائق جديدة في المنطقة وستضطر أميركا، عاجلاً أم آجلاً، إلى التعامل مع القوى الحية في المنطقة. من الأقدر على منع إطلاق الصواريخ من غزة على إسرائيل حركة «حماس» أم السلطة الفلسطينية؟ ومن الأقدر على منع إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان «حزب الله» أم السلطة اللبنانية؟ أميركا تعرف أن مفاتيح موقف الحركة والحزب موجودة في دمشق وطهران، وعليها بالتالي أن تأخذ ذلك في الحسبان على رغم خلافاتها مع العاصمتين.
وجملة في بيروت. قال المتحدث أن اغتيال الرئيس رفيق الحريري ليس حادثاً معزولاً عن الصراع الكبير في المنطقة. الحريري شخصية لبنانية وعربية وإسلامية ودولية ولا يمكن اتخاذ قرار اغتيالها بخفة أو بساطة. ثم إن اغتيال الحريري يعني شطب رجل معتدل يملك ترسانة من العلاقات العربية والدولية حولته عقبة أمام محاولات تغيير موقع لبنان وإدراجه في معركة المحاور وفتح حدوده في أكثر من اتجاه. اغتيال الحريري يعني دفع لبنان إلى نموذج مختلف وحروب أكبر منه.
وجملة يمنية أيضاً. زرت الزعيم اليمني الجنوبي لأساله عن علاقته بالرئيس علي عبدالله صالح الذي كان يغالب رياح «الربيع اليمني». قال أن الوحدة اليمنية قسرية وزائفة. وأن أهل الجنوب سيغتنمون أي فرصة للتخلص من «الاحتلال الشمالي».
لنرجع من الجمل القصيرة إلى واقع اليوم. الجيش العراقي يقاتل مع ميليشيات «الحشد الشعبي» لتقليص سلطة «داعش» التي تحصنت في المناطق السنّية. ومسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان يقول أن الحدود الجديدة ترسم بالدم في العراق وسورية واليمن. والجيش السوري يقاتل في جنوب البلاد مع «حزب الله» وميليشيات إيرانية لحرمان «الجيش السوري الحر» من آخر معاقله. ومرشد الجيشين العراقي والسوري هو الجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس». وفي اليمن سقوط صنعاء في أيدي الحوثيين بعد نجاحهم في تشتيت الجيش اليمني ومصادرة قراره وأسلحته. وفي لبنان تعايش بين جيشين في جمهورية مقطوعة الرأس.
إنها منطقة أخرى ولدت من أربعة مشاهد صاخبة. الأول اقتلاع تمثال صدام حسين، ثم إعدامه. الثاني اغتيال رفيق الحريري ومنع إلغاء مفاعيل الاغتيال. الثالث فصول «الربيع العربي» ودروس الحلقة السورية منه. والرابع إطلالة أبو بكر البغدادي من الموصل معلناً قيام «دولة الخلافة»، وإلغاء السدود والحدود. وحصيلة المشاهد الأربعة أشباه دول وأشباه جيوش. طائرة أميركية في الفضاء وجنرال إيراني على الأرض.
(الحياة)

السابق
الحريري باقٍ في بيروت حتى منتصف الاسبوع القادم
التالي
الاعلامي عرفات حجازي في ذمة الله اثر نوبة قلبية