في الحنين إلى «الاحتلال» اللطيف و«الاستعمار» الرومانسي

الاستقلال
في لبنان الحنين إلى الانتداب حقيقيّ. كلام الرئيس برّي تعبير عن "قبول شعبيّ" بهذا المنطق. وهناك حنين عارم إلى "الخلافة الإسلامية". إذ يحنّ اللبنانيون إلى "الاحتلال التركي اللطيف" و"الاستعمار الفرنسي الرومانسي". ويعتبر كثيرون أنّ لفرنسا يد طويلة في بناء مؤسسات حكومية ما زال الكيان اللبناني يقوم على أكتافها إلى اليوم. ولولاها لكان لبنان يشه ليبيا اليوم، على سبيل المثال لا الحصر.

قبل مطلع القرن العشرين كان العرب “ينعمون” بالخلافة الإسلامية، تحت عنوان السلطنة العثمانية، أو العكس. كان الاحتلال التركي للدول العربية، ومنها لبنان، “لطيفاً” إلى حدّ ما. فقط حين “هجم” الكوكب على العثمانيين طلبوا في “سفر برلك” أن يتجنّد بعض العرب للدفاع عن “الإمبراطورية”. لكنّهم كانوا أعطوا اللبنانيين حكماً ذاتياً في جبل لبنان وبيروت زمناً طويلاً.

بعد اندحار الأتراك جاء الانتداب الفرنسي، أي الاستعمار، إذا صحّ التعبير. كان الدخول الفرنسي “هادئاً”. ثم بعد تحرّكات لبنانية وسورية وفلسطينية، وبهدوء أكبر من هدوء الرئيس التونسي زين العابدين بن علي يوم ركب الطائرة وعبّها وقودا وذهباً وهرب من الثورة التونسية… “لملم” الفرنسيون حقائبهم، بعدما ضمنوا مصالحهم ومصالح الأقليات المرتبطة بهم، وأبرزهم الموارنة، والمسيحيين عموما، وغادروا لبنان.

كان حراك “رجال الاستقلال” في لبنان، بين بيروت وقلعة راشيا، جزءًا من حراك عربي أوسع، ولم يكن بلا وزن كما يحاول بعض اللبنانيين “الاستهزاء” منه. لكنّه كان تعبيراً عن رغبة النخب العربي في الاستقلال، ورغبة فرنسا، وأوروبا “الحرّة” من ورائها، في العودة إلى حدودها لاستئناف النضال ضدّ الألمان في الحرب العالمية الثانية.

كان الانتداب الفرنسي لطيفاً ومحبّباً. ونجد اليوم رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه برّي، أحد قطبي الشيعية السياسية، وممثّل “الممانعة” الأعلى في الدولة اللبنانية، يترحّم على الانتداب الفرنسي ويقول إنّ الفرنسيين “بكّروا” في إعطائنا استقلالنا.

بالطبع لا نجد زعيما فيتناميا، من أشاوس “الممانعة” الفيتنامية ضدّ الولايات المتحدة الأميركية، قد يقول الأمر نفسه. فالانتداب الفرنسي كان “طيّوباً” قياساً إلى الاستعمار الأميركي في النصف الثاني من القرن الماضي.

وقد لا نجد ممثلا حقيقياً للشعب الكوبي يتمنّى الاحتلال الأميركي لبلاده. ولا فلسطينياً قد يقول بعد 100 عام: “ليت الاحتلال الإسرائيلي يعود”. ولن نجد زعيماً يابانياً يتمنّى الاحتلال الأميركي أو الصيني مثلاً.

لكن في لبنان الحنين إلى الانتداب حقيقيّ. كلام الرئيس برّي تعبير عن “قبول شعبيّ” بهذا المنطق. وهناك حنين عارم إلى “الخلافة الإسلامية”. إذ يحنّ اللبنانيون إلى “الاحتلال اللطيف” و”الاستعمار الرومانسي”. ويعتبر كثيرون منهم أنّ لفرنسا يد طويلة في بناء مؤسسات حكومية ما زال الكيان اللبناني يقوم على أكتافها إلى اليوم. ولولاها لكان لبنان يشه ليبيا اليوم، على سبيل المثال لا الحصر.

لكن لا أحد يحنّ إلى “الاحتلال الإسرائيلي” ولا إلى “الوصاية السورية”، بما هي أقرب إلى الانتداب الذي لم يفهم لا برجال استقلال ولا بحراك شعبيّ ضدّه، بل أخرجه الحراك الدولي الذي دعم الحراك الشعبي ذات آذار 2005.

في القرن الـ19 وفي النصف الأوّل من القرن العشرين، قبل “توحّش” راعي البقر الأميركي، وقبل إنشاء “الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي”، كان الاحتلال لطيفاً والانتداب لائقاً، حتّى أنّ ثلّة من البرجوازيين، سليلي العائلات الإقطاعية اللبنانية، أقنعته بالخروج من لبنان.

وهكذا صار لنا ما نعرفه بـ”الاستقلال”، الذي لا يزيد عن كونه تقاطع مصادفات وظروف تاريخية وجغرافية وسياسية واقتصادية، أقنعت الفرنسيين بأنّ بقاءهم في لبنان ليس أكثر فائدة من انسحابهم منه.

السابق
فاروق مردم بك: الصراع في سوريا مديد والاستبداد حاضنة الجهاديين
التالي
امرأة شابة تقود حزباً سياسياً عربياً؟