بيئتنا بين الجمال العتيق والتشويه العميق

كانت الأرض تجمعنا… كنا نضطر لأن نعجل في زراعة شتلات التبغ الناضجة، التي إذا بقيت طويلاً في المشتل تفقد كثيراً من لياقاتها ومؤهلاتها، وهذا يعني أحد أمرين: ان تُستنفر العائلة كلها للعمل لمدة أسبوع مثلاً، وتكون الوالدة مجبرة على إهمال الغسيل وتنظيف المنزل ورتق الثياب، والاقتصار من الطبخ على السريع، والبرغل هو المنقذ من الضلال، ويبقى الخبز الذي هو طقس معقد قليلاً على جماله… نقترض خبزاً من الجيران. يعني نكون مجبرين أن نصالحهم كما يكونون مجبرين أن يصالحونا، إذا كنا قد تخاصمنا على دجاجة صايعة أو ذكر حمام لا يتقيد بقوانين نظافة بيوت الجيران. فيذرق على هواه. والاحتمال الدائم لتجدد حاجة كل منا الى الآخر، كان يمنع بعض الخصومات ويحل الأخرى.

ومع الخبز ربما كانت هناك حاجة لبعض أدوات العمل التي لا نقتنيها وهي متوفرة لديهم، أو العكس عندما يكون الدور دورهم، اي الجيران، والجيرة تبدأ من منزلك حتى أربعين منزلاً، في كل الجهات. كان أهل القرية كلهم جيرة لنا، أي نجيرهم ويجيروننا، في العمل والمرض والحزن والفرح، والحرب والسلام، والزرع والحصاد. وكان يحدث أن شتلات بعض منا تنضج وتلح، والمساحة التي عليه أن يزرعها كبيرة، وأفراد أسرته قلة، لا يكفون مؤونة للزراعة المستعجلة، وبسهولة يتفق مع جاره أن يؤجل زراعة حقله أياماً، لأن شتلاته تستطيع الصبر. ويتفرغ لمساعدته مع عائلته على الخلاص من الحرج والخوف على الموسم. على أن يعود الذي استقرض العمل من جاره الى الوفاء بالدين بعد إنجاز عمله بالشراكة… تماماً كما تعود الوالدة الى الوفاء بدينها في ما اقترضته من الخبز أو الملح أو الشاي… وقد تأبى الجارة ذلك وتقول: خير الله كتير، وأرضنا هذه السنة لم تبخل.
لم تعد الأرض وسيلة إنتاجنا (هذا تعبير اقتصادي بلا روح) فماذا حصل؟ في قريتنا الآن. بالإضافة الى تداعيات السياسة والعصبية، هناك غياب للأرض، أي للجامع الذي يؤذن فيه للحب والصلاة جماعة، كل حجر أو شعاع شمس أو سحابة ماطرة، أو قوس قزح، أو بدايات البرد أو تباشير الدفء والورد والخير. وكل كمشة تراب وثغاء حمل وهديل حمام وغناء قبرة ونعيب أو زعيق بومة تحذيراً من خطر أفعى… وكل عرس وكل مأتم وكل عيد. وكل شيء. غياب للأرض، من دون أن يحلّ محلها شيء. فلا مصطبة في القرية ولا دبكة والحزن صناعي كأنه (همبرغر أو فيلادلفيا) ولا شعر بالعامية أو الفصحى، ولا ذكريات، بل سؤال عن المتفجرات الآتيات وغيرها!..
يندر الآن ان يتناول الجيران طعامهم معاً، ولو كل من صحنه، إذ لا صحن يجمعنا، والصحن في العربية هو وسط الدار، او الساحة، ونحن الآن لا دار ولا ساحة وتكاد غرف منازلنا، على كثرتها تصبح غرف نوم أو سبات أو غربة أو غيبة عن الآخر، أي عن الذات… حيث لا يكفي لا القرآن ولا الانجيل ولا السبحة ولا الصلاة ولا الأنبياء والأئمة الذين أرادونا كما خلقنا الله. نتقدم من دون قطيعة مع شروطنا البيئية والإنسانية.
أتذكر أن منزلنا كان غرفة واحدة، واسعة سعة قلوبنا، وذات وظائف متعددة، فهي غرفة طعام وسهرة ونوم وفي الصباح ترفع الفرش والألحفة، في محملها الطيني الذي يتحول بالشرشف الشامي الذي يغطيه الى لوحة… سلاماً يا أرضنا… وتزدهر الحكايا والخرافات إذ لا مادة للاجتماع والسهر والسمر والأنس والمتعة غيرها. اما الآن فإني أضطر الى اللجوء الى مكتبتي، والى القمر والنجوم للسهر معها وحدي، لأن الأولاد والأحفاد غارقون في «التويتر» و«اليوتيوب» و«الفيسبوك» وغيرها مما لا أتقن لفظ اسمه. ولا اعتراض، فهذا عصرهم وهذه ثقافتهم… هم ذهبوا اليها هرباً من المشهد الذي صنعناه لهم. بصرف النظر عن فوائدها وأضرارها… فاين نذهب؟
إنسان أو بشر معاد للبيئة، لا يسمع كلام الأرض وأهلها من شجر وطير وشوك وورد وتراب وحجر. إنسان معاد لأشواق روحه وفضاءات بدنه. وتدبير الخالق وترتيبه (الله) الجميل الذي يحب الجمال، ولا أكفر أحداً، ولكني كافر بهذا المشهد المريع، الذي يغير الفصول ويقوض الأصول ويزعزع الجذور، ويهتك أسراراً تفقد معناها عندما تتحول الى عمائر تناطح السماء، وتذكر ببرجي «مانهاتن»، اللذين أقامهما العلم شاهقين، وبالعلم الجاهل، سواهما بالأرض… وبقيت الأرض أرضاً جعلت للمؤمنين والأنبياء مسجداً وطهوراً أي طاهرة مطهرة كما في مأثورنا النبوي.
ومن ذاكرتي البيئية، أني كنت في طفولتي مستاء جداً من أحد أقاربي، لأنه اقتلع أمام عيني، بواسطة جرّار زراعي عدداً من شجرات الزيتون متوسطة العمر المتغاوية بخضرتها وفتلاتها، ليزرع مكانها تبغاً، والتبغ ليس صديقاً للظلال وأناني ومرّ.. ثم أحببت قريباً آخر حتى الشغف قبل سنوات، لأنه عندما بلغه بالهاتف في مهجره أن العدوان الاسرائيلي ادى الى هدم منزله، كانت ردة فعله سؤاله السريع وبلهفة: والحورة ماذا جرى لها؟
ومعلوم أن الحور غير مثمر ولكنه يلعب بأناقة مع الهواء، ينقيه ويموسقه… وعندما عاد وقف مكان الحورة المقصوفة ونظر الى أعلى، كأنه يريد أن يرى كم ارتفعت قامتها في فترة غيابه. وجرحني حزن فلاحي العراق على الإبادة التي تعرضت لها بساتين نخيلهم في حربي الخليج، الأولى والثانية، على يد النظام وخصومه، من اقتلاع أو تكليخ ولا أدري بعد هدم سوريا العمران والشواهد والذكريات الحضارية إن كانت غاباتها وبساتين الغوطة ونواعير حمص قد سلمت؟ لعلها تساعد أرواحهم المهدومة مستقبلاً على العودة الهانئة ولا أدري كيف؟ الى أجسادهم المتشظية!
وأختم بهذه (الحدوتة) البيئية:
أواخر السبعينيات كان قسم من جنوب لبنان تحت سيطرة «جيش لبنان الجنوبي» الذي أسسه الرائد المنشق من الجيش اللبناني بالتنسيق مع «الموساد» والجيش الاسرائيليين (سعد حداد) وبعد موته قاده الجنرال المنشق من الجيش اللبناني (انطوان لحد) وانتهى بالتحرير وانسحاب اسرائيل العام 2000. ومن ضمن المنطقة التي كان يسيطر عليها هذا الجيش سهل مرجعيون والخيام، وكان مزارعو بلدة الخيام وجوارها يستثمرون هذا السهل الخصب، وفي إحدى السنوات اجتاحت الأفاعي السهل فأرعبت المزارعين وأعاقت عملهم، فشكوا أمرهم الى سعد حداد الذي كلف سرية من جيشه للقضاء على الأفاعي في أوكارها وأماكن تكاثرها، فارتاح المزارعون بسبب الأمان الذي تعزز، ولكنهم عادوا في الموسم التالي صيفاً يشكون من ارتال هائلة من الفئران والجرذان التي استباحت مزروعاتهم وفتكت بها. وفهم الجميع أنه لا بد من التوازن بين الكائنات الحية الضارة النافعة وبين النبات والانسان، فتوقفوا عن أي شكوى أو إجراء انتظاراً لعودة الأفاعي لتتولى حماية الحقول من الفئران، أو الإقلال من اضرارها أو من طغيانها، على أن يحتاطوا لسلامتهم من خطر الأفاعي التي قلّ عددها ولكنها تعرف كيف تتكاثر وتستعيد عديدها اللازم للتوازن المطلوب.

السابق
’آبل’ ترغمك على عدم كتابة الرسائل اثناء القيادة
التالي
إيليا بربور آخر مصنّعي المراكب الخشبية في صور