نجيب ميقاتي الرئيس المكلّف يؤمن بالسياسة في خدمة الاقتصاد

 لا يكفي الرئيس المكلف تشكيل الحكومة نجيب ميقاتي التحصن بالصمت والإمساك عن الكلام المباح، لتبرير الأسباب الكامنة وراء عجزه عن تشكيل حكومته، والتي يرى البعض أنه كلما طال التأخير انعكس سلباً على موقع الرئيس المكلف وعلى الصورة التي حرص لأعوام من العمل السياسي والعام على بنائها، على قاعدة الصبر والاعتدال والوسطية، فيما هو يؤمن بأن التأخير لا يضعفه، وليس إلا وقتاً يحصن حكومته ويعزز توجهه نحو تشكيلة ترضي اللبنانيين.

طرح الرجل نفسه، بترشحه لرئاسة الحكومة، حلاً وسطاً في مرحلة دقيقة وحساسة من المواجهة السياسية الحادة بين فريقين سياسيين، يتصارعان على معركة وجودية بالنسبة الى كليهما، منطلقاً في وسطيته من تجربته العملية الناجحة التي قادته في المرة الأولى الى السرايا الحكومية، في ظروف بدت آنذاك أقسى وأصعب من الوضع الراهن، ومتحصناً بهذه التجربة التي وضعته على لائحة التحالف مع قوى الرابع عشر من آذار في انتخابات 2009، وأوصلته الى قبول الفريق الآخر به رئيساً للحكومة، في مسعى لأن ينزع ترؤسه لها صبغة اللون الواحد عنها.
والرجل، للمفارقة، تبوأ سدة الرئاسة الثالثة مرتين: الأولى بعد الاغتيال الجسدي للرئيس رفيق الحريري العام 2005، على أثر استقالة حكومة الرئيس عمر كرامي، والثانية بعد الاغتيال السياسي للرئيس سعد الحريري، الذي تمثل بإسقاط حكومته واخراجه من السلطة، تمهيداً لاخراجه من الحياة السياسية كلياً والانهاء الكلي لما عرف بـ"الحريرية السياسية".
لكن حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر: فالاقتناعات الوسطية لميقاتي قوبلت بالرفض من غير جهة. فلا الفريق الآذاري تقبل خروجه عن التحالف والانتقال الى الضفة الاخرى، خصوصا بعدما تبدى انه زان وجوده في 14 آذار بالصوت وليس بالثقل السياسي، اذ اعتبر ان صوته لن يكون وازنا لحفظ الاكثرية اكثريتها، ولا الاكثرية الجديدة ثمنت "تضحيته" فسهلت مسار تشكيل حكومته، اقله في الشكل، فترافقت العوامل الخارجية المؤثرة مع عقد داخلية وضعها الحلفاء الجدد على الجبهتين المسيحية والسنية تحت مرأى وقبول الحليف الشيعي.
وثمة من يقول في الاوساط السياسية انه لو اندلعت ثورة مصر قبل اسقاط الحكومة، لما كان استقال وزراء قوى 8 آذار، وثمة بين القيمين على ذلك القرار من "يلعن" تلك الساعة التي حالت دون استكمال المعارضة السابقة "انتصارها الانقلابي الدستوري".

التعامل العربي غير المشجع
اما التعامل العربي والدولي مع تكليف ميقاتي فلم يكن مسهلا ومشجعا، اذ ان اي لقاء ديبلوماسي مرحب وداعم لم يخل من شروط على الرئيس المكلف اقل ما يقال فيها في الفريق الاكثري بأنها تعجيزية: الحكومة الجامعة كل الاطياف اللبنانية والتمسك بالتزامات لبنان حيال القرارات الدولية، ولا سيما تلك المتعلقة منها بالمحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري. وللمفارقة ان هذين الشرطين هما اللذان اطاحا حكومة سعد الحريري، فكيف يمكن ميقاتي، مهما اشتدت عزيمته وزادت حكمته وسعة درايته وقدراته الاحتوائية، ان ينجح في تحقيق ذلك امام المشهد الداخلي المتأزم، معطوفا على مشهد اقليمي متغير اساءت الاكثرية الجديدة قراءته، فلا سقوط تفاهم السين سين اخرج المملكة العربية السعودية من لبنان ومن دورها الاقليمي الراعي له، ولا الرهان على غضب المملكة وعدم استقبال ملكها سعد الحريري نجح، علما ان اللقاء حصل مرتين وانما بعيدا من عدسات المصورين، ولا الاشارة السعودية بالتمني على النائبين نعمة طعمة ومحمد الصفدي بتسمية الحريري رئيسا للحكومة تم تلقفها في حينها، ولا سقوط نظام حسني مبارك ادى المفاعيل المنتظرة على "حلفاء" الداخل والمراهنين على هذا المحور. في حين ان نار الثورة في دمشق جعلت اولوياتها الداخلية تتقدم اي اولوية اخرى، ومنها قيام حكومة لبنانية، من دون ان يعني ذلك ان الساحة خلت للحليف الاقليمي الآخر.
وامام كل هذه البانوراما من الغليان المحلي والاقليمي يتابع الرئيس المكلف حركة مشاوراته واتصالاته، محاولا تدوير الزوايا والتقريب قدر الامكان ما بين المطالب الوزارية المتناقضة، مطمئنا في الوقت عينه الى ان حركة اتصالاته الداخلية والعربية، ولاسيما مع سوريا، لن تخذله، ولن تسهل امرار اي صفقة على حسابه. وهو، خلافا للمراهنين على طول باعه، يترقب بهدوء وترو حلول ساعة الصفر للانتقال من مقره في فردان الى السرايا الحكومية حيث يأمل أن ينجح في العمل مع فريق متجانس لانجاز ما يمكن من ملفات عالقة وشائكة.

نجيب ميقاتي: من هو؟
لم يلمع اسم نجيب ميقاتي، رجل الاعمال اللبناني، في الوسط السياسي الا العام 2005، على أثر تكليفه رئاسة حكومة انتقالية ذات مهمة محددة تختصر باجراء الانتخابات النيابية، رغم أنه كان بدأ العمل السياسي من بوابة الوزارة حين تولى حقيبة وزارة الاشغال في أول حكومة في عهد الرئيس اميل لحود العام 1998.
والواقع ان توليه حقيبة وزارية لم يكن مفاجئا لوسطه او لوسط الاعمال الذي عبر من خلاله ومن عالم المال والاعمال الى عالم السياسة. ولمَ لا وقد كانت تجربة الرئيس الراحل رفيق الحريري بهكذا عبور من اكثر التجارب نجاحا. والمعلوم ان لميقاتي الكثير من القواسم التي تجمعه بتجربة الحريري الاب، وكل متابع للحياة العامة لميقاتي لا يمكن ان يغفل النجاح الذي حققه في مجال الاعمال، اذ صنف في صدارة اثرياء لبنان وانضم مع شقيقه طه الى نادي أثرياء العالم. وفي موازاة ذلك نجح في خلق شبكة علاقات عربية ودولية أدت الى جعله عضوا بارزا في نادي رؤساء الحكومات، رغم تجربته القصيرة جدا وانما الناجحة والفاعلة في الحكم. فهو حول السرايا على مدى التسعين يوما التي شغلها فيها خلية عمل انتجت مجموعة من القرارات والمراسيم، كما عمل على وضع ميثاق بيروت الذي تضمن رؤية للنهوض الاقتصادي والاجتماعي لا شك في انها ستشكل نواة برنامج العمل للرئيس المكلف في المرحلة المقبلة. ولعل أكثر ما يلفت في شخصية ميقاتي تواضعه وبعده عن المظاهر، فهو الى الصلابة التي يبديها، مرهف الاحساس الى حد الخجل. وحرصه على الابتعاد عن الاضواء غالبا ما يرهق فريقه الاعلامي. فاطلالاته سياسية بامتياز، اما حياته الخاصة والعائلية فهي، وبقرار مشترك مع زوجته مي من جهة وشقيقه طه من جهة أخرى، تحافظ على خصوصيتها.
ويثمن أصدقاء الرئيس المكلف هذه العلاقة الخاصة التي تجمع ميقاتي بأخيه طه، وهم ينقلون عنه وصفه له بأنه الصخرة التي يتكئ عليها. هذا الوصف الذي يدع بعض "الغيارى" الى التساؤل لماذا الاخ الاصغر في واجهة الحياة العامة، في حين ان الشقيق الاكبر هو المهندس الحقيقي والمحرك الخفي للأمور؟!
لا يمكن إيجاد الجواب الا لدى الحلقة الاقرب التي تسرع الى القول ان هذا الامر لم يأت صدفة، بل هو نابع من خيار مشترك كان لطه اليد الطولى في الدفع باتجاهه، وهو ينم عن عمق العلاقة الاخوية التي تنعكس على كل العائلة. ويقول المقربون من العائلة إن طه هو الذي ساهم في دفع شقيقه الى البروز في العمل العام، في حين يؤثر هو البقاء خلف الستار. وفي هذا الموضوع يسر ميقاتي لأصدقائه عن معادلة "ذهبية" يتشارك بها مع شقيقه طه، وهي أن الكبير يعتني بالصغير والصغير يحترم الكبير، وهي معادلة لا تزال قائمة حتى اليوم بين الشقيقين.
هذا التقارب سمح في المجال المهني ايضا بتوزع مسؤوليات العمل وادارة الثروة، وانضمام ابن طه، عزمي، الذي يتولى ادارة مجموعة "ام 1" الى الحلقة الضيقة. ويسعى ميقاتي الى المحافظة على خصوصية حياته العائلية والخاصة، بحيث يحيط نفسه بجدار عال لا تخرقه الا حلقة ضيقة من الاصدقاء لا تتجاوز أصابع اليد. فلميقاتي مفهوم خاص للصداقة يميز بينه وبين العلاقات الاجتماعية وعلاقات العمل. أما في السياسة فهو يسعى لأن يكون على مسافة واحدة من القوى، خصوصا في مرحلة دقيقة كالتي يمر بها اليوم من خلال مسار تأليف الحكومة.
بدأ التحول في حياة ميقاتي عند انتخابه عضوا في غرفة التجارة والصناعة في بيروت وجبل لبنان على لائحة رئيس الغرفة عدنان القصار. وقد ترك حضور ميقاتي الشاب وديناميته بصماته على انتخابات الغرفة، التي تولى رئاسة اللجنة الاقتصادية فيها والتي دفعته للانصراف الى درس الملفات الاقتصادية وابداء الرأي فيها. والعام 1998 انتخب ميقاتي للمرة الثانية لعضوية مجلس ادارة الغرفة ونال اكبر عدد من الاصوات بعد القصار.
ليبرالي في تفكيره، يؤمن بالانفتاح، التزامه الديني يصفه بالمتدين وليس بالمتعصب، يتمتع بأعصاب فولاذية وقدرة احتوائية، يصف نفسه بالاسفنج. يسامح من دون ان يكون في قاموسه في العمل السياسي حقد.
هل هذا ينطبق على العلاقة مع الرئيس سعد الحريري؟ يجيب "اسامحه على معاملته لي وآمل ان يستدرك مستقبلا ان تلك المعاملة لم تكن لتليق بموقعه ولا انا استحقها".

مفهومه للدولة
رؤيته الى مفهوم الدولة تنطلق من رفضه الصراع القائم ما بين المصلحة والانتماء، عندما يكون الانتماء الى الطائفة اكبر منه الى الوطن. ويرى ان وثيقة الطائف وضعت لتحمي مفهوم الدولة، وان كان ينظر اليها على انها نتاج تسوية ما بين الغبن والخوف. ويسأل: بعد عقود على الطائف الا يزال الامر قائما؟ داعيا الى ازالة الاثنين معا للانتقال الى قبول الآخر وتفهمه على انه الشريك الحقيقي في الوطن وانه اهم من اي آخر آت من الخارج. يشرح وسطيته بمجموعة مفردات معبرة بالنسبة اليه: مشاركة، مساءلة، تعددية وشفافية.
اما نظرته الى الاقتصاد، وهو الآتي الى السياسة من عالم المال والاعمال، فتنطلق ايضا من مفهومه للدولة. يقول: "لا وطن من دون ارض ولا ارض من دون شعب ولا شعب من دون كيان ولا كيان من دون سيادة ولا سيادة من دون اتحاد ولا اتحاد من دون تفاهم، ليخلص الى ان لا تفاهم من دون ثقة والسياسة، في هذه الحال، يجب ان تكون في خدمة الاقتصاد وليس العكس. وهذا ما يفرق السياسي عن رجل الدولة.
يملك ميقاتي رؤية اقتصادية عبر عنها في خطته للنهوض "الطريق الى ميثاق بيروت" تقوم على مجتمع انتاجي في الدرجة الاولى.
ويختم حديثه بقول يؤمن به ويعمل وفقه: "لا تكن قاسيا فتكسر ولا لينا فتعصر". 

السابق
مرض الـ «ميليديو» يصيب أوراق التبغ جنوباً
التالي
حزب الله ينفي تورطه او سقوط شهداء له في سوريا