المستقبل: ضبط الحركة في الجنوب قرار وطني وحكيم

قرار الجيش اللبناني بضبط الإنتقال الى منطقة جنوب الليطاني، قرار وطني وحكيم. هذا القرار ليس ضد ذكرى الخامس من حزيران، ولا ضد فلسطين ولا ضد عودة الفلسطينيين إلى أرضهم. اللبنانيون الأكثر حماسة لهذه العودة، لأن لهم مصلحة وطنية بها قبل أن تكون قومية وإنسانية. العودة تسقط نهائيا "فزاعة" التوطين وكل المتاجرين بها نهائيا. أيضا إلتزام حركتي"فتح" و"حماس" بالتنسيق مع الجيش اللبناني يدل على واقعية سياسية من جهة، وحجم التأثير والتحول الكبير والعميق الذي أحدثته عودة مصر من جهة أخرى، إلى دورها الفاعل والإيجابي والمؤثر في الساحة الفلسطينية، بديلا عن آخرين يختصر دورهم في ارتهان مفاعيل كل التحركات والتطورات لمقايضتها بكل شيء إلا مصلحة الفلسطينيين. الموقفان اللبناني والفلسطيني متكاملان. الخطر الكامن في استثمار حدث ذكرى "نكسة" الخامس من حزيران لإشعال نار لحجب نيران أخرى حساسة، هو الذي ولّد عملية الإبتعاد من الحدود. من يريد فتح حدوده بالمناسبات ليؤكد أهمية ومخاطر موقعه في الحسابات الإقليمية لتحقيق مكاسب له ولنظامه يستطيع أن يقوم بذلك "ولن يمسك أحد يده".

ضبط الحدود اللبنانية والحد من المسيرات الشعبية "المنظمة جدا" على الحدود اللبنانية لا يلغيان مطلقا ولا حتى يحجبان مركزية القضية الفلسطينية من التطورات في المنطقة. صحيح ان الثورات العربية لم تنفجر في تونس ومصر واليمن وغيرها من الدول العربية بسبب قضية فلسطين ومواقف حكوماتها منها، وإنما طلباً من المواطن العربي لحريته وكرامته، لكن بلا شك فإن نتائج هذه الثورات وتبلورها مستقبلا في أنظمة غير دكتاتورية متوازنة في تعاملها الديموقراطي مع شعوبها يصب حكما في مصلحة القضية الفلسطينية، لأن مسارات كل العقود الماضية اكدت ان صناعة المواطن العربي الحرّ هي المدخل الطبيعي والشرعي للتقدم على طريق تحرير فلسطين. العالم كله يدرك اكثر من اي وقت مضى ان حلّ كل القضايا المشتعلة في العالم وبقاء قضية فلسطين بلا حلّ والشعب الفلسطيني بلا دولة سيبقي العالم كله يتقلب فوق نار البركان الفلسطيني.

الرئيس باراك اوباما هو، باعتراف الجميع، الرئيس الاميركي الاكثر التزاما بصناعة السلام.. منذ انتخابه حتى الآن "كسر اوباما اسنانه على صخرة فشل حل القضية الفلسطينية" لكن كما يبدو لم ييأس بانتظار الفوز بولاية ثانية ليكمل ما بدأه، لكن حتى ذلك التاريخ ترك اوباما "نافذة مفتوحة" على الحلّ من خلال إقراره بأن حدود 1967 يجب ان تكون هي حدود الدولة الفلسطينية. رغم التعديلات اللاحقة فإنها تبقى قائمة .

آلان جوبيه وزير الخارجية الفرنسي، الذي عاش فترة اتفاق "أوسلو" عام 1993 وهو في الموقع نفسه، يعرف اكثر من غيره ان بقاء الطريق مسدودا امام حل القضية الفلسطينية يهدد منطقة الشرق الاوسط كلها بالاخطار، خصوصا وأن لهذه القضية موعدا معلنا في أيلول القادم امام منظمة الامم المتحدة. جوبيه مثله مثل اوباما يدرك ان عدم العثور على مفتاح للباب الموصد امام الحلّ سيؤدي الى مواجهة حقيقية امام الامم المتحدة لأن الفلسطينيين الذين يئسوا من التطرف الاسرائيلي والشلل الدولي، سيتقدمون بطلب للاعتراف بدولة فلسطينية حدودها حدود عام 1967. العالم كله وخصوصا الولايات المتحدة الاميركية سيجد نفسه امام خيارين احلاهما مرّ. القبول بالاعتراف بدولة فلسطينية محرج لبعضها، وعدم الاعتراف يشجع الفلسطينيين على العودة الى التطرف.

وزير الخارجية الفرنسي جوبيه عاد بعد 18 سنة الى المنطقة. الهدف من زيارته للسلطة الفلسطينية ولاسرائيل التحضير لعقد مؤتمر سلام دولي في مطلع تموز القادم لتقديم مبادرة مبنية على خطاب اوباما الاخير، اي دولة فلسطينية بحدود العام 1967 مع تعديلات معينة من الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي عليها. على ان تترك قضيتا اللاجئين الفلسطينيين والقدس لمفاوضات لاحقة بعد سنة من الاتفاق، حتى لا يقتل التأجيل الاتفاق.

الفشل يبدو متوقعا أكثر من النجاح، لذلك قال جوبيه: "اذا لم يحصل شيء حتى ايلول فإن فرنسا ستتحمل مسؤولياتها". تفسير هذا الكلام التهديدي ان فرنسا ستعترف في الامم المتحدة بالدولة الفلسطينية المقترحة. اليأس الفرنسي المسبق كما يبدو من الحلَّ هو "ثمرة" التطرف الاسرائيلي، الذي أقفل الابواب امام كل الحلول خصوصا في خطاب بنيامين نتنياهو الاخير امام الكونغرس الاميركي وتصفيق النواب الاميركيين له وكأنهم في مجلس نيابي من العالم الثالث يصفقون للرئيس الى الابد.

هيلاري كلنتون وزيرة الخارجية الاميركية، التي توصف في اسرائيل بأنها من "صقور" الادارة الاميركية، رفضت كما يبدو لقاء افغدور ليبرمان وزير الخارجية الاسرائيلي في باريس أثناء مؤتمر "منظمة التعاون الاقتصادي والدولي" بحجة ارتباطها بمواعيد اخرى. واقعياً كلنتون تعبت كما غيرها من التطرف الاسرائيلي. اليمين الاسرائيلي تطرف واجتاح المجتمع الإسرائيلي واستأسد حتى على واشنطن لأن العالم ضعيف امام اسرائيل، ولأن العرب والفلسطينيين اضعف واكثر تشتتا من اي وقت مضى.
يبدو ان المجتمع الدولي يرغب بحصول تغيير في اسرائيل على المدى المتوسط على ان يأتي التغيير من داخلها، انطلاقا من أن ارتدادات الثورات العربية مستقبلا لن تكون في صالحها. ربما هذه المشاعر المستجدة حول ما يحصل في العالم العربي بدأت تحدث آثارها في داخل اسرائيل، مقابل "لا لحدود 1967" يتشكل حاليا تيار وربما لاحقا حزب سياسي يقول" نعم لحدود 1967".

الحلّ ليس غدا. تشكل النظام العربي الجديد الخارج من الثورات العربية ليس غدا، لذلك كله من الخير للبنان واللبنانيين وللفلسطينيين المقيمين فيه، ان لا ينزلقوا نحو مغامرات غير محسوبة النتائج حتى ذلك اليوم الموعود بالعودة. الافضل التحصن خلف "متراس" التفاهم والتوافق والتضامن والتعامل مع كل الرياح الساخنة، التي تهب او التي يمكن ان تهب علينا بكثير من البرودة والعقلانية والواقعية السياسية، حتى لا يستثمر أي انزلاقة غير محسوبة، في كل شيء، إلا في القضية الفلسطينية والمصلحة اللبنانية.

السابق
ولادة حكومية وشيكة أم “رصاص خلّبي”؟
التالي
دماء مجانية