البيئة السنّية “تقاوم” حروب الإرهاب

بخجل كان البعض في المدن والقرى والمناطق ذات الأغلبية السنية، التي استضافت آلاف النازحين الجنوبيين أثناء عدوان العام 2006، يتحدث عن الشعارات الاستفزازية التي كُتبت من قبل أشخاص مؤيدين لـ”حزب الله” في حمامات المدارس التي تواجد فيها المهجرون والتي طالت رموزاً دينية. حينها تكوّن شعور عميق من الاستياء، بعد أن كان يوم 8 آذار 2005 الذي أراد فيه حلفاء النظام السوري الدفاع عنه تجاه جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ورفض المطالبة اللبنانية الواسعة برحيل الجيش السوري من لبنان قد حفر في القلوب غصة، وتم تجاوزها من خلال الحلف الرباعي في الانتخابات النيابية اللاحقة في محاولة لمد اليد ومنع إيقاع لبنان في فخ الصراع الأهلي من جديد، الى أن جاء يوم 7 أيار في العام 2008 ليتبين أن لـ”حزب الله” مشروعاً غير مشروع مقاومة إسرائيل الذي خزّن من أجله السلاح ودعم “جيشاً” محلياً مذهبياً من فتيان الشيعة أقوى من الجميع، وأنه لا يريد أي شراكة من قبل اللبنانيين معه إلا وفق مصالحه ومزاجه وأجندته الإيرانية، إنه مشروع ولاية الفقيه وإن اتخذ مسميات أخرى، “مقاومة”، “ممانعة” أو “حماية المقدسات” أو “الدفاع عن القرى الشيعية”.
لاحقاً عمد “حزب الله” الى الانقلاب على حكومة الوحدة الوطنية التي ألّفها الرئيس سعد الحريري في العام 2009، ما أجج مشاعر الرفض في البيئة السنية لهذا “الغدر”، خصوصاً مع انفضاح صورة هذا الحزب وممارساته في حماية المجرمين، واعتماد سياسة الاستعلاء والقداسة والقمصان السود، حتى وصلت الأمور الى ما وصلت اليه، حيث حملته إيران الى سوريا لمقاتلة الشعب السوري دفاعاً عن نظام بشار الأسد وللوقوف بوجه ثورة الشعب ضد ديكتاتور قاتل ونظام مافيوي يعتاش من بيع مجموعات الإرهاب في الدول المحيطة.
كانت أصوات الاعتراض السنية خافتة أمام سياسة الاعتدال والعقل التي كان يمثلها الرئيس سعد الحريري، وكان لبنان محمياً، وأرضه ليست أرض جهاد بالنسبة للمجموعات الجهادية (“القاعدة” وخلافه). لكن مع تزايد سياسة الاستكبار على اللبنانيين جميعاً، وفتح الحزب ساحات لبنان على جهنم الحرب السورية نتيجة قتاله هناك، وخطابه الذي كان يستهدف البيئة السنية باتهامات تحريضية مكشوفة تحت أعين القوى الأمنية، المُفترض فيها أن تحفظ أمن الجميع ولا تُدار من فريق واحد أو ترضخ لأهوائه في إشعال فتن مذهبية من أجل تبرير سياسة تقديم الخدمات لنظامي “البعث” و”الولي الفقيه”، دفع البعض الى التطرف المقابل، من خلال اعتماد وسائل انتحارية عبر عمليات التفجير حيث وصل عدد الانتحاريين الى ستّة، وترافق الأمر مع إعلان القاعدة أن لها وجوداً في لبنان، وكذلك “داعش” المرتبطة بالنظام السوري و”جبهة النصرة” أيضاً.
لقد تم استحضار التعصب وكادت الأمور تعود بالساحة الإسلامية الى عصر أبي جهل، فالإيراني أخذ يروّج عبر “حزب الله” أنه يتدخل لحماية نظام الممانعة في سوريا في وجه التطرف السني والتكفيريين، ويحاول أن يدفع بالأوضاع في لبنان نحو الفوضى عبر افتعال الأحداث في صيدا وعرسال وطرابلس.
لقد أعلن الرئيس الحريري بوضوح رفضه التطرف السني ومواجهته منذ أحداث “نهر البارد” ضد “فتح الإسلام” وصولاً الى مواجهة “القاعدة” التي أعلنت لبنان أرض جهاد، وهو قاد ويقود الساحة نحو الاعتدال رافضاً الحروب المذهبية داخل الطائفة الإسلامية، ورافضاً سفك الدماء تحت أي حجة، ورفض الانحياز لغير العقل.
“المستقبل” تلقي الضوء على واقع الساحة السنّية اليوم مع بروز “القاعدة” والتنظيمات الإرهابية، في ظل واقع إقليمي عاصف تعمل إيران على تقديم الوقود لحروبه المتنقلة لقلب معادلات وفرض أخرى.
السيّد
يرى المفكر والكاتب رضوان السيد أن ظاهرة الانتحاريين السنة في لبنان ظاهرة مستوردة وصار لها أنصار محليون نتيجة سلوك “حزب الله”, ولإنهاء ظاهرة الجهاديين الانتحاريين يجب أولاً أن تتشدد الأجهزة الأمنية والعسكرية مع السلاح غير الشرعي وأن يتوقف حزب الله عن خطابه التكفيري ويسحب قواته من سوريا ويعود الى لبنان، وهذا يساعد خطاب الاعتدال في البيئة السنية، ويؤمن تعزيزه بدل الذهاب الى خيارات متطرفة، وبالتالي لا يجري تسهيل عمل “القاعدة” وتنظيمات الجهاد السلفية لأن تكون لها بيئة حاضنة، نحن نقوم بذلك الآن ونؤكد على العائلات والأقارب في البيئات التي يعيش فيها هؤلاء الشبان أن الخيارات الانتحارية مرفوضة في الإسلام، وأن مواجهة “حزب الله” لا تكون بتقليده، وهي خيارات خاطئة والإسلام بريء منها لا بل هي تزيد من المشكلات داخل أهل السنة، وأن الصراع ليس صراعاً سنياً – شيعياً، بل صراع سياسي يمكن حله بطرق عدة عبر الحوار والتفاوض، وهو ما نقوم بدراسته والعمل عليه بدقة وضغط شديد. ونحن نريد مساعدتنا من قبل الأجهزة الأمنية التي عليها أن تكون جدية ولا تتعاطى بطريقة انتقائية مع الموضوع، كأن يتم اعتقال أشخاص بشكل تعسفي على الطرق وهم يذهبون الى أعمالهم، كما يجري مع بعض أبناء عرسال على سبيل المثال، أو أن يقوم “حزب الله” عبر دورياته بالقبض على أشخاص تحت أنظار الجيش. والأمر الثالث والأهم هو أن يخرج “حزب الله” من سوريا ويوقف خطابه وتبريرات حربه هناك، بأنه يريد حماية المقدسات الشيعية أو الدفاع عن الشيعة اللبنانيين في الأراضي السورية، لأن هذه الكذبة مفضوحة، وهو ذهب بأوامر إيرانية تتعلق بدعم النظام السوري فقط، فهدفه معروف وهو هناك منذ سنة فليخرج لأن خروجه من سوريا يهدئ النفوس ويعين قوى الاعتدال والجيش اللبناني والقوى الأمنية على استيعاب هذه الظاهرة حتى لا تتفاقم لاحقاً”.
وعما إذا كان هذا الخطاب يلقى الصدى المطلوب على الساحة السنية يجيب: “هناك تجاوب كبير جداً، ونحن متأكدون أنه ولا مرة كان تيارنا السياسي (المستقبل) لديه أنصار في داخل لبنان مثلما هو الحال عليه اليوم، لقد أخذنا في الانتخابات النيابية عام 2009 من السنة نسبة 77% الآن نأخذ 90% لأن خطابنا عاقل ومتوازن وهادئ ويخدم مصالح المسلمين واللبنانيين عموماً، الآن رغم كل هذا الجو الهائج نتيجة أفعال “حزب الله” قبلنا مبادرته الصغيرة بتشكيل الحكومة وقلنا لهم تعالوا لنجلس سوياً بعد رفض استمر قرابة السنة”.
لكن البيئة المتطرفة أيضاً لاقت تأييداً وصدى داخل السنة، هل ذلك بسبب دفع أموال أو ما يشابه؟!.. يرد السيد سائلاً: “أي أموال، إنهم يقومون بتفجيرات غير مدروسة وغير محترفة مما يدل على أنه يمكن استيعابها بسرعة، إن كف “حزب الله” استفزازاته، وكذلك جماعته في القوى والأحزاب الأخرى. وهذه الظاهرة تنتهي بسرعة وهي لم تحصل قبل تدخل “حزب الله” في سوريا، كل الإرهاب السني كان يأتي من الخارج اصطنعه النظام السوري أو “حزب الله” وليس له بيئة حاضنة في لبنان، ولأول مرة يخرج انتحاريون لبنانيون سنّة، ولذلك نستطيع أن نكافح هذه الظاهرة والبداية تكون عبر خروج “حزب الله” من سوريا وإيقاف الضغوط الأمنية والأمن الذاتي في الداخل. وإذا تعاطى الجيش اللبناني بموضوعية وثقة ونزاهة فإن هذه الإجراءات توقف هذه الظاهرة وتئدها في مهدها وينتهي وجودها”.
علّوش
ويقول منسق “تيار المستقبل” في طرابلس النائب السابق مصطفى علوش عن كيفية وإمكانية ضبط حالات التطرف في البيئة السنية مع إعلان مجموعات تابعة لـ”القاعدة” عن عملها في لبنان، إن “المسألة شديدة التعقيد، إذ يمكن أن نجد نسبة التطرف تزيد أو تنقص بسبب الظروف المحيطة، فالتطرف موجود في كل العالم، وإذا نظرنا الى المجتمعات في الخارج، فرنسا على سبيل المثال، نجد أن نحو 20% من المجتمع الفرنسي يؤيد التطرف ضد الأجانب والغرباء، وفي المجتمع الألماني كذلك نجد أن هناك نسبة لا بأس فيها من النازيين الجدد، وكذلك في إيطاليا نجد نسبة من “الفاشيين الجدد”. التطرف موجود بنسب متفاوتة في كل المجتمعات، وهناك أمور عدة تدفع التطرف الى الظهور للعلن والتحول نحو العنف، ومنها غياب الأمن والسلطة وغياب الضوابط، والتطرف المقابل الذي تجري مواجهته ويدفع نحو التطرف، مثلما يحدث في لبنان اليوم مثلاً، فتطرف “حزب الله” والذي أدى الى إذلال الآخرين وحشد الطوائف الأخرى لا سيما الطائفة السنية عبر استخدام سلاحه ضدها وأخيراً قتاله في سوريا، ما أدى في المقابل الى ظهور تطرف يعتقد أن باستطاعته مواجهة “حزب الله”، في المقابل، لكنه في الحقيقة ليس إلا تطرفاً يدعم التطرف الأول ولا يحل المشكلة، العامل الأهم في لبنان لإزالة التطرف هو إزالة التطرف من كل الاتجاهات وفرض سلطة الدولة على كل البلد وتجميع المجتمع اللبناني وتوحيده ضد التطرف من كل الاتجاهات وليس من جهة واحدة”.
وعن عدم معالجة ظاهرة التطرف في البيئة السنية سابقاً حيث كان يجري نفي وجودها، ما أدى الى زيادة نفوذها في الأوساط الفقيرة، يؤكد “نحن ولا مرة نفينا احتمال وجود بؤر متطرفة أو مجموعات متطرفة، صغيرة نسبياً، لكنها مؤثرة بشكل واسع على الساحة اللبنانية، ووضعنا أسبابها وتحدثنا عن كيفية مواجهتها، ونعود لنؤكد من جديد أنه لا يمكن مواجهة هذه الظاهرة إلا بإزالة أسباب الغدر والحيف الذي يعيشه بعض الناس وسيطرة القانون، مثلما حصل بالأمس مع الشيخ المعتقل عمر الأطرش، فحتى ولو ثبتت التهم الموجهة له، سوف يظهر في البيئة السنية من يقول هذه أخبار ملفقة، لأن الدولة تاركة “حزب الله” يسرح ويمرح، وسوف يسأل السؤال، هناك خمسة متهمون “قديسون” عند “حزب الله” لماذا لم يتم القبض عليهم؟ وسيقول إن “حزب الله” منغمس في الدم السوري إلخ…
وهذا يعني وضع الدولة في واقع “المكسورة عينه” لأن عليها أن تحسب حساباً لكل تصرف تقوم به، لأنه في المقابل سيكون هناك من يقول لماذا يحصل هذا التمييز، ولماذا يحصل ذاك أو ذلك؟. الناس في البيئة السنية تشعر أن هناك تواطؤاً من السلطة أو ضعفاً منها تجاه التطرف من الجهة الأخرى، وتفسر الأمر بكونه مؤامرة على الآخرين، وتعتبر أنه بغياب أي مستند فإن أي اتهام موجه الى أحد من الطائفة السنية مقصود وملفق، مثلما تنظر البيئة الشيعية الى أن ما يحصل في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان هو أيضاً تأليف لاستهداف الطائفة الشيعية.
وعن كيفية إخراج البيئة السنية من هذا الواقع يشير الى أهمية الخطاب السياسي ويقول “هذا الخطاب متوفر، بعض الأحيان تعتريه بعض الملابسات لأسباب متعددة ومن ضمنها أن هناك نوعاً من الحرد لدى القاعدة السنية من القلوب البيضاء والتصرف بتسامح مع كثير من القضايا والحقوق. لكن هذا الخطاب وحده لا يكفي، نحن بحاجة الى إخراج المجتمع من حالة عدم الاستقرار ومحاكمة المسؤولين عن الجرائم، واعتقال المتهمين المعروفين بالأسماء، والخروج من حالات الفقر المتمادية من خلال تأمين فرص العمل لهم، وربما أيضاً دعم هذه المجتمعات من الناحية المالية لإخراجها من واقع الفقر ومن جعلها رهينة للواقع المتطرف، لكن بالنهاية، كل ذلك جزء، ومسألة تعميم العدالة وخروج السلاح غير الشرعي وخضوعه للدولة وعدم محاباة فئات أو فريق على حساب الآخرين هو الأهم”.
وعما إذا كان “حزب الله” في وارد التراجع الآن بعد تهديد بيئته من المجموعات المتطرفة، وعما إذا كان يتجاوب مع دعوات الحوار من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه يرد علوش: “في الحقيقة هناك آية قرآنية تقول (أخذته العزة بالإثم)، فماذا يحدث، كلما جرى الحديث مع “حزب الله” في هذا الأمر، يتهمنا بتشجيع البيئة التكفيرية والتطرف، حزب مثل “حزب الله” هو حزب انتحاري بكل معنى الكلمة، بالنسبة إليه إما أن يحقق أهدافه العقائدية والماورائية وإما الانتحار، وأنا شبهت ذلك بمنطق “الماسادا” أي كما عمل اليهود منذ زمن، الأكيد أن “حزب الله” لن ينسحب من سوريا ولن يتجاوب إلا بأمر وفتوى من الولي الفقيه، وقد تخرج مجموعات منه للقول إن الولي الفقيه مخطئ ونحن ننتظر عودة المهدي، وعملياً مثل كل التجارب تبقى المجموعات الصلبة العقائدية التي لا تتراجع وتعتبر نفسها أن القضية حياة أو موت بالنسبة لها وعملياً هم الانتحاريون الذين يرفضون التراجع عن مواقفهم مهما كانت خطورة هذا الأمر”.

السابق
هل الحرية السياسية أساسية للابتكار العلمي؟
التالي
تحليق للطيران الاسرائيلي فوق الجنوب والبقاعين الغربي والأوسط