قراءات محلّية وإقليمية ودولية للمشهد المصري

يصعُب على أيّ مراقب موضوعي تقديم قراءة واحدة لما تشهده مصر هذه الأيام، فمصر الكبيرة بحجمها، هي كالفيل الذي حاول بعض المحيطين به أن يصفوه، فالقريب من نابه وصفه بـ»العاج»، والقريب من بطنه وصفه بـ»الجسم الرخو»، والقريب من ذيله وصفه بـ»الحبل المتين». كلّ هذه الأوصاف صحيحة، لكنّها ليست كاملة، لأنّها تأخذ جزءاً من المشهد ولا تستطيع وصف المشهد كلّه.

في مصر هناك المشهد المحلي الذي لا يستطيع أحد فيه نكران حجم التظاهرات المليونية التي خرجت في كلّ المدن والقرى والنجوع المصرية عشيّة 30 يونيو وخلال ذلك اليوم التاريخي الطويل، وكان في هذه الحشود ما ينفي أيّ شبهة انقلابية عن إجراءات قيادة القوات المسلحة التي كتب الشعب بياناتها وتلاها المتحدّثون باسمها، حتى إنّ البعض قال إنّ ثورة 23 يوليو 1952 بقيادة جمال عبد الناصر والضبّاط الأحرار، كانت ثورة جيش ساندها الشعب، وإنّ ثورة 25 يناير 2011 كانت تحرّك شعب انتصر له الجيش، فسقط رأس النظام.

أمّا في 30 يونيو 2013 فقد قاد الشعب الحدث الكبير ثمّ دعمه الجيش، وهذا ليس تفصيلاً، بل هو مؤشّر الى أنّ شعب مصر بات حاضراً بقوّة في الساحات، وهو قادر على تغيير أيّ رئيس أو نظام لا يلتزم إرادته ومطالبه.

وفي هذا المشهد المحلّي أيضاً لا يستطيع أيّ مراقب نكران مهابة الإجراءات التي تمّ بها الانتقال من نظام الى نظام، فلم يقدّم وزير الدفاع بيانه بمفرده، ولا استدعى مرجعيات مصر الدينية والسياسية والشبابية والنسائية لكي يبلغها قراره، بل صدر البيان الشهير بعد مشاورات دامت ساعات ووسط إشاعات ملأت الساحات، حتى إنّ بعض المعارضين خاف من نتائج هذا الاجتماع، فأعلن من الميادين معارضة أيّ قرار لا يتضمّن إطاحة الرئيس محمد مرسي.

مخاطر عنف أهلي

لكنّ المشهد المصري تضمّن أيضاً صورة لمعارضة شعبية ومسلّحة أقدم عليها أنصار الرئيس السابق للثالث من تمّوز (الجاري)، وهي معارضة تنطوي على مخاطر عنف أهليّ لا يحبّه المصريون، وقد يكون ذريعة لإجراءات عُرفية لا تنال رضىً مصريّاً وعربياً وعالمياً، ولعلّ أبرزها الحديث عن إغلاق معبر رفح بذريعة التوتّرات الأمنية في سيناء، وهو قرار سيُسلِّح معارضي النظام الجديد بسلاح له قوّة رمزية كبيرة وهو حصار غزّة، تماماً كما سيستفيد معارضو هذا النظام من اتّساع نطاق الاعتقالات، خصوصاً أنّه يطاول شخصيات لها مكانتها داخل مصر وخارجها، وبينها مثلاً المرشد العام السابق لـ"إلاخوان المسلمين" محمد مهدي عاكف صاحب الموقف الشهير خلال عدوان تمّوز على لبنان 2006، والذي اعتبر كثيرون موقفه يومها ردّاً مصريّاً شعبيّاً على موقف الرئيس حسني مبارك وبعض حلفائه حين وصفوا وقفة المقاومة اللبنانية بأنّها "مغامرة غير محسوبة".

وأخطر ما في هذا الجزء من المشهد أنّه قد يفتح جرحاً من الصعب إغلاقه في وقت قصير، فتنضمّ مصر إلى لائحة الدول المستهدفة بالفتنة، وإلى لائحة الكيانات المستهدفة بالتدمير، وينضمّ جيشها إلى لائحة الجيوش المستهدفة بالإنهاك.

قرار الإطاحة بمرسي

أمّا قراءة المشهد المصري إقليميّاً، فالبارز فيها مسارعة المملكة العربية السعودية بشخص خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز إلى التهنئة الفورية بالنظام الجديد، حتى قبل أن يؤدّي المستشارعدلي منصور اليمين الدستورية رئيساً لمصر في مرحلتها الانتقالية، ثمّ انضمام دول الخليج الأُخرى، بما فيها قطر، إلى لائحة المهنّئين، بما يؤكّد ما كانت "الجمهورية" أشارت إليه يوم انتقال الإمارة من الوالد الى الإبن في قطر، من أنّ هذا الانتقال هو إعلان بانضواء الدوحة تحت لواء الرياض.

ويكشف تقرير لوكالة "رويتر" أنّ ضابطاً مصريّاً (لم يفصح عن اسمه) أكّد أنّ قرار الإطاحة بمرسي قد اتُّخذ بعد خطابه الشهير في القاعة المغلقة بين جموع أنصاره، بمن فيهم شيوخُ المتشدّدين الذين يصفهم العالم بـ"الإرهابيين"، لأنّ خطاب مرسي يومها والخطب التي ألقِيت في حضوره أخافت القوات المسلحة كثيراً لما تضمّنته من إشارات الى غياب أيّ تقدير سليم لدى مرسي إزاء قضايا الأمن القومي المصري.

فإرسال مقاتلين إلى سوريا لا يعني تدخّلاً مصريّاً في الشؤون الداخلية لبلد شقيق فحسب، بل إنّه أيضاً يهدّد بعودة هؤلاء الجهاديين الى بلادهم مرّة أُخرى ليكرّروا فيها ما فعله "الأفغان العرب" بعد عودتهم من أفغانستان الى بلادهم الاصلية، خصوصاً إلى مصر التي لا ينسى شعبها أنّ راية قيادة تنظيم "القاعدة" قد انتقلت من السعودي أسامة بن لادن الى المصري الدكتور أيمن الظواهري.

نظام بين نارين

وقد يبدو متسرّعاً التحليل الدقيق لانعكاس التطوّرات المصرية على سوريا، خصوصاً إذا بقيت مواقف الرياض ودول الخليج متشدّدة إزاء النظام السوري، فتقع القيادة المصرية بين نارين: نار الأمن الاقتصادي الذي يحتاج الى كلّ ريال سعودي، ونار الأمن القومي الذي يُدرك أنّ دمشق هي الجناح الثاني للقاهرة في هذه المسألة.

ويقول مُطلعون إنّ الاتصالات بين القيادتين العسكريتين المصرية والسورية لم تنقطع طوال السنتين الماضيتين، وإنّ القيادة العسكرية المصرية كانت وراء مبادرة مرسي بتشكيل لجنة رباعية لحلّ الأزمة السورية، وهي المبادرة الأُولى حول سوريا التي تجاهلت قطر وأعادت الاعتبار الى الدور السعودي. فهل تكون التحوّلات الأخيرة في مصر دافعاً إلى إحياء هذه اللجنة الرباعية؟ أم أنّ الوقت ما زال مبكّراً؟

ارتباك غربي وقلق اسرائيلي

دوليّاً، كان الحدث المصري كاشفاً لحجم الارتباك في مواقف الدول الغربية، ولا سيّما منها الولايات المتحدة الأميركية التي تلعثم المتحدّثون باسمها وتوالت بيانات متناقضة الاتجاه، صادرة عن الإدارة الاميركية.

وبدا واضحاً أنّ في واشنطن ارتباكاً كبيراً، فلكلّ مركز من مراكز القرار فيها رأي، والرئيس باراك أوباما حائر بين قواعده العسكرية والأمنية والديبلوماسية والتشريعية، والحيرة نفسها انعكست على إسرائيل التي قال رئيسها شمعون بيريز صباح الأوّل من تمّوز الجاري: "لا ندري أيّ مصر سنجد أمامنا ذات صباح".

فالقلق الإسرائيلي من الحضور الشعبي المصري، ومن الطابع الوطني والقومي لتظاهرات 30 يونيو، هو أمر لم يكن في الوضوح نفسه يوم 25 يناير ( 2011 ) وهذا القلق مرشّح للتصاعد مع كلّ خطوة تخطوها مصر في اتجاه الاستقرار.

وقد ركّزت وسائل الإعلام على صورة ذات دلالة في مسيرة المعارضين أمام قصر "الإتحادية"، حيث حمل أحدهم لوحة كبيرة ظهر فيها العلم الأميركي وفي وسطه نجمة داود الإسرائيلية، وفي قلب النجمة صورة مرسي، كذلك شهدت تلك المسيرة ومسيرات الصعيد في أسيوط وسوهاج والمنية صوَراً للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، على الرغم من أنّ هذه المناطق كانت تُعتبر قواعد انتخابية لـ"الإخوان المسلمين"، فكان خروج أبنائها في التظاهرات ورفعهم صور عبد الناصر أحد أكبر المفاجآت في يوم زاخر بالمفاجآت….  

السابق
العنف
التالي
هل سوريا مهددة بخطر الاستنقاع؟