طرابلس تئنّّ ولا تريد الانتحار

طرابلس بشعة، تحبط. يستحيل تفهم ما يفعله المسلحون فيها: من يقاتلون؟ من يستهدف رصاصهم في ساحة النور؟من يحركهم ثم يضبّهم ثم يعاود تحريكهم؟ ولماذا لا يقمع تيار المستقبل المظاهر التي يقول إن حزب الله والنظام السوري هما المستفيدان الوحيدان منها؟

لا يعلو صوته «قهوة قهوة» لترقص الفناجين بين أصابعه. النوافذ مغلقة؛ لا ينبعث منها صوت عبد الحليم حافظ. لا ينادي سائقو الأجرة على طرطوس وحمص وحلب. تسأل باعة الـ CD الأطفال عن آخر إصدارات علي الديك، فيقولون إن هذا علويّ اقتلعنا من عرباتنا حنجرته. ينادي «أبو ربيع» على قهوته ببرودة بعدما كان ينافس صباح فخري في التجويد، كأنه لا يود بيع القهوة ولا أوراق اليانصيب. كبر أهالي هذه المدينة في عامين عشرين عاماً. هرموا. يعود أبو خالد من وقوفه اثنتي عشرة ساعة خلف مقلاة الفلافل إلى منزله، يسأل عن خالد وأخبار «النمرة العمومية» التي حرم أم خالد من دواء الضغط ليستأجرها له، فتشير «الحاجة» إلى الرشاش. يركن بائع الفلافل الأثقال التي ينوء بها عند زاوية الرصيف النتن: «تغيّر خالد، ما عاد الشاب الذي تعرفه، حتى أنا والحاجة ما عدنا نعرفه، ينام نهارا، يستيقظ عصراً ليأخذ سلاحه ويرحل، وحين أوقظه فجراً ليرافقني كما كنا نفعل طوال عشرين عاماً إلى صلاة الفجر يتأفّف ويعاود النوم».

في طرابلس، يتكدس اللاجئون السوريون فوق فقرهم وهروبهم السريع وبعضهم البعض. يسرح مسلحون بين مراهقين وحتى أطفال في شوارع المدينة، بعيداً عن المحاور المتعارف عليها. تقفل غالبية محال السوق القديم والحديث بعد اكتشاف أصحابها أن إقفالها يريحهم من فواتير البلدية والكهرباء والموظفين ما دامت أعمالها متوقفة. تحولت معظم المراكب السياحية التي تقل الركاب إلى الجزر الطرابلسية إلى مراكب صيد. لا أطفال يلهون بالطيارات الورقية عصراً، ولا ضحك يتصاعد وسط دخان النراجيل. تخطف طرابلس الأنفاس، كأنها في جنازة مستمرة.

لماذا توتّرت المدينة أول من أمس وأمس واليوم وغداً؟ يتنقل السؤال على الألسنة، يحفر استغراباً في الأعين تارة وغمازتين مستسلمتين طوراً. توقف منذ أسابيع تبادل إطلاق النار التقليدي بين جبل محسن وباب التبانة. ما عاد يمكن نواب المستقبل القول إن النظام السوري «يحركش» من بوابة جبل محسن بأمن المدينة واستقرارها، لحرف الأنظار عمّا يفعله في بلده. ينتشر المسلحون في شوارع بعيدة عن شارع سوريا، ليس فيها شقق لحزب الله ولا متاجر للعلويين (التي أحرق معظمها) ولا شبكات اتصالات. يحرقون الدواليب لمنع أهالي المدينة، بمن فيهم أخوتهم وآباؤهم، من الوصول بسياراتهم إلى منازلهم والمستشفيات والأسواق، ويبدأون إطلاق الرصاص.

من يريد إسقاط النظام السوري يحمل رشاشه ويذهب إلى سوريا. لا يقطع طريق ساحة النور ولا يطلق هذا الكم من الرصاص نحو السماء يومياً. من يشك بتموين النائب سليمان فرنجية جبل محسن بالسلاح يُعلم الأجهزة الأمنية لكشف خط الإمداد هذا، أو يقول إن لديه مشكلة سياسية مع فرنجية، ولا يحرض ضد منطقة كاملة ويلعب بجرح مغلق منذ عشرين عاماً لقطع آخر صلات طرابلس الاقتصادية بجيرانها. من يستفزه حزب الله و«انتصاراته» يواجه الحزب، لا أبناء مدينته العزّل بسبب تأييدهم المزعوم للحزب مرة، ولعدم وجود متنفس آخر. ثمة مواطنون هنا يريدون العيش بسلام، يحزّ في نفوسهم سقوط مشروع إسقاط النظام السوري كما كانوا يشتهون، ويؤسفهم عدم وجود مرجعيات سياسية يمكنهم، كمدينة أو كطائفة، التعويل عليها، وتستفزهم كل تلك الشماتة الفايسبوكية والتلفزيونية والخطابية بمحاولاتهم العبثية رفع رؤوسهم مما يتخبّطون اقتصادياً وسياسياً فيه، لكنهم لا يريدون الانتحار. لا تريد المدينة قتال بعضها البعض ولا قتال الجيش. لا تريد أن تكون قصير ثانية أو عبرا أخرى. لكنها في الوقت نفسه مدينة من دون سياسيين، بلا صوت، يثير مجتمعها المدني الاستهزاء، ولا يكاد أحد أهاليها يرفع صوته بانفعال عفويّ ضد المسلحين حتى ينهال هؤلاء عليه ضربا ورفسا وشتائم تحت أنظار القوى الأمنية. بين صغار التجار في التل نموذج من هؤلاء، وفي سوق الخضر أكثر من خمسة، ولا يمر أحد على سوق الأحد من دون تعرض بائعين فقيرين أقله لـ«بهدلة» علنية. ثمة مدينة مكسورة سياسياً، محبطة، لكنها لا تريد الانتحار، ولا يمكنها في الوقت نفسه فرملة من يدفعونها صوب الهاوية.

لم يبدأ هذا المرض الذي فتك بالجسد الطرابلسيّ وأنهكه بفيروس زرعه حزب الله. انطلق المسلحون يعيثون إحراقاً في المدينة وقطعاً للطرقات وصدامات أهلية غداة إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري وتكليف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة. وخلال عامين، حاصرت أحياء المدينة مجتمعة أحد أحيائها، وشهدت حملة تطهير مذهبي لم تشهد مثيلاً لها في الحرب الأهلية، وشرعت محاكم عرفية لمحاكمة العمال السوريين وخيضت في شوارعها حروب عصابات، وحين تبخر المعارضون المفترضون بدأ المسلحون إطلاق الرصاص من دون سبب في الهواء. ليس حزب الله من يطلق الرصاص في طرابلس ولا النظام السوري أو أزلامه؛ المدينة تعرف زعرانها وشاشات التلفزة تبث جنونهم مباشرة. يريد اللواء ريفي من أهل مدينته تكذيب ما يرونه يومياً وتصديق أن ميقاتي يموّل المسلحين لقطع طرقات مدينته والاعتصام حول منزله وإظهاره بمظهر رئيس الحكومة غير المسيطر على مدينته. تفهم المدينة دفع ميقاتي (الحريص جداً على أمواله) خوّة لبعض الزعران حتى يكفوا شرهم عنهم: كثيرون من التجار يدفعون منذ نحو ستة أشهر خوات مماثلة لمن يحضنهم ريفي ويحميهم. منذ أكثر من عام، اختفت المجموعات الأمنية والسياسية والعسكرية المقربة من حزب الله تماماً من المشهد الطرابلسي.

لا يمكن ريفي ذكر مقرب واحد من حزب الله ضبط منذ أكثر من عام يتجول بسلاحه الشخصيّ في مدينة طرابلس. استوعب المقربون من الحزب «الكف» الذي أكلوه في المدينة مديرين خدّهم الآخر. يغضب المسلحون مما يحصل في مصر فيطلقون الرصاص في الزاهرية. يستفزهم سقوط القصير فيطلقون الرصاص في شارع عزمي. كان إطلاق المسلحين النار على موكب الوزير فيصل كرامي دون مبادرة الحكومة بأجهزتها الأمنية إلى أية ردة فعل بمثابة إعلان المسلحين رسمياً أن الأمر في مدينتهم لهم. حين يرى الطرابلسيون حفيد عبد الحميد كرامي يسكت عن إحراق زعران سيارته على بعد بضعة أمتار من ساحة جده سيعضّون جميعهم على جروحهم ويسكتون. في عبرا كان يمكن أحمد الأسير قطع طريق الجنوب نسبياً، وكان يمكنه، نسبياً أيضاً، إيجاد أرضية لتصادم سني ــ شيعي أو شغل جزء من حزب الله، جزئياً.

أما في طرابلس فلا أفق سياسياً ولا عسكرياً أو فتنوياً لما يفعله أولئك المجانين: لا مناطق شيعية على تماس معهم، ولا حزب الله أو سواه من خصومهم يبالي بما يفعلونه. عبثاً يبحث السائل هنا عن إيجابية فعلية واحدة لاستعراضات هؤلاء، غير ملء جيوبهم بالمال وإثارة إعجاب اللواء ريفي طبعاً: التجار يلعنون ساعتهم، مظاهرهم تخيف أشد المدافعين عن وداعة مدينتهم وانفتاح أهلها، أصواتهم لا تبقي للعصبية عنواناً آخر يلتفت الجمهور إليه، فيما ورشة إعادة تأهيل طرقات المدينة وشبكتي الصرف الصحي والمياه متوقفة بسببهم منذ عامين.

بعض المسلحين يحركهم ريفي؟ نعم. البعض ما زال يتلقى أوامره بالتواتر من النائبين المستقبليين محمد كبارة وخالد ضاهر؟ طبعاً. الرئيس نجيب ميقاتي يمون على بعضهم لتحييده ومنع شتمه في مدينته مباشرة أمام وسائل الإعلام؟ أكيد. بعضهم مثل كنعان ناجي وعميد حمود وحسام الصباغ لا تعرف مرجعيته الحقيقية؟ نعم وطبعاً وأكيد. الشيخ أحمد الأسير كان يحمل الصفات السابقة مجتمعة، وظاهرته الضيقة انتهت بانتحاره. مسلحو طرابلس لا آفاق لمعركتهم، ومدينتهم لا تريد (لنفسها أولاً ولهم ثانياً) الانتحار.

السابق
الجمهورية: نصر الله أكّد أنّ أزمة سوريا طويلة وستنتهي بانتصار خيار حزب الله
التالي
إجماع 14 آذار على التمديد لريفي