بنك أدمغة يخطّط لمستقبل المسيحيّين في الشرق

لاقت المواقف التي أعلنها البطريرك بشارة الراعي اهتماما واسعا، خصوصا في الأوساط الأوروبّية – الأميركيّة، كونه أثار جملة مواضيع تتّصل بمستقبل المنطقة، والتفاعلات الأمنيّة – الاقتصاديّة – السياسيّة فيها، انطلاقا من ظاهرتين: أنّ الدول العربيّة هي التي تشهد الانتفاضات. ثم أنّ التأثير العربي يتراجع أمام النفوذ التركي والإسرائيلي والإيراني.

وتنطلق المقاربة الدبلوماسيّة لمواقفه من مسارات ثلاثة، الأوّل محلّي بدءا من ردود الفعل وصولا إلى الفعل، وكانت المحصّلة أنّ ما صدر من مواقف وتعليقات كان يفتقر الى الجدّية والموضوعيّة والتعمّق في التفكير، ربّما من المناسب القول إنّ معظم هذه الردود جاءت مسطّحة تعبّر عن كثير من الانفعال والكيديّات والشخصانيّة، واللافت أنّ المعلّقين من هذا الجانب أو من ذاك، إنّما تصرّفوا كما لو أنّ البطريركيّة بمكانتها ومواقفها موظّفة لخدمة وجهة نظر هذا الطرف أو ذاك، في حين أنّها عمليّا ومعنويّا هي الجاذب الفعلي لكلّ الأطراف، كونها نقطة الارتكاز في الدائرة الوطنيّة، تسترشد بمواقفها كلّ الأحزاب والتنظيمات والشرائح الاجتماعيّة على اختلاف مذاهبها وطوائفها. كما افتقرت هذه الردود بمعظمها الى الدسم السياسي عند تطرّقها الى مسائل جوهريّة تشغل حاليّا المجتمع الدولي ودوائر القرار فيه، مثل الوضع في سوريا، والمناحي المتعدّدة التي يمكن أن تنزلق اليها التطوّرات، فضلا عن قضيّة الأقلّيات المطروحة تحت مجهر المراقبة والمعالجة في مراكز الأبحاث والدراسات الأوروبّية – الأميركيّة التي تسعى الى ترسيم حدود الشرق الأوسط الجديد، وكياناته.
 
أمّا في المسار الإقليمي، فتنطلق المقاربة من نموذجين حول الأقلّيات في الشرق الأوسط، النموذج اليهوديّ في إسرائيل، والنموذج المسيحيّ في العراق. لقد زرعت إسرائيل في قلب العالم العربيّ منذ مطلع القرن الماضي، وكانت – ولا تزال – بنظر الغرب النموذج والمثال، دولة فئويّة عنصريّة لليهود استحدثت في قلب هذه المنطقة الغنيّة بالنفط والثروات الدفينة لتفرض حضورها وتؤمّن مصالحها، ومصالح حلفائها. وهناك النموذج العراقي، حيث دفع المسيحيّ الثمن غاليا، ولا يزال. وقد دفع مثل هذا الثمن هجرة وتهجيرا ومعاناة في بيت لحم، والناصرة، والقدس، وفلسطين، وأيضا في العديد من الدول العربيّة. وحجّة الغرب هنا أنّ الأقلّوي إلى أيّ طائفة انتمى هو أمام خيارات ثلاثة لا رابع لها حتى الساعة، إمّا النموذج اليهودي في إسرائيل والقائم على فلسفة القوّة والتوسّع، والمَحميّ من الغرب الأميركي والأوروبّي، وإمّا الاندماج في المجتمعات لكن على مستوى مواطن درجة ثانية تاركا مناصب القيادة والريادة للطوائف الكبرى، أو الرحيل، وهذا الخيار ليس وليد الصدفة ولا هو حديث العهد بل سبق وطرحه موفد الإدارة الأميركيّة دين براون على الرئيس سليمان فرنجية في بداية حرب الآخرين على أرض لبنان، وهذه النظرة لم تتغيّر منذ أن أطلق هنري كيسنجر في العام 1973 مشروعه حول الشرق الأوسط الجديد القائم على تفتيت دول المنطقة الى دويلات طائفيّة – مذهبيّة ضعيفة متناحرة، تكون إسرائيل هي الأقوى بينها.

أمّا المسار الثالث في ضوء هذه المقاربة فينطلق من البعد الدولي، وهناك نماذج لا يمكن التقليل من شأنها لاستخلاص العبر. ويأتي النموذج العراقي كمثل ومثال كونه الأحدث في تجربته وكينونته ومصيره. لقد دخلت قوّات الرئيس جورج دبليو بوش هذا البلد تحت شعار اقتلاع الطاغية، ونشر الديموقراطيّة، وكانت النتيجة ما هو ماثل حاليّا على أرض الواقع، وما على المتابعين والمهتمّين إلّا استخلاص العبر بهدوء وتمعّن من دون أن تفوتهم الإشارة الى أنّ العراق كان أقوى الدول العربيّة استراتيجيّا في مواجهة إسرائيل. ويخشى تلمّس النموذج العراقي في تونس، أو في مصر، وهو المثل والمثال في السودان وما يجري في هذا البلد من تقسيم وتفتيت وشرذمة، وهو منبع الخيرات والثروات. أمّا في ليبيا واليمن والصومال فحدّث ولا حرج، طالما إنّ أبواب التطوّرات مشرّعة أمام كلّ الاحتمالات والخيارات.

وتبقى سوريا بيت القصيد نظرا لتركيبتها الاجتماعيّة، وموقعها الاستراتيجي، وبعد كلّ المخاوف الصادرة عن الأبعدين قبل الأقربين، والتي تحذّر من الانزلاق نحو حروب أهليّة لن تنتهي إلّا بفرض نموذج عراقيّ ثانٍ في المنطقة.

ما الحل؟

يقدّم مُعدّو هذه المقاربة "ورقة عمل" من بندَين: الوقت للأفعال لا للأقوال، وعلى بكركي أن تفعل. أن يكون هناك بنك أدمغة تساهم فيه النّخَب المسيحيّة، مهمّته أن يتابع ويدرس ويخطط بصمت وهدوء، بعيدا عن الضجيج الإعلاميّ، وأن يكون الهيئة التنفيذيّة لوضع ما جاء في الإرشاد الرسوليّ من أجل لبنان، والإرشاد الرسوليّ من أجل مسيحيّي الشرق، موضع التنفيذ. 

السابق
رصد لمواقف الراعي في الجنوب
التالي
السلطة الفلسطينية أمام استحقاق أيلول