القصة الكاملة لتناحر الطوائف اللبنانية من الإستعمار إلى «الطائف»!

السفير هشام حمدان
قراءة التّاريخ عند اللّبناني، سيف ذو حدّين. فهناك قارئ، بعين متلهّفة لإقتناص معلومات، يوجّه من خلالها السّهام ضدّ خصمه، وآخر يتلّهّف لمعرفة أسباب أمراضنا الإجتماعيّة، ممّا يسهّل معالجتها.

موضوع العدد السّكّاني، كان وسيلة، إستغلّها الأمير بشير الشّهابي الثّاني لمواجهة النّفوذ الكبير للشّيخ بشير جنبلاط. فالأمير بشير، دفع بالموارنة في الشّوف، بعد أن اتّخذ لنفسه الدّيانة المارونيّة لمواجهة بشير جنبلاط، لأنّ الموارنة، كانوا قد فاقوا الدّروز عددا، نتيجة المذابح الدّرزيّة- الدّرزيّة في حرب القيسيّين واليمنيّين، وإضطهاد الولاة العثمانيّين لهم. هذا مع العلم، أنّ جنبلاط هو الذي زكّاه أصلا، مع الدّروز، لتولّي الإمارة.

فإمارة الجبل إنتقلت من المعنيّين الدّروز إلى الشّهابيّين السّنّة، بتزكية ودعم من الدّروز أنفسهم. لم يكن هناك إعتبارات طائفيّة تسود العلاقات بين أهل لبنان، بل كانت العائليّة هي معيار العلاقات. 

قامت بين الشّهابي والدّروز حالة من العداء والكراهية إستمرت إلى أن قام الفرنسيّون والبريطانيّون بقتاله لطرده من بلاد الشّام، إستجابة لطلب السّلطان العثماني

ويشهد التّاريخ، أنّ الأمير المعني الكبير، كما الأمير بشير الثّاني، عاشا خلال طفولتهما في كنف عائلات كسروان من الموارنة. فماذا حصل كي تتبدّل هذه العلاقات العائليّة بين اللّبنانيّين، لتأخذ ذلك المجرى الطّائفي البغيض؟

 ساهم بشير الثّاني في نجاح حملة إبراهيم باشا المصري للسّيطرة على بلاد الشّام، ومنها لبنان. وعندما واجهه الدّروز، الذين كان يعتبرهم  “زنادقة”، ساعد بشير الشّهابي، الباشا المصري في حربه ضدّهم، ودفع بثلاثة آلاف مقاتل من جنوده من الموارنة، لهذا الغرض.

وعليه، فقد قامت بين الشّهابي والدّروز حالة من العداء والكراهية، إستمرت إلى أن قام الفرنسيّون والبريطانيّون بقتاله لطرده من بلاد الشّام، إستجابة لطلب السّلطان العثماني. خرج الباشا المصري من لبنان، وخرج الشّهابي الثّاني، لكنّ الفرنسيّين والبريطانيّين، حلّا مكانهما.

تحوّل الفرنسيّون، حماة المسيحيّين في مناطق السّلطنة العثمانيّة، إلى حماة المسيحيّين في لبنان. وهم أصرّوا، على أن يكون حاكم الشّوف، مارونيّا، بحجّة أنّهم الأكثر عددا فيه.

تحوّل الفرنسيّون حماة المسيحيّين في مناطق السّلطنة العثمانيّة إلى حماة المسيحيّين في لبنان وهم أصرّوا على أن يكون حاكم الشّوف مارونيّا بحجّة أنّهم الأكثر عددا فيه

وهكذا، صار العدد السّكّاني ذريعة للمطالبة بالسّلطة. تجاوز هذا المبدأ كلّ المبادئ التّاريخيّة التي سادت العائلات قبل الشّهابي. ووجد الإكليروس في هذا الأمر، وسيلة لمواجهة قوّة العائلات في المناطق المارونيّة، ولا سيّما آل الخازن وآل حبيش. توافقت مصلحة الإستعمار الفرنسي مع مصلحة الإكليروس المحلّي، بغية المطالبة بحكم الشّوف. بدأت تنمو منذ ذلك الحين، العصبيّة الطّائفيّة بين الدّروز والموارنة. 

وبدأت الأحداث الطّائفيّة في أوائل أربعينيّات القرن التّاسع عشر. وجد العثمانيّون والأوروبيّون حلّا من خلال نظام القائممقاميّتين. هذا النّظام، زاد في التّباعد بين الجانبين، إلى أن جاءت ثورة طانيوس شاهين على الإقطاع العائلي الماروني، والمدعومة من الإكليروس، لتمتدّ نحو الإقطاع العائلي الدّرزي في الشّوف، فحصلت أحداث عام 1860.

وقف الفرنسيّون إلى جانب الموارنة. ووقف البريطانيّون إلى جانب الدّروز. تاريخ العلاقات بين الموارنة وفرنسا، يعود إلى الحروب الصّليبيّة. لكن، لم يكن يوجد أيّ رابط ديني يجمع بين الدّروز والبريطانيّين. فلماذا كان هذا الدّعم في حينه؟ السّبب هو أنّ البريطانيّين، وجدوا في حماية الدّروز فرصة مقابلة لتعزيز موقعهم لدى السّلطنة، وتمكينهم من مواجهة النّفوذ الفرنسي وخاصّة في مصر، حيث كان الحديث عن شقّ قناة السّويس، قد بدأ. منذ ذلك الحين، بدأ تقاسم النّفوذ بين المستعمرين، على الطّوائف، مستخدمين بكلّ بساطة، شعور الخوف على المصير (هنا دخلت روسيا مثلا، لحماية الأرثوذكس.) 

 لم تتّخذ فرنسا أو بريطانيا في بلديهما، مبدأ العدديّة لتكوين السّلطات فيها. بل أن البلدين، إعتمدا المفاهيم التّحرّريّة اللّيبراليّة، والمفهوم الدّيمقراطي التّمثيلي، بعد فصل السّلطات الدّينيّة عن السّلطة. أما في بلدان الشّرق، ومنها لبنان، فقد قاما بتغذية هذا التّوجّه العددي، لتعزيز الإنقسام الطّائفي بين سكّانها، وبالتّالي، للمحافظة على هيمنتهما على شؤونها، وتشديد قبضتيهما عليها.كان الحلّ بعد نزاع عام 1860، إخضاع الجبل إلى نظام المتصرّفيّة.

إقرأ ايضاً: خاص «جنوبية»: «صيرفة» للأغنياء فقط..الإستفادة من 100 مليون للأرصدة فوق الـ50 الف دولار!

لم يكن الحاكم لبنانيّا، لذلك ساد الهدوء، وسادت الطّمأنينة. لم تقع أيّة نزاعات أخرى بين الدّروز والموارنة، بل استعادا بسرعة كبيرة، العلاقات الطّبيعيّة بينهما. بعد الحرب العالميّة الأولى، خضع لبنان الكبير للإنتداب الفرنسي. طالب الموارنة، بأن يحكموا لبنان، بحجّة غلبة عددهم. رفض الفرنسيّون، وأصرّوا على أن يحكم لبنان، فرنسيّا. كان الفرنسيّون يدركون تماما، واقع لبنان الجديد. أجروا إحصاء، وقاموا على ضوئه بتوزيع السّلطات بين اللّبنانيّين. زالت الثّنائيّة المارونيّة الدّرزيّة، وقامت ثلاثيّة جديدة هي المارونيّة، والسّنّيّة، والشّيعيّة.

فاختارت سلطات الإنتداب، توزيع السّلطات بينها على أساس أن تكون الرّئاسة للموارنة، ورئاسة الحكومة للسّنة، ورئاسة المجلس النّيابي للشّيعة. من هنا برزت المحاصصة الطّائفيّة.

وهكذا كان الحال عند وقوع الحرب العالميّة الثّانية. كرّس النّظام الدّستوري الإستقلالي، فكرة المحاصصة. يعتقد كثيرون، أنّ الميثاق الوطني، كرّس هذه الثّلاثيّة. لكنّ الحقيقة، هي أنّ الميثاقيّة كانت تعني، أن يتراجع المسلمون عن المطالبة بالإنضمام إلى سورية، والقبول بنهائيّة لبنان كوطن قوميّ لهم، مقابل تراجع الموارنة عن الرّوابط السّياسيّة مع الغرب. وهكذا، قام لبنان بعد الإستقلال، على ثنائيّة أساسيّة هي المارونيّة، (ألوجه الغربي للبنان)، والسّنّة (الوجه العربي للبنان). إذا وجد الموارنة خللا في مكانتهم في السّلطة، لجأوا إلى الغرب. وإذا وجد السّنّة خللا، لجأوا إلى العرب. الشّيعة، لم يكونوا جزءا من الميثاق.

الميثاقيّة كانت تعني أن يتراجع المسلمون عن المطالبة بالإنضمام إلى سورية والقبول بنهائيّة لبنان كوطن قوميّ لهم مقابل تراجع الموارنة عن الرّوابط السّياسيّة مع الغرب

وهم مثل الطّوائف الأخرى، شعروا بالحرمان، والغبن، خاصّة مع زيادة شراسة ألسّلطة السّياسيّة في قمع الإحتجاجات. كلّ هذا، ساهم بالقضاء على التّماسك بين اللّبنانيّين، وبإبقاء الشّرذمة بينهم. تزامن هذا الأمر مع صعود الدّور السّوفياتي. لم يعد الغرب وحده، سيّد القرارات الدّوليّة. ساعدت هذه الحالة في تطوّر الأفكار الإيديولويجيّة، وخاصّة بين القوى الشّاعرة بالحرمان والغبن. نهضت الأحزاب اليساريّة الإشتراكيّة (ألشّيوعيّة وغيرها)، وخاصّة بين الدّروز، والشّيعة، والأرثوذكس.

برزت القوميّة (ألسّوريّة والعربيّة) بمفاهيم قوميّة خارج الإطار الدّيني التّقليدي فالتفّ حولها الكثيرون من اليساريّين وأيضا من أهل السّنّة أنفسهم فوصلنا إل حالة الحرب الأهليّة عام 1975

وبرزت القوميّة (ألسّوريّة والعربيّة)، بمفاهيم قوميّة، خارج الإطار الدّيني التّقليدي، فالتفّ حولها الكثيرون من اليساريّين، وأيضا من أهل السّنّة أنفسهم. فوصلنا إل حالة الحرب الأهليّة عام 1975.إنتهت تلك الحرب بصيغة اتّفاق الطّائف. وانتهت الحرب الباردة. لا يمكن لأحد أن ينكر الدّور الغربي- العربي المشترك، في إيجاد هذه الصّيغة. فرنسا لم تكن سعيدة بهذا الإتّفاق. هذا الإتّفاق سينهي دورها الإستعماري في لبنان، وربّما في الشّرق الأوسط. أنقذ نظام حافظ الأسد، فرنسا، في حينه، حين عاند في استكمال تطبيق اتّفاق الطّائف، إنتقاما لرفض أميركا طلبه، أن يكون هو صاحب الرّأي بشأن مستقبل فلسطين، في مؤتمر مدريد عام 1990 . فمساواة سورية كوفد مستقلّ، مع الوفد الفلسطيني المستقلّ، وغيرها من الوفود العربيّة، أفشل مخطّطه الأوسع، الهادف إلى فرض هيمنته على قرارات العالم العربي.

إغتيال لحريري أنهى دور سورية وفتح الباب أمام دور إيران المطلق وتدخلّت فرنسا لإنتاج تسوية تجمع صديقهاعون وصهره بحزب إيران في لبنان

 إغتيال الرّئيس رفيق الحريري، أنهى دور سورية، وفتح الباب أمام دور إيران المطلق. تدخلّت فرنسا لإنتاج تسوية تجمع صديقها الصّدوق، ألجنرال ميشال عون، وصهره جبران باسيل، بحزب إيران في لبنان. فرنسا التي احتضنت الخميني، عادت من خلالهما إلى لغة العدد والمحاصصة في لبنان، والتي تمّ إقرارها في مؤتمر الدّوحة منذ عام 2008. بدأ الموارنة يتحسّسون خطورة هذه القاعدة. فالشّيعة، وكذلك السّنّة، فاقاها عددا. هنا، تبيّن بوضوح، أن لغة العدد، ليست لغة محلّيّة، بلّ لغة الإستعمار، نطقت بها أفواه محلّيّة بين الحين والحين، وفقا لمصالحها.الغرب الأميركي مشغول عنّا، بواقع تنظيم المنطقة برمّتها. نحن الآن في حالة انتظار. لكن، أكثر ما يقلقني، هو تصاعد نغمة بعض المفكّرين الموارنة بالدّعوة إلى الفدرلة. الأمر الذي يخدم فقط، المزيد من تقهقر الدّور الماروني التّاريخي في هذا البلد. الموارنة في لبنان، كما الدّروز، والشّيعة، والسّنّة وكلّ طائفة أخرى مقيمة في لبنان، هم وحدة واحدة، مكوّنة لهذا الوطن الذي هو صنيعتهم جميعا. يجب التّوقّف عن الصّيغ الطّائفيّة، والنّظر إلى واقع العالم اللّيبرالي الحالي. إتّفاق الطّائف، مدخل أساسيّ، لبلوغ تلك المرحلة الحضاريّة الإنسانيّة القائمة. فلا بناء للسّلام في لبنان، دون أن نتحوّل إلى جزء من هذا العالم الحضاري حولنا.

السابق
خاص «جنوبية»: «صيرفة» للأغنياء فقط..الإستفادة من 100 مليون للأرصدة فوق الـ50 الف دولار!
التالي
بالصورة: تطبيق الضريبة على الأجور بالعملات الأجنبية