إنه قتيلنا

جنازة علاء ابو فخر

انتزعت الانتفاضة اللبنانية قتيلها علاء أبو فخر من براثن وليد جنبلاط. أعلنته قتيلها، وطافت بصورة جنبلاط مرددة “كلن يعني كلن”. لم يجر ذلك في سياق مواجهة. فقط ارتفعت صور علاء في ساحات لا يرى جنبلاط وجهه فيها، كالنبطية وطرابلس وجل الديب. وفي اليوم الثاني اعترف الزعيم الدرزي أن علاء ليس قتيله، وأن عليه أن يكون في مؤخرة المشيعين.

وفي اليوم نفسه صفعت الانتفاضة سمير جعجع. فقد أقدم مناصروه على محاولة بناء جدارٍ اسمنتي في نفق نهر الكلب، وحملوا صور البطريرك الماروني الراحل نصرالله صفير. الجواب كان قاطعاً، فأحد وظائف الانتفاضة كان تحطيم الجدران، وبعد وقت قصير تم تحطيم الجدار وعاد الحكيم إلى صومعته في معراب.

“كلن يعني كلن” هي سر نجاح هذه الخلطة السياسية والاجتماعية التي فاجأ جيل الانتفاضة جيل الانقسام بها

ومثلما يشعر اللبنانيون بانفصال أهل الحكم عن الواقع في التعامل مع الانتفاضة، يشعرون أيضاً أن أهل السلطة الموازية يعيشون نفس الفصام، ذاك أن “كلن يعني كلن” هي سر نجاح هذه الخلطة السياسية والاجتماعية التي فاجأ جيل الانتفاضة جيل الانقسام بها. وأي خلل في هذه “الخلطة السحرية” سيفضي إلى عودتنا إلى مربع الانقسام البائس. علينا أن نشطب كل الوجوه، وعلينا أن نتجاوز ممثلي مرحلة الفشل كلهم. صور صفير هي أيضاً جزء من تلك المرحلة. ليس للرجل يد بما حل بصورته، لكن الأخيرة مثبتة في خريطة ذلك الزمن. رفيق الحريري نفسه لم ينج من ضرورات تجاوز ذلك الزمن. في ساحة الشهداء لم يكترث أحد للضريح الذي يتوسط ساحة التظاهر، ولم يتجرأ أحد على رفع صورته. الانتفاضة صدرت عن حساسية أخرى تماماً، وهذا ما أخرجها من مشهد الانقسام.

الأرجح أن رجلاً كوليد جنبلاط يمكنه أن “يبلع الطعم” وأن لا يقاوم جموح الانتفاضة لاستهدافه. وسمير جعجع أيضاً سيتجاوب مع مشهد يشتغل أمام ناظريه، لكن ذلك لن يدوم طويلاً، فالنظام المقيم في وعي هذا النوع من الرجال لن يستكين لهزيمة، تماماً كما لن يستكين حزب الله لأهداف الانتفاضة ولهزها نظام الفساد الذي يحتضن سلاحه. وإذا كنا قد شهدنا في الأيام الفائتة محاولات متكررة للحزب لإجهاض الانتفاضة وتفريق أهلها وترويعهم في صور والنبطية وفي ساحة الشهداء، فمن الواضح أننا سنشهد محاولات موازية لخصوم الحزب ولشركائه في الانقسام وفي الفساد وفي الفشل، وسيطل علينا من يقول أن علاء أبو فخر هو قتيله، ومن يذكرنا بنفق نهر الكلب بصفته خط انقسام لطالما فصل بين اللبنانيين.

اقرأ أيضاً: جديد قضية الشهيد ابو فخر.. هذا ما طالبت به «العفو الدولية»

نحن إذ نرفع الصوت خوفاً على الانتفاضة من السقوط، نستعين في مخاوفنا بأنفسنا وبشقاق لطالما كان علامة فشلنا وهزيمتنا

الطلب من الانتفاضة بأن تُبقي الحساسية عالية حيال معادلة “كلن يعني كلن” طلب متأخر. من الواضح أنها تسبقنا كل مرة إلى هذه المعادلة، ذاك أنها خارجها بالفعل، بينما نحن أبناء الانقسام وأهله نمارس جهداً وضغطاً لكي ندخلها إلى وجداناتنا وإلى ممارساتنا وإلى كتاباتنا. هي بالنسبة إلى الجيل المنتفض انفعال عادي وبديهي، وهي بالنسبة إلينا قناعة يجب استدخالها من خارج منظومة وعينا بأنفسنا وببلدنا. ولهذا لم يتأخر المنتفضون في رفع صورة وليد جنبلاط بوصفه واحداً من “كلن يعني كلن” عشية مقتل علاء أبو فخر الذي رفعوا صورته بصفته قتيلهم، بينما احتاجنا نحن يوم وليلة حتى نستيقظ على ضرورة انتزاع القتيل من شر الانقسام.

كم كان نموذجياً لخصوم الانتفاضة أن ينجح مناصرو جعجع ببناء الجدار تحت صور الكاردينال الراحل؟ وكم كان نصر لصحف النظام ولتلفزيوناته إذا ما التقطوا صورة لنعش علاء ملفوفاً بعلم الطائفة والحزب؟ ونحن إذ نرفع الصوت خوفاً على الانتفاضة من السقوط، نستعين في مخاوفنا بأنفسنا وبشقاق لطالما كان علامة فشلنا وهزيمتنا، بينما لا يبدي المنتفضون أي حساسية حيال هذه المخاوف، ولو لم يتراجع أصحاب الجدار عن جدارهم، كان أشقاؤهم الأصغر سناً سيتوجهون لإزالته بأنفسهم، فالجدار بالنسبة إليهم حاجز بينهم وبين أنماط حياتهم، وبينهم وبين زملاء في الدراسة والعمل والحب والصداقة، بينما هو بالنسبة إلينا ذكرى أيام ما زالت تستيقظ فينا وتقلقنا.

بالأمس ألحقت الانتفاضة هزيمة أخرى بـ”الثورة المضادة”. سقط قناع جديد بعد أقنعة عون ونصرالله وقبلهما الحريري. السلطة لا يمكن تجزئتها، والمواجهة يجب أن تشمل الجميع. ومحاولات الأمس يجب أن تُواجه بالافتراء على أصحابها تماماً كما افتروا علينا. يجب الانقضاض على نواياهم قبل أن تتحول إلى أفعال. يجب أن نحاسب جنبلاط على رغبته المضمرة بمصادرة قتيلنا، قبل أن تتحول هذه الرغبة إلى قول وإلى فعل. لا بأس بممارسة بعض الافتراء، فقد أصابنا في السابق منه أصناف أشد قسوة وأكثر إيلاماً.

السابق
كواليس تسمية الصفدي.. ما علاقة باسيل؟
التالي
لبنان ولعبة الانتفاضة والعهد