من التودد الى النفور: مصالح تركيا والهواجس في سوريا

موجز
تطورت العلاقات التركية مع النظام السوري بسرعة مذهلة على مدى الـ 15 عاماً الماضية، لتنتقل من العداء الصريح الى التعاون الوثيق ومن ثم العودة الى النفور.
قبيل الثورة الأخيرة، كانت تركيا تنظر الى سوريا على أنها حجر الزاوية لخططها بأن تصبح قائداً سياسياً، إقتصادياً و" أخلاقياً" في الشرق الأوسط.
لدى أنقرة هواجس عميقة بخصوص التطورات في سوريا، تحديداً بما يتعلق بالإرتدادات المحلية لأي عدم إستقرار سياسي أو ثورة إجتماعة سورية.
هذه الهواجس شكلت حذر أنقرة المبدئي بشأن القطيعة مع دمشق ولا زال بإمكان هذا القلق الحد من نطاق عمل تركي ما ضد نظام الأسد.
تطورت العلاقات بين تركيا وسوريا بسرعة دراماتيكية، وحتى مذهلة، على مدى العقد الماضي، بأن تحسنت بسرعة – وفي الأشهر الأخيرة – بأن ساءت بسرعة. ورغم التوتر في علاقات البلدين بسبب حملة نظام الأسد ضد معارضيه، تظل سوريا بالنسبة لتركيا فاعل مهيمن في خططها كي تصبح قائداً سياسياً، إقتصادياً و " أخلاقياً"، بحسب وصفها الذاتي، في الشرق الأوسط. في نفس الوقت، لدى تركيا هواجس عميقة وعملانية بشأن التطورات في سوريا والتي لا علاقة لها كثيراً بطموحاتها الإقليمية إنما لها علاقة كبيرة بالإرتدادات المحلية المتصورة جراء عدم الإستقرار السياسي السوري أو جراء حصول ثورة إجتماعية سورية، تحديداً بما يتعلق بالخسائر الإقتصادية المتعلقة بالقضية الكردية.
وفي حين أن هذه الأهداف كانت مفيدة في قيادة التواصل الديبلوماسي التركي مع دمشق في السنوات الأخيرة، فإن الهواجس المتعلقة بالتأثير المحلي للثورة في سوريا كانت القوة الرئيسة الذي شكل حذر أنقرة من القطيعة التامة مع نظام الأسد ومن إستخدام وسائل أقوى في تدبيرها، كالعقوبات ضد دمشق أو التهديد بالقوة العسكرية، لكبح رد النظام السوري القاسي على التظاهرات التي يواجهها.
إضافة الى كلام رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان اللاذع عن نظام الأسد، عبَّرت أنقرة عن إستعدادها لطرح عقوبات أقسى ضد دمشق. إلا أن مدى هذه العقوبات قد يكون محدوداً مجدداً بسبب الهواجس حول تأثيرها المحلي في تركيا.
من العداوة الى الشراكة فالعودة الى الوراء
تعود التوترات بين تركيا وسوريا الى الثلاثينات، عندما تم دمج لواء الإسكندرون في الدولة التركية الوليدة عن طريق الإستفتاء، وهي المنطقة التي كان متنازعاً عليها بين البلدين. في هذه الأثناء، وخلال الحرب الباردة، وجد البلدان نفسيهما على طرفيْ نقيض في حقبة الإنقسام الإيديولوجي تلك. ووصلت العلاقات بين تركيا وسوريا الى نقطعة القطيعة حقاً في العام 1998، عندما هددت أنقرة بالقيام بعمل عسكري ضد دمشق لدعمها حزب العمال الكردستاني الخارج عن القانون ولإيواءها زعيم المنظمة، عبدالله أوجلان.
رغم أن الفضل بالعلاقات المتحسنة مع سوريا يعود الى حزب العدالة والتنمية الحاكم ولسياسة هذا الحزب، أي سياسة " صفر مشاكل مع الجيران"، فإن أرضية العمل لتلك السياسة وُجدت خلال أواخر التسعينات من قبل إسماعيل جيم أبكجي، وزير الخارجية الأسبق. وخلال فترة تولي جيم أبكجي للمنصب، تطبعت العلاقات مع اليونان وبدأت بالإقلاع. حتى أن تطور العلاقات الى الأحسن مع سوريا وإيران يعود بجذوره الى هذه الفترة. عندما ذهب الرئيس العلماني أحمد نجدت سيزر الى دمشق لحضور جنازة القائد السوري حافظ الأسد، الذي دام طويلاً في الحكم.
مع ذلك، فإن دفء العلاقات بين البلدين إكتسب زخماً هاماً وبارزاً بظل مراقب حزب العدالة والتنمية ومهندس سياستها الخارجية الرئيس، أحمد داود أوغلو. وقد زار بشار الأسد تركيا في العام 2004، مسجلاً بذلك أول زيارة من هذا النوع لرئيس سوري على الإطلاق. وفي نفس السنة، وقعت كل من أنقرة ودمشق إتفاقية للتجارة الحرة بالإضافة الى معاهدة شراكة إستراتيجية. كما إندفع البلدان في هذه العلاقة أكثر في العام 2009، بتأسيسهما نظام سفر من دون تأشيرات دخول والقيام بتدريبات عسكرية مشتركة دامت ثلاثة أيام لم تكن متصورة سابقاً.وفي إشارة أخرى أيضاً لتعميق العلاقات، أعلنت تركيا عن إنشاء مجلس إقتصادي للعمل بإتجاه إنشاء منطقة تجارة حرة بينها وبين سوريا، الأردن، ولبنان.
المصالح التركية مقابل طموحات أنقرة
النتيجة المباشرة لمقاربة " صفر مشاكل" التركية هي " التجارة الى أقصى حد". فجهود تركيا بشأن تقليل الصراعات الى أدنى حد في المناطق المجاورة لها مباشرة- مجهود يتم إختباره الآن، بإعتراف الجميع، بسبب تداعيات الربيع العربي وتطورات إقليمية أخرى- يتعلق بالصميم بخلق بيئة تفضي الى إزدهار التجارة التركية وتوسع الإقتصاد التركي. وبذلك المعنى، فإن أحد مصالح أنقرة الرئيسة في مقابل سوريا هو إستخدام البلد كمنفذ للصادرات التركية، تحديداً من مناطق المشاريع والأعمال الحرة الريادية بشدة التي تحد سوريا، كغازي عينتاب ومقاطعة هاتاي. وتثبت إحصاءات العام الماضي نجاح هذه السياسة: إرتفعت الصادرات التركية الى سوريا إرتفاعاً كبيراً، من 226 مليون دولار الى1.6 مليار دولار في العام 2010. في هذه الأثناء، أدى إلغاء تأشيرات الدخول الى تزايد أعداد السوريين العابرين للحدود، خاصة لتسوق البضائع التركية. كما إرتفع عدد السواح السوريين الزائرين لتركيا من 122000 في العام 2002 الى حوالي 900000 سائح العام الماضي.
على الجبهة السياسية، ترتبط مصلحة تركيا بعلاقات وثيقة مع سوريا بإيران. ففي حين أن تركيا كانت تعمل بإتجاه تحسين وتطوير علاقاتها السياسية والإقتصادية مع إيران، لا يزال البلدان متنافسين بما يتعلق بنفوذهما الإقليمي وبالإمكان إعتبار سوريا كأحد المجالات والساحات التي يلعب بها هذا التنافس. وقد برر المسؤولون الأتراك جهودهم تكراراً، في مواجهة المقاومة الأميركية عندما بدؤوا تواصلهم في البداية مع نظام الأسد، بتفسيرهم أن تحسين العلاقات مع سوريا سيخفف من حدة نفوذ طهران هناك.
في برقية صادرة عن وزارة الخارجية الأميركية في العام 2005 نشرتها ويكليكس، كان للديبلوماسيين الأميركيين، في الواقع، وجهة نظر قاتمة حول مقاربة تركيا لسوريا، بوصفها خليطاً من " التفكير التواق وشكل من أشكال النوستالجيا العثمانية الجديدة." وفي حين أن المسؤولين الأتراك يعارضون ذلك التوصيف، فمن الواضح أن جهود أنقرةالمكثفة لتحسين علاقاتها مع دمشق قد ذهبت الى ما هو أعمق من المصالح الإقتصادية أو السياسية. فسوريا كانت ستصبح بالنسبة للقيادة الرفيعة في حزب العدالة والتنمية، أردوغان وداود أوغلو تحديداً، أرضية الإثبات لجهود تركيا المعتدلة بخصوص جيرانها والمكان لعرض دور تركيا كنوع من الوسواس الإصلاحي الإقليمي. إذ كان يُنظر الى سوريا على أنها حجر الزاوية لنظام إقليمي جديد، نظام مبني على حدود مفتوحة أكثر وتدفق حر أكبر للبضائع والناس ( لقد بدأ حتى بعض المعلقين والمسؤولين الأتراك بالحديث عن خلق منطقة " Shamgen"، تأشيرة مشتركة تسمح للسياح بدخول تركيا، سوريا، إيران والعراق – (Shamgen مصطلحيدمج محافظة الشام العثمانية القديمة، التيتشكل سوريا اليوم، مع منطقة Shengenالأوروبية بدون تأشيرات دخول).
إختبار لسياسة " لا مشاكل"
تشكل الرد البطيئ والغامض على الأحداث القاسية المنتشرة في سوريا، جزئياً، من عدم قدرة أنقرة على التفريط برؤيتها لنفسها كبلد يكسر رمز نظام الأسد. لكن الفشل بالرد بشكل حاسم شكل أيضاًالهواجس بأن تؤثر الإضطرابات في سوريا على مصالحها، إقليمياً ومحلياً.
على المستوى الإقليمي، تركيا قلقة من الفرص التي قد تقدمها الثورة في سوريا الى منافسيها، خاصة إيران والعربية السعودية. من المنظور التركي، فإن قطع العلاقات تماماً مع سوريا يوفر لإيران فرصة زيادة نفوذها في سوريا عن طريق ملأ الفراغ الذي كانت تحتله تركيا ذات مرة. من جهة أخرى، فإن إمكانية زوال نظام الأسد العلوي وحلول حكومة يهيمن عليها السنة يقدم للعربية السعودية فرصة ذهبية لتكثيف نفوذها في سوريا، على حساب تركيا ربما.
أما بما يتخطى القضايا الإقليمية، يظهربأن ما يشكل رد أنقرة على التطورات في سوريا هو الهواجس المتعلقة بالتأثير المحلي لهذه التطورات على تركيا. وكما قال أردوغان أوائل آب، والذي كان لإخافة السلطات السورية في جزء كبير منه: " نحن لا نعتبر المشاكل في سوريا مسألة سياسة خارجية وإنما نعتبرها شأناً محلياً."
أحد الهواجس الرئيسة لتركيا هو التأثير الإقتصادي لعدم الإستقرار السوري وفقدان المصدرين الأتراك لإمكانية الدخول الى البلد، الذين يرون بالفرصة الإقتصادية هناك بمثابة طرق عبور سورية (ترانزيت) قيمة بالنسبة لأجزاء أخرى من الشرق الأوسط. إلا أن تركيا أكثر قلقاً بشأن الكيفية التي قد يؤثر بها عدم الإستقرار السوري على مشاكلها الكردية الخاصة. فمن وجهة نظر أنقرة، أية إضطرابات بارزة في أوساط أكراد سوريا يمكن أن يؤدي الى مشاكل في أوساط أكراد تركيا، تحديداً في المنطقة الجنوبية الشرقية التي يهيمن عليها الأكراد والمتوترة أصلاً. إن عدم الإستقرار السوري يمكن أن يجعل من سوريا أيضاً مكاناً مثالياً لنشاط حزب العمال الكردستاني مجدداً. لكن وبمشاكلها الخاصة على الجبهة الكردية، فإن آخر ما تريده أنقرة الآن هو شيئ يمكنه إشعال القضية الكردية أكثر.
بسبب هذه الهواجس، تبدو أنقرة مرتعبة من مجرد التفكير بالتفكك السريع لنظام الأسد والذي يمكنه أن يخلق فراغاً سياسياً وقد يسمح لأكراد سوريا بإستقطاع مساحة أكثر إستقلالية. بدلاً من ذلك، كانت تركيا تدفع بإتجاه ما يمكن أن يكون تخفيف متدرج من سلطة نظام الأسد وتنفيذ الإصلاحات التي ستؤدي، من نواحٍ عديدة، الى إنشاء دولة تحاكي عدداً من الإصلاحات السياسية والإقتصادية التي تمت في السنوات الأخيرة من قبل تركيا نفسها. وبرغم تراجعها عن إستخداممصطلح " النموذج التركي"، فإن أنقرة، ومن نواح عديدة، تود رؤية هذا النموذح موظفاً في سوريا.
لكن قدرة تركيا على التأثير بالأحداث في سوريا – على الأقل من خلال دمشق – يتضاءل بسرعة. فتركيا حاولت بداية إستخدام علاقاتها الوثيقة مع الأسد لإقناعه بالتأسيس لإصلاحات سريعة والإصغاء لدعوات المتظاهرين. لكن تلك الجهود لم تكن مثمرة، وتم إغلاق خط التواصل مع دمشق ما أن إرتفعت حدة الخطاب التركي ضد الأسد. وتعمل أنقرة الآن، وبوضوح، على فرض تأثير ما في مسار الأحداث عن طريق التحرك بإتجاه إتخاذ إجراءات عقابية. فهي تستضيف إجتماعات لجماعات المعارضة السورية، على سبيل المثال، و إعترضت شحنة أسلحة متوجهة الى سوريا. كما تعطي التدريبات العسكرية التركية الأخيرة قرب الحدود السورية إشارة الى دمشق بأنه لم يتم سحب أي شكل من أشكال التدخل العسكري عن الطاولة. كما وعد المسؤولون الأتراك أيضاً بعقوبات وشيكة أقوى تستهدف النظام، حتى ولو تكن هذه العقوبات محددة حتى الآن.
لكن تلك الإجراءات ستكون محدودة بسبب الهواجس التركية من الضربات الإرتدادية العكسية المحلية لهذه الإجراءات وغياب إجماع دولي واضح حول كيفية معاقبة نظام الأسد. بالنسبة لأنقرة الآن إنها تخاطر بأن تصبح متفرجة فحسب، في الوقت الذي يبتلع فيه العنف جاراً ونظاماً حاسماً ومصيرياً، كان يُعتقد حتى وقت قصير مضى بأنه من بين أهم حلفائها في العالم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الموجز عبارة عن جزء من سلسلة تدرس الأبعاد الإقليمية للثورة الشعبية في سوريا. لقد دعى المعهد خبراء كبار من الولايات المتحدة والشرق الأوسط لتحديد القوى الموجهة الأساسية لنفوذ الدول المجاورة لسوريا والتي تسخرها وتمارسها في الصراع، لوضع تكهنات وتوقعات تتعلق بالكيفية التي سيؤثر بها الوضع هناك على توازن القوى الإقليمي ولدرس الكيفية التي تقوم بها المعارضة والنظام السوري بالتجاوب مع هذه الديناميكيات الإقليمية.
من خلال هذه السلسلة، يهدف المعهد الى تقديم تحليل ووسائل تتعلق بإدارة الصراع على الأرض دعماً للتحولات السياسية عبر العالم العربي. قام بتحرير هذه السلسلة ستيفن هيديمان من USIP، مستشار رفيع لمبادرات الشرق الأوسط، وسكوت لاسينكي، مسؤول برامج رفيع.
كتب هذه الدراسة إيغال شليفر، صحافي ومحلل يغطي الشأن التركي يعيش في واشنطن. كان مقره في إسطنبول ما بين عامي 2002 و 2010 كمراسل لـ The Christian Science Monitor and Eurasianet.org.. وهو أيضاً مبتدع موقع Istanbul Calling ( istanbulcalling.blogspot.com)، مدونة حول السياسة الخارجية والشؤون المحلية التركية.

السابق
إسرائيل: القيمة الإستراتيجية للولايات المتحدة
التالي
الحريري: لن يحصل بعد اليوم اي حرب في لبنان،