العراقيون «ينتخبون».. في الشارع!

العراق
يتساءل عدد كبير من الناس لماذا يهيمن حزبان إثنان فقط على الحياة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية منذ نشأة الدولة وحتى الآن؟

ببساطة شديدة وبعيداً عن الايغال في الحديث عن قدرتهما المالية والاعلامية والتي هي أيضاً أسباب صحيحة وحقيقية، إلّا إن السبب الأهم هي أن هذه الأحزاب مازالت قادرة على استيعاب التغيير وتحويل آلياته الى نمط من العلاقة المنتجة بينها وبين المجتمع. فعندما أعلن الحزب الجمهوري الأمريكي قانون تحرير العبيد مثلاً، وعندما يرشح الحزب الديمقراطي الأمريكي أمريكياً من أصول أفريقية أو آسيوية أو عربية الى الكونغرس، ويدفع بمسلمة محجبة الى مواقع القرار في السلطة، فهما هنا (الحزبان) لا يقرآن الديناميات الإجتماعية التي تشكّل وعي الناس خارج رهانات السلطة وإيديولوجياتها فحسب، وأنما يحتضنان الآليات الاحتجاجية لتلك الديناميات ويوظفونها للحفاظ على نمط العلاقة الايجابية المستمرة بينهما وبين الجمهور. هما بهذا يسحبان المبادرة من الجمهور ويسبقاه في عملية تغيير من الأعلى دون انتظار اللحظة التي ينفجر فيها المجتمع بوجه السلطة من الأسفل. هذه الاستراتيجيات الحزبية وهذا الفهم العميق للديمقراطية هو السبب الأساس في هيمنة هذين الحزبين على الحياة السياسية في أمريكا.

لا تتبنى هكذا استراتيجيات الأحزاب التي تفهم الديمقراطية أنها ورقة في صندوق انتخابي فقط، وأنما تتبناها تلك الأحزاب التي تعرّف الديمقراطية على أنها صيرورة سياسية مستمرة عليها أن تعيد إنتاج نفسها في الانتخابات وفي الشارع باستمرار وبما ينسجم مع تطلعات الشعوب في الحقب الزمنية المختلفة. مثل هذا الفهم للديمقراطية يغيب عن بال أحزاب العراق السياسية بأغلبيتها الساحقة.

لهذا، ثمّة عبارة تقبض على معنى في غاية الدقة والذكاء عندما تصف العراق بأنه “دولة ديمقراطية بلا ديمقراطيين”. هذا وصف عميق لتجربة ستة عشر عاماً من السياسة في عراق ما بعد صدام حسين.

كثيراً ما ينتقل السجال السياسي العراقي عند أية عملية احتجاجية شعبية الى مناقشة النظام الديمقراطي وأهمية الصندوق الانتخابي في حسم شرعية السلطة أمام مشروعية الشارع الغاضب. هذا سجال نافع في طبيعته، إلّا إنه في بعض الأحيان يتحول الى محاولة تبريرية يريد من خلالها البعض الدفاع عن السلطة عبر اختزال الديمقراطية بصندوق انتخابي كلنا نعرف ظروفه وطرق تسويقه وعدد مَن شارك فيه مؤخراً.

لقد فشلت أحزاب السلطة في العراق (ومعها الجزء الأكبر من أحزاب المعارضة إن وجدت) أن تقدّم لنا نموذجاً ديمقراطياً لا يعرّف الديمقراطية بصندوق انتخابي، وانما يبلّغ لها كحزمة متكاملة تشمل الايمان بحرية التظاهر، بحرية الرأي، بمنظمات المجتمع المدني، بدستور مدني، بتعددية سياسية، بمساواة مجتمعية، بعدالة انتاج وتوزيع، بإعلام حر، بمواطنة متساوية بغض النظر عن الطوائف والمكونات، بشفافية عمل أجهزة السلطة، بوضوح محاربة الفساد، بفصل السلطات واستقلاليتها عن بعض، إضافة طبعاً الى الصندوق الانتخابي وعملية الاقتراع الحرة والشفافة.

ما حصل هي ان تلك الأحزاب فهمت ان العملية الانتخابية مجرد استفتاء شعبي يعطيهم المقترعون فيها تفويضاً شاملاً ومفتوحاً ليفعلوا أي شيء خلال سني حكمهم الأربعة، حتى لو كان من ضمنها الإنقلاب على الديمقراطية نفسها.

بهذا المعنى إننا كبلد نعيش ديمقراطية بلا ديمقراطيين.

لا تعي هذه الاحزاب أن عملية الاقتراع هي وسيلة الجماهير للتغيير الممكن، وعندما تشعر تلك الجماهير أن صوتها لم يغيّر شيئاً، وأن هناك انسداداً سياسياً ليس له مخرج قريب، تتجه للشارع وتعبر عن رفضها باحتجاجات غاضبة ودموية أحياناً. هذا أيضاً جزء من الديمقراطية يكتب شروطها وعي الناس في الشارع وأمزجتهم المتغيرة في يوم بعيداً عن أصواتهم التي تجمدت عليها الأحزاب في لحظة انتخابية سابقة.

الديمقراطية هي تمثيل مستمر لتطلعات الناس في الصندوق وفي الشارع، وليست وسيلة للوصول الى السلطة فقط. يمكن للأحزاب من خلال هذا الفهم للديمقراطية أن تعيد انتاج نفسها كممثل للناس باستمرار، كما تفعل أحزاب ديمقراطية عريقة في مجتمعات ودول الغرب، بدلاً من قطع خيط العلاقة معهم ومواجهتهم بأجهزتها القمعية.

العراق اليوم يعيش لحظة مرتبكة وسجال عميق بسبب الانتفاضة التشرينية الشعبية الأخيرة. سجال بين مَن يؤيد شرعية القوى المنتخبة وبين مَن يذهب تجاه مشروعية الشارع الغاضب. أيهما الأحق بالنصرة؟ وأيهما سيصمد تجاه الآخر، وقبل هذا وذاك، كيف سيكون شكل العلاقة بين الجمهور المنتفض وبين أحزاب سلطته في المستقبل القريب؟ هل نحن بصدد نهايات راديكالية للأحزاب المهيمنة على السلطة أم سيتذكّر بعض المنتفضين “شيعيتهم” ويترجّلوا في منتصف الطريق؟

السابق
الموت يغيّب نادين جوني.. «أشرس» المدافعات عن حقوق النساء
التالي
بالفيديو.. متظاهر يخر صريعاً على الهواء في العراق!