إسرائيل من الإحتلال إلى «الإحلال»..والغزيون يسألون: «وين نروح»؟!

دبابة مدمرة في غزة

رغمَ أنَّ «طوفانَ الأقصى» هي عملٌ مَشروعٌ في ذاتِه، أي من حيثُ أنَّه العِلاقةَ الطَّبَعيَّةِ بين «إسرائيل» والفلسطينيين، وأنَّ مَحلَّ النِّقاشِ هو في كيفيَّة المُقاومةِ وليس في شرعيَّتِها ولا مشروعيَّتِها، لكن ثَمَّةَ حيِّزٌ واسعٌ منَ الضَّروريِّ فيه أنْ تُسأَلَ حركةُ حماس، وأن تُساءَلَ، عمَّا أرادتْه من عمليَّتِها غيرِ المسبوقةِ هذه، وعن عدمِ تجهيزِ قِطاعِ غزَّةَ بحدٍّ أدنى منْ مُقوِّماتِ البقاءِ الضَّروريَّةِ للغزِّيين.

لكن ممَّا لم يَعُدْ منَ الرَّيبِ في شيءٍ، أنَّ هذه الحربَ بُرهانٌ على حقيقةِ أنَّ صراعَ «إسرائيل» مع العربيِّ عمومًا، والفلسطينيِّ على وجه التَّخصيص، هو صِراعٌ وجوديٌّ لا يُمكنُه أن يَنتهيَ ببقاءِ طَرفَيْه، كُلٌّ على الصُّورةِ التي هو عليها الآن. وإذْ أنَّ الصَّراعَ اليومَ تحديدًا باتَ في أقصى صُوَرِ وجوديَّتِه، فإنَّه منَ الضَّروريِّ أن تَفرضَ أسئلةٌ وجوديَّةٌ نفسَها على المعنيين بالصِّراع. وهي ضروريَّةٌ لأنَّ السُّؤالَ الضَّروريَّ في حضرةِ الصِّراعِ هو السُّؤالُ الذي يُشبِهُ طبيعةَ هذا الصِّراع. ولعلَّ سؤال «وين نروح؟» هو السُّؤالُ الوجوديُّ الأكثرُ تداولًا بينَ الغَزِّيين، والذي بدَورِه يَدلُّ على أنَّ «إسرائيل»، لم تتركْ مكانًا يصلحُ لمُمارسةِ الإنسانِ في غزَّةَ حقِّه الطَّبيعيِّ في الفِرار منَ القَتل. وهو بدَورِه سؤالٌ عن موضِعِ القَتلِ في العقيدةِ «الإسرائيليَّة».

صراعَ «إسرائيل» مع العربيِّ عمومًا والفلسطينيِّ على وجه التَّخصيص هو صِراعٌ وجوديٌّ لا يُمكنُه أن يَنتهيَ ببقاءِ طَرفَيْه

إنَّ الذي ترتكبُه «إسرائيل» في غزَّة قد تجاوزَ كُلَّ أشكالِ ردِّ الاعتبار أو الانتقامِ أو حتَّى إعلانِ الحرب بصوَرِهمُ المَعهودةِ بين البشر، إذْ أنَّها تستغلُّ ما تبقَّى منْ غضِّ الطَّرْفِ الدُّوليِّ، وقُدرةِ أميركا على إطالتِه، لكي تقتلَ أكبرَ عددٍ مسموحٍ به منَ الفلسطينيين. وإذْ أنَّ ماهيَّةَ القتلِ دلالةٌ على ماهيَّةِ القاتلِ، فإنَّ للقتل الذي ترتكبُه «إسرائيل»، دلالةٌ على ماهيَّةِ هذا الكِيان، وعلى العقيدةِ التي يُترجمُها سلوكُه، تِجاه الفلسطينيين و«الإسرائيليين» على حدٍّ سَواء.

أعادتِ الحربُ على غزَّة تأكيدَ، أنَّ «إسرائيل الكُبرى» لم تزلْ مشروعًا قائمًا، وهو اليوم أشدُّ حضورًا من أيِّ وقتٍ مضى، وأنَّ الذي تبدَّلَ هو كيفيَّةُ التَّنفيذ وليس الهدف. ولا يخفى أنَّ هذا المشروعَ ليس مشروعًا «إسرائيليًّا» وحسب، بل هو مشروعُ الصَّهيونيَّةِ العابرة للجُغرافيا، إن جازَ التَّعبير، والتي يتبجَّحُ الرَّئيس الأميركيُّ بالانتماء إليها. ولا يخفى أيضًا أنَّ المشروعَ «الإسرائيليَّ» بتهجير سكَّان غزَّة إلى سيناء، ليس انتقامًا لـ «نكبة 7 تشرين الأول»، وإنَّما هو مشروعٌ قديمٌ لا يبدو أنَّ «إسرائيل» قد تخلَّتْ عنه بعدُ. وإذْ أنَّ تنفيذَه بشكلٍ مُباشرٍ الآن هو أمرٌ شبه مُستحيلٍ، في ظلِّ الغليان الشَّعبيِّ العالميِّ، الذي بدأ مع بَدْءِ الحربِ على غزَّة، والذي فرضَ نفسَه على حكومات القرار العالميِّ، أمامَ هذا الواقع تقومُ «إسرائيل» بتحويل القطاع إلى مكانٍ لا يصلحُ للعيش.


وبالتَّالي يجدُ الغزِّيُّ نفسَه بعدَ الحربِ، غير قادرٍ على العيش في غزَّة، الأمر الذي سيدفعُ كثيرين إلى “الهجرة الطَّوعيَّة”، وبهذا تعتقدُ «إسرائيل» أنَّها ستنجح في تقليل عدد الفلسطينيين في القطاع، وتضمن عدم قدرته على استعادةِ قابليَّتِه للعيش في المدى المتوسَّط. وهذا ما يُفسِّرُ قصف الفلسطينيين في الأماكن التي طلبتْ «إسرائيل» منهم الانتقال إليها، كما يُفسِّرُ أيضًا تدميرَ كافَّةِ المرافق الحيويَّةِ التي فشلتْ «إسرائيل» في تقديمِ إثباتٍ واحدٍ، يؤكِّدُ ادعاءاتِها بأنَّ حماس تستخدمُها لأغراضٍ عسكريَّة، لتُعيدَ بادِّعاءاتِها إلى الأذهان صورةَ كولن باول وقارورة الإجرام التي برَّرَ بها غزوَ العِراق.

أعادتِ الحربُ على غزَّة تأكيدَ أنَّ «إسرائيل الكُبرى» لم تزلْ مشروعًا قائمًا وهو اليوم أشدُّ حضورًا من أيِّ وقتٍ مضى

وأحدُ أخطر الدَّوافع وراء هذا الكمِّ المَهول من القتلِ، هو العقيدةُ الدِّينيَّةُ التي تُحرِّكُ اليمينَ «الإسرائيلي» الحاكم. طبعًا هذا لا يعني بأيِّ شكلٍ منَ الأشكال أنَّ اليسار «الإسرائيليَّ» هو ذاكَ الحمل الوديعُ، ولكنَّ الوحشيَّةَ اليمينيَّةَ أكثرُ وحشيَّةً، لأنَّ مردَّها إلى أنَّ اليمين يَقتلُ بعقليَّةٍ مؤسَّسةٍ على العقيدةِ الدِّينيَّة، التي تقومُ على أسطورة «شعب الله المُختار» ومُقتضياتِها.

إقرأ ايضاً: إحصاء أولي لـ«جنوبية»: الجنوبيون يهاجرون خوفاً من الحرب..وهذه خارطة توزعهم في المغتربات!

فالتَّعاليمُ اليهوديَّةِ المُتطرِّفة التي تُحرِّكُ اليمين من جهة، والتي يُنشَّأُ عليها «الإسرائيليُّون» في مدارسهم من جهةٍ أُخرى، هي تعاليمٌ عُنصريَّةٌ ضدَّ العرب، والفلسطينيين بصورةٍ أَوْلى، وهي تطبيقٌ لفِكرةِ «التَّحريم» الواردة في الإصحاح العشرين من سفر التَّثنية، والذي تُثارُ شكوكٌ حولَه. «التَّحريمُ» يجعلُ العِرقَ مِعيارًا لحجمِ القتل، الذي يجب أن يُرتكب أثناءَ الحرب، والتي تأمرُ أن تُدعى المدينةُ أوَّلًا إلى الصُّلح، فإنْ أجابتْ «فكُلُّ الشَّعبِ الموجودِ فيها» يُستعبد، وإنْ أَبَتِ الصُّلحَ فكُلُّ الذُّكور تُقتَّل والنِّساءُ والأطفال تكون غنائم. ولكن حينَ تكونُ هذه المدينةُ من مُدُنِ الكنعانيين مثلًا، أو اليبوسيين الذين سكنوا فلسطين قبل اليهود، هنا يصيرُ الحُكمُ أنْ «لا تستبقِ منها نسمةً ما، بل تُحرِّمَها تحريمًا». ثُمَّ يأمرُ الإصحاحُ بعدمِ إتلافِ أشجار المُدُنِ المُحاصرة، ويُبرِّرُ ذلكَ بتساؤلٍ مُخيف: «لأنَّه هل شجرةُ الحقلِ إنسانٌ حتَّى يذهبَ قُدَّامَكَ في الحِصار؟»!

يُشكِّلُ القتلُ رُكنًا أساسيًّا من الأركان التي تقومُ عليها «إسرائيل» وهو الرُّكنُ الأكثرُ بَرْهَنَةً على حقيقةِ أنَّها كيانُ إحلالٍ وليست كيانَ احتلال

يُشكِّلُ القتلُ رُكنًا أساسيًّا من الأركان التي تقومُ عليها «إسرائيل»، وهو الرُّكنُ الأكثرُ بَرْهَنَةً على حقيقةِ أنَّها كيانُ إحلالٍ وليست كيانَ احتلال. ولو أرادَ مُريدٌ أن يُقدِّمَ مشروعَ «إسرائيل»، اعتمادًا على ما قالَه «الإسرائيليُّون» وفعلوه، وبخاصَّةٍ آباء الإرهاب الصَّهيونيِّ، لما تردَّدَ في القَولِ أنَّ المشروع يقومُ على إحلالِ «شعبٍ» مكانَ شعبٍ. وتاليًا، فإنَّ وظيفةَ القتل في العقيدةِ «الإسرائيليَّة»، يختلفُ تمامًا عن وظيفتِه عندَ أيِّ احتلالٍ؛ فالقتلُ بالنِّسبةِ لأيِّ احتلالٍ هو وسيلةٌ للإخضاع والهيمنة، لكنَّه وسيلةٌ للبقاءِ بالنِّسبةِ لـ «إسرائيل»، وهذا يعني، أوَّلَ ما يعني، أنَّ القتلَ تحوَّلَ مِنْ وسيلةٍ تُبرَّرُ بالغاية إلى غايةٍ تُبرِّرُ الوسيلة.

السابق
بعد اقرار 6 قوانين..تطيير النصاب وبري يرفع الجلسة النيابية الى السادسة مساء!
التالي
التصعيد مستمر جنوباً..غارات اسرائيلية وقصف مدفعي واستهداف ثكنات!