وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية»: كارثة غزّة أكبر من أية قضية سياسية

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

الحرب في غزّة على أشدها، استعراض أعمى للقوّة، بل جنون قوة  أغلق على نفسه مسام العقل ونداءات الواجب الأخلاقي وتأنيب الضمير. لتحتل شهوة القتل الساحات والهواء والحقول، وتلهب المنابر والخُطب المشتعلة. احتفاء بأرقام القتلى، وابتهاج بشُهب الدمار المتسللة، إلى مخادع الأطفال والرضّع. 

بات الموت يُقصد لذاته بعد أن صار غاية نبيلة وهدفاً أسمى وتحول إلى فن وحرفة وصناعة درامية حيّة

بات الموت يُقصد لذاته، بعد أن صار غاية نبيلة وهدفاً أسمى، وتحول إلى فن وحرفة وصناعة درامية حيّة، تُشبع شغف شاشات النقل المباشر بكل جديد، وتلبي فضول المشاهد المسترخي على أريكته، بصور إعدامات مبتكرة وأشكال إبادة مستحدثة.
لم يعد الموت مدخلاً لتجدّد دورة الحياة وإطلاق تدفقاتها، أو مجرد خاتمة حميدة لحياة مديدة، بل إفناء للحياة نفسها بكل فرح تفتحها وجمال ألوانها وغدها الراقص.  لم يعد الموت قدراً أو صدفة محتملة، بل قرار الأحياء أنفسهم المشبعين بوهم الاصطفاء وجنون الحق الإلهي.  أحياء يكرهون الحياة، لأنها تعد لوحدهم ولهم فقط، يفضلون الموت من أن يعيش معهم أحد، أو يجاورهم أحد أو يشاركهم أحد.  هذه ليست هلوسات، بل عقيدة وطنية، ومفهوم وطن وثقافة شعب وشرعية دولة، وحقيقة كيان اسمه إسرائيل.

لم يعد الموت مدخلاً لتجدّد دورة الحياة وإطلاق تدفقاتها أو مجرد خاتمة حميدة لحياة مديدة بل إفناء للحياة


لم تعد حرب غزة مسألة سياسية، أو رهان على من ينهزم أو من ينتصر، ويعلن قدرته على تغيير موازين القوى  أو تعديل قواعد اللعبة. فالكارثة الإنسانية لا بأرقامها الخيالية فحسب، وإنما بقبحها الصادم وجرحها الناشب، في عمق الوعي الإنساني.  باتت الكارثة أكبر بكثير من أن يحصد أحداً ثمارها، ويدّعي لنفسه الغلبة أو الانتصار.  مشهد لم يعد بالإمكان طيه أو تناسيه، أو تدوينه في سجل الشهداء الابرار، أو حتى احتسابه عند الله.  لم يعد من حق أحد أن يستثمره في لعبة صراعه، أو أن يعتبره ثمناً باهظاً، لا بد منه لقضية نضال حقة، أو بخدمة مشروع أيديولوجي طامح، أو يلبي تطلعات محور دولي مغمر، أو شراً لا بد من فعله للدفاع عن خير أعظم وأنبل.  لم تعد كارثة غزّة تجليات لانسداد سياسي فقط، بل باتت صدمة كبرى للإنسانية بأسرها، وأزمة خلل في النظام العالمي، لجهة معالجة الصراعات والحدود والضوابط، التي يجب أن يلتزم بها الجميع. باتت غزة أزمة الإنسان نفسه في معنى أن ينوجد ويحيا. 

فالكارثة الإنسانية لا بأرقامها الخيالية فحسب وإنما بقبحها الصادم وجرحها الناشب في عمق الوعي الإنساني

  لم يعد بإمكان أحد أن يغضّ الطرف، عن مسعى إسرائيل في أن تتعامل مع الفلسطينيين، مجرد بشر وجدوا في الزمان والمكان الخاطئين، أو فضلة عددية وزيادة بشرية غير مرغوب فيها، تشكل عبئاً على العالم، أو كتلاً سكانية لا هوية أو ثقافة لهم، يمكن توزيعهم على قطاع الأرض كما توزع الماشية. لم يعد بإمكان المنظومة الغربية، الإصرار على نهائية الحقوق الطبيعية للإنسان غير القابلة للإنتزاع، بما فيها الحرية والمساواة وحق الحياة، وهنالك في بقعة أخرى من العالم، وبرعاية دولية وديمقراطية، أطفال يرمقون الغد بخوف من المصائب التي قد يحملها إليهم، أو بوجل من أن لا يأتي إليهم.  إنها ليست مسألة ازدواج معايير، فالمعايير الأخلاقية لا تقبل أن تكون مزدوجة، بأن تنطبق في مكان ولا تنطبق في مكان آخر، والقيمة الإنسانية ليست نسبية أو ظرفية.

هذه القيم والمعايير لا تقبل أن تخصص أو تقيد، وتحققهما لا يكون إلا ضرورياً (ملزماً بنحو الضرورة) وشاملاً. أي هي قيم ومعايير تتوزع على الجميع بالتساوي. ومجرد تحولها إلى معايير وقيم ممكنة، أي لنا الخيار أن نطبقها أو لا نطبقها، أو أن تنطبق في مكان وزمان ولا تطبق في زمان ومكان آخرين، فإنهما يكونان في حكم عدم الوجود وعدم التحقق. 

 القضية هنا ليست عددية، بل نوعية. ومجرد انتهاك هذه القيم والمعايير ولو لمرة واحدة، فإنها تكون مهددة بفنائها وزوالها. ومجرد القول بأن هنالك بشر يستحقونها دون بشر، فهذه لا تعود قيماً ومعايير أخلاقية، بل عنصرية ونازية مبطنة ومغلفة، بشكليات حقوقية وديمقراطيات لفظية.

القضية هنا ليست عددية بل نوعية

من هنا فإن استنقاذ غزّة ليس مجرد استنقاذ لأهلها، بل استنقاذ للقيمة الإنسانية، التي أخذت تتأرجح وتتمايل إلى السقوط، على وقع القتل العبثي لأهلها.  لم تعد غزّة تبحث لنفسها عن حل سياسي، فكارثتها أبعد من ان تعالجها أية حلول سياسية، ومشكلتها باتت لحظة اختبار تاريخية ومفصلية للوجود الإنساني كله: إما إنسانية كلية خالية من جميع ادعاءات التمايز أو الاصطفاء، أو انتظار زمان آخر يأتي بأناس آخرين.

السابق
«الجامعة الاسلامية» مسرحا لتحقيقات القضاء المالي.. هل تمتد التوقيفات لتطاول كبار المديرين؟!
التالي
بعد تراجع حدة المواجهات حنوباً.. المزارعون والرعاة يخرجون الى حقولهم سعياً وراء أرزاقهم!