وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية»: أزمة سياسية أم أزمة حكم

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

أن يصل انتخاب رئيس الجمهورية إلى طريق مسدود، فتلك أزمة سياسية، لجهة افتقاد القوى السياسية الفاعلة الكفاءة اللازمة، والأخلاقيات الضرورية في إدارة الأزمات وحفظ النظام العام. أما أن تتكرر هذه الحالة، وتمتد أعطابها بنحو دائم إلى جميع مؤسسات الدولة ومفاصل السلطة، لتصبح سمة ثابتة ومزمنة للحياة العامة، مثل انتخاب رئيس الجمهورية أو تسمية رئيس حكومة أو تشكيل الحكومة وحسن عملها، فلا تعود هذه الوضعية معضلة سياسية، بل هي أزمة النظام السياسي نفسه، أي مشكلة تتجاوز الفاعلين السياسيين أنفسهم، من قيادات وأحزاب، وتستدعي البحث عما وراء سطح المشهد السياسي نفسه.

فلا تعود هذه الوضعية معضلة سياسية بل هي أزمة النظام السياسي نفسه أي مشكلة تتجاوز الفاعلين السياسيين أنفسهم

 حين تستمر التصدعات، وتتراكم الأزمات إلى ما يحاكي الإنهيار الشامل، ولفترة تكاد تقارب العشرين عاماً، فلا تعود منابع الأزمة تكمن في القيادات أو الأحزاب، بحكم أن أي تغيير أو إضافة في خارطة القوى والفاعليات، لم ولن يغير أو يخفف من تعقيدات الواقع، ولن يكبح جماح التأزم المتدفق في كل صعد الواقع العام.

باتت المسألة قضية بنيوية، لا يعود لإرادة ونوايا وكفاءة الفاعلين أي دور في توليدها أو إيجادها أو حتى منعها أو لجمها، بل هي وضعية تخلق نفسها بنفسها، وتحمل موجبات بقائها واستمرارها وتضخمها، مهما كان مراد ومقصد وحتى شخص الفاعلين والناشطين السياسيين.

أزمة النظام السياسي، ليست بالضرورة نابعة من تناقضات أو فراغات في الدستور. . فالدستور آخر الأمر، ترجمان لفكرة النظام في مبادىء التمثيل السياسي، ومنطق ممارسة السلطة ومبادىء توزيع الموارد، وقواعد المشاركة الفردية والجماعية في صناعة القرار. بالتالي فإن التخلص من أزمة الانسداد العميقة والمستدامة، لا تكون بإصلاح الدستور، بل بالإنتقال إلى فكرة حكم مختلف وخارطة توزيع جديدة.

أزمة النظام السياسي ليست بالضرورة نابعة من تناقضات أو فراغات في الدستور. 

يتأكد هذا، حين نعلم أن اللبنانيين، لم يكن لديهم استقلالية في ممارسة الحكم بعد اتفاق الطائف، إلا بعد الإنسحاب السوري في العام 2005، حيث كان اللبنانيون قبل ذلك، في ظل وصاية سورية مُحكمة وحديدية، تتدخل في التفاصيل المهمة والتافهة. بالتالي كانت هذه الوصاية تحجب حقيقة النظام السياسي في لبنان، وتخفي أعطابه الذاتية، وتشغل اللبنانيين عن التفكير المستقل والمسؤول، حول الإطار الأنسب لحكمهم وانتظامهم العام. أما وقد تُرك اللبنانيون وشأنهم منذ العام 2005، فإن لبنان عانى ويلات وتصدعات وانهيارات وانسدادات، ليس فقط في مجال السياسة ومؤسسات الدولة، وإنما في مجال الإقتصاد والنمو والثقافة والتعليم ومؤسسات المجتمع نفسه.

حالات الإنهيار هذه، لا يفسرها: سوء النوايا، أو استفحال الفساد، أو شيوع مظاهر انتهاك القانون، أو هيمنة نفوذ أجنبي، أو وجود سلاح خارج سيادة الدولة، أو زبائنية العلاقة بين الحكم والمحكوم، وتضخم الشعور الطائفي، وضمور الإنتماء الوطني. هذه المعطيات رغم صحتها وخطورتها، لكنها لا تقدم تفسيراً أو فهما لأصل الأزمة ومسبباتها الفعلية، بقدر ما هي كاشفة عن خلل، في الأرضية الرافعة والناظمة لجميع الأنشطة السياسية. أي هي ظهورات لمعضلة تصل في عمقها وجذرها، إلى فكرة النظام السياسي ومنطقه وبنيته.

 التفكير في النظام الجديد، يختلف عن الدعوة إلى المؤتمر التأسيسي، الذي أطلقه حزب الله على لسان أمينه العام. فالمؤتمر التأسيسي وفق خطابه ولغته، يريد تغيير قواعد اللعبة السياسية، لتستجيب لخارطة القوى الجديدة وموجبات الواقع القائم. أي الإبقاء على النظام، وليس النظر في أصل فكرة النظام ومبادئه ونصوصه المعبرة عنه، من خلال استثمار فائض القوة في مجال السلطة، عبر رسم مساحات نفوذ جديدة، والدفع باتجاه توزيع مختلف للأوزان والصلاحيات، داخل هيكل وبنية النظام نفسه. المؤتمر التأسيسي غرضه، إسباغ شرعية على واقع قائم، وليس إنتاج واقع جديد، موضوعه السلطة وقواعد التوزيع فيها، لا التفكير في نظام الحكم.

التفكير في النظام الجديد يختلف عن الدعوة إلى المؤتمر التأسيسي، الذي أطلقه حزب الله على لسان أمينه العام

 أما التفكير بتغيير النظام، فلا ينطلق من موازين القوى القائمة، أو ترسيخ وشرعنة وضع قائم، وإنما من شروط الحياة الأنسب للإنسان اللبناني، بما يحفظ كرامته ويصون حريته، ويطلق إمكاناته إلى أقصى مدى ممكن. وهي عملية تتصل بالعقد الإجتماعي نفسه، الذي لا يقوم على قاعدة حكم الأكثرية للأقلية، ولا على أرجحية أو تفوق جهة على جهة، ولا على توافق قوى الأمر الواقع فيما بينها. وإنما يقوم على تصفير كل التمايزات بين الأفراد والجماعات، مع الاحتفاظ بالفروقات والخصوصيات، والتوافق المسبوق بنقاش عام، لتوليد إجماع على قاعدة التساوي والتواصل العقلاني.  

هو موضوع ما يزال في منطقة اللامفكر فيه، رغم أننا بدأنا نلمس مؤخراً دعوات غير مباشرة لتغيير إطار الحكم، لكن للأسف كان أكثرها مرتجلاً ويفتقد الجدية الكافية، وفي سياق: ردات فعل، أو سجال سياسي، أو ذات أغراض شعبوية لزيادة المؤيدين وعدد الناخبين. إضافة إلى أن الرهانات على إصلاح النظام القائم، أو تفعيل نصوصه الدستورية، ما تزال قائمة وجدية عند أكثر النخب ودعاة التغيير، على الرغم من الإخفاقات المتكررة التي تكبدها هؤلاء، والخيبات المتتالية التي أصيبوا بها.  

التفكير بالنظام الجديد، ليس قفزة في الفراغ، أو هروب من واقع، بل هو مسعى للتفكير في الإمكانات غير المستكشفة، والإحتمالات غير المنظور فيها، والخيارات اللامفكر فيها، ليكون بالإمكان الخروج من أثمان ومخاطر الرهان الواحد، وتوليد رؤية متعددة الابعاد والمستويات. 

السؤال هنا، ما هي صورة النظام الأصلح للبنان والأنسب للبنانيين؟ للكلام صلة. 

السابق
ندوة لمؤسسة لقمان سليم.. أين نحن من المحاسبة القانونية؟ الاغتِيالات السياسية أمام القضاء اللبناني
التالي
حارث سليمان يكتب ل«جنوبية»: بين تمرد فاغنر وتعطيل فيلق القدس