عشية عيد النصر في الحرب العالمية الثانية لابد للعالم المتحضر أن يتذكر بأن النازية المدمرة يجب ألا تتكرر أبداً. إن الحرب العالمية الثانية كانت أكبر مأساة في تاريخ البشرية أودت بحياة أكثر من 80 مليون شخص. وفي هذا السياق، يحاول مروجو الدعاية الروسية زرع فكرة مفادها أن روسيا هي التي هزمت ألمانيا النازية دون أن تستعين بمساعدة دول أخرى ولذا فإن العالم المتحضر بأسره، وخاصة الغرب، مدين لروسيا بوجوده الحالي. أخذت روسيا الحديثة تفرض رؤيتها لهذا العيد ودورها المميز في الانتصار على ألمانيا النازية، كماقد أصبحت الاحتفالات واسعة النطاق بيوم النصر، التي لم يكن لها مثيل حتى في حقبة ستالين، عنصراً من عناصر الدعاية الروسيةالراهنة.
لا يخفى على أحد أن الكرملين ليس له مثيل في إعادة كتابة التاريخوروسيا التي تعتبر نفسها خليفة للاتحاد السوفيتي المنهار حصرتمفهوم الشعب السوفيتي في الشعب الروسي وتدعي بأنها حصراً تحتفظ بحق النصر في الحرب العالمية الثانية ناكرة بأي شكل من الأشكال دور حلفاء الاتحاد السوفيتي السابق في التحالف المناهض لألمانيا النازية. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن مفهوم الشعب السوفيتي خاطئ في أصله وفي حقيقة الأمر وقفت عشرات الشعوب في وجه ألمانيا النازية ومنها، طبعاً، الشعب الروسي. وحالياً، يتبعبوتين سياسة الديكتاتور الروسي ستالين الذي شرب نخب الشعب الروسي في أثناء الحفلة في الكرملين عام 1945 واصفاً إياه بالأمة الأبرز والقوة الرائدة للاتحاد السوفيتي خلال الحرب. وبعد مرور عقود لا يزال يدعي الزعيم الحالي للكرملين أن النصر قُدرلروسيا وحتى دون مشاركة الشعوب الأخرى وإسهام شركائها الآخرين، الأمر الذي يدل على أن الطبيعة العدوانية للإمبريالية الروسية ومبادئها الدعائية لم تتغير.
وإذا لجأنا إلى الأرقام التي تكون أكثر صراحة من كلام المروجين الروس فنجد أنه خلال الحرب العالمية الثانية قتل أبناء الشعبالأوكراني، الذي يدافع حالياً ببطولة وشجاعة عن أراضيه من الغزو الروسي، ليس فقط في صفوف الجيش الأحمر بل أيضاً في صفوف الجيوش والوحدات العسكرية الأخرى، لا سيما في الجيشين الأمريكي والكندي وحركة المقاومة الفرنسية. من المعروف أن الآلاف من الأوكرانيين خدموا في الجيش البولندي للذي كان يقوده الجنرال البولندي فاديسلاف أندرس وشاركوا في الأعمال القتالية إلى جانب البريطانيين في مصر وليبيا وإيطاليا. خلاصة القول، قاتل الملايين من الأوكرانيين في الجيش السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية بحيثمن بين كل خمسة أشحاص لقي حتفه شخص واحد ممن قطنواجمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية آنذاك. وخلال فترة الحرب استدعي سبعة ملايين أوكراني للخدمة في جيش الاتحاد السوفيتيبحيث كان كل ثالث جندي في الجيش الأحمر أوكرانياً عام 1944،وكان أوليكسي بيريست، وهو أوكراني، أحد أولئك الذين قاموا بتثبيت العلم السوفيتي فوق الرايخستاغ في برلين. ولذا، لا يجوز الاستخفاف بمساهمة الشعب الأوكراني في الانتصار على النازية وخاصة أن أوكرانيا كانت واحدة من الدول المؤسسة للأمم المتحدة. وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها.
كما كان ولا يزال من بين ادعاءات الدعاية الروسية أن برنامج الإعارة والتأجير لم يكن له دور حاسم في الانتصار على النازية. في الحقيقة،لولا مساعدة الشركاء الغربيين لما كان الاتحاد السوفيتي يكتسب الأفضلية ونتيجة لذلك لما انتصر في تلك الحرب الدموية. على سبيل المثال، كانت تُركب أنظمة الكاتيوشا الصاروخية على شاحنات ستوديبيكر الأمريكية، كما أصبحت دبابات Т-34 المعروفة باسم دبابات النصر نموذجاً ناجحاً بفضل المدفعية التي تم تركيبها باستخدام المعدات الخاصة الأمريكية، وقدمت الولايات المتحدة السيارات التي زاد عددها بضعفين من عدد السيارات التي أنتجها الاتحاد السوفيتي خلال فترة الحرب. واليوم، يعتبر برنامج الإعارة والتأجير ودعم شركاء أوكرانيا الكبير في حربها على روسيا الاتحادية عاملاً حاسماً في ساحة المعركة. ورغم إدرك الكرملين ذلك إدراكاً جيداً تواصل روسيا قتل الأوكرانيين وارتكاب جرائم حرب وابتزاز العالم بأسره.
تخوض أوكرانيا حالياً حرباً مع روسيا التي ترعى النازية الخاصة بها وتدمر نظام العلاقات الدولية الذي أنشأته الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. في وقت سابق، رسم الديكتاتور الروسي فلاديمير بوتين في أثناء الاحتفالات بمناسبة ذكرى الانتصار في الحرب العالمية الثانية عام 2021 حداً بين روسيا وبقية العالم المتحضر، وانتحل لها صفة الدولة المنتصرة على النازية. وبعد أقل من سنة واحدة في شباط/ فبراير 2022، قامت الدولة المسماة بـ”المنتصرة”، بصورة أدق الدولة الارهابية، بغزو شامل لأوكرانيا تحول فيما بعد إلى ارتكاب آلاف جرائم الحرب بحق الشعب الأوكراني المسالم. إنما تفعله روسيا اليوم بغزوها لأوكرانيا يقدس مفهوم الحرب.
ويستغل الكرملين ذكرى النصر في الحرب العالمية الثانية لمزيد من العسكرة والتعبئة العسكرية وتعزيز العدوان في وقتنا المعاصر. لذلك، ليس من المستغرب أن “شريط القديس جاورجيوس” باعتباره رمز تلك الأوقات العصيبة بات رمزاً للعدوان الجديد على أوكرانيا، والسياسة الروسية الحديثة تشبه كثيراً ما حدث في ألمانيا خلال حقبة النازية.
