وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: علاقة السعودية مع الصين.. مخاطرة أم أفق جديد

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

القمة الصينية السعودية وما نتج عنها من اتفاقات ذات طابع تنموي-اقتصادي بالدرجة الأولى،  تشي بأن مساحة الصين الاقتصادية والتكنولوجية آخذة في الاتساع والتجذر، في مناطق كانت تندرج حتى الأمس القريب مناطقَ نفوذ مقفلة، سياسياً وعسكرياً وحتى تقنياً، للولايات المتحدة الأمريكية. بدخول الصين شريكاً اقتصادياً للسعودية بهذا العمق والاتساع، تكون الصين قد دخلت سوقَ المنطقة العربية  من الباب الواسع، لكون السعودية رأس القوة الاقتصادية في العالم العربي، وبحكم تأثير السعودية القوي على اقتصاد وسياسات أكثر الدول العربية.

اقرا ايضا: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: إلغاء شرطة الأخلاق..أول الغيث

قد يترجم البعض، أن هذا سببه انتكاسة في العلاقات السعودية الأمريكية، ومغامرة خطرة في لعبة الصراع السياسي الدائر بين روسيا والمعسكر الغربي، وإعادة تموضع في معركة التنافس الاقتصادي الشديد بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية على السوق العالمي. في حين يرى آخرون بأن ما حصل هو ترجمة لمتغيرات نوعية وسريعة تحصل داخل السعودية نفسها، ليس في علاقتها مع العالم فحسب، وإنما في نظرتها إلى نفسها ورؤيتها لما ستكون عليه في المستقبل، وهو الأرجح.

قد يترجم البعض أن هذا سببه انتكاسة في العلاقات السعودية الأمريكية ومغامرة خطرة في لعبة الصراع السياسي الدائر بين روسيا والمعسكر الغربي

بالتالي، فإن حدث توسيع وتعميق العلاقة مع الصين، هو نتاج فعل مستدام أكثر من كونه رد فعل آني، ومشهد عيني لصورة تحقق جديدة وبعيدة المدى تهدف إليها المملكة العربية السعودية. ما يجعل هذا الحدث أعمق من رسائل ضغط على الأمريكيين، وإن كان ذلك سيكون من تبعاته وآثاره.  وهو أيضاً أبعد من مسعى لتأمين مصادر أمن وحماية أكثر وثاقة ضد التهديد الإيراني، وإن كانت هواجس هذا التهديد ومخاطره، حاضرة باستمرار في أذهان صناع القرار السعودي.    

هي متغيرات لم تظهر من تلقاء نفسها في أذهان السعوديين، إنما جاءت استجابة لسياق متدفق من تحولات العالم نفسه، بحيث لم يعد هذا العالم كما كان منذ سقوط الاتحاد السوفييتي.  فآحادية القوة، التي حازتها الولايات المتحدة حينها، واستثمرتها بشراسة حيناً ووحشية حيناً آخر، في مجال السياسية والاقتصاد والتسليح والتكنولوجيا، هذه الآحادية لم تعد موجودة بنفس الزخم والفاعلية. وصعود اقتصاديات متعددة في العالم مصحوبة بكفاءة علمية وجدارة تنظيمية واقتدار تكنولوجي، سواء أكان في آسيا أو في أوروبا، يدفع باتجاه تفتيت تدريجي لمركزية النفوذ الأمريكي، ونحو توزيع أكثر توازناً لثروات العالم، وتعدد في مرجعيات الإنتاج، وحركة مرنة وسيالة في حركة السوق.  

إن حدث توسيع وتعميق العلاقة مع الصين هو نتاج فعل مستدام أكثر من كونه رد فعل آني ومشهد عيني لصورة تحقق جديدة وبعيدة المدى تهدف إليها المملكة العربية السعودية

هو تحول دحض الكثير من الرهانات وحتى التنظيرات السابقة، حول شروط النهضة ومستلزمات القوة، ونسف المقترحات الايديولوجية والملاذات الدينية التي أتخم بها العالم العربي، والتي تبين أنها لم تكن لغرض تغيير الواقع، أو حتى التخفيف من وطأة انسداداته، بقدر ما كانت لتجاهله والتعالي عليه، أي خلق ادعاءات كاذبة تُحدث انفصاماً عن الواقع نفسه، سواء أكان في وعي حقيقته أو الحضور الفاعل والمؤثر فيه.        

من جديد يقول الإقتصاد كلمته الحاسمة. لكن هذه المرة لا على أساس ما تملكه الدولة من موارد طبيعية، ولا على ضخامة مصانعها وحشود عمالها وموظفيها، بل على أساس الإمكانات الفعلية التي تخلقها وتبتكرها في داخلها، من خلال تفكيك ما يحول بينها وبين ما يمكن أن تقدر عليه، وتأمين كافة شروط التفكر المبتكر والإنتاج المبدع والمبادرة الخلاقة.  هي إمكانات بات البحث العلمي مؤشراً دالاً عليها، والتكنولوجيا الصلبة والناعمة، والحضور القوي في السوق، تجسيداً ملموساً لتحققها الفعلي.    

بالتالي، لم يعد الحضور في العالم قائماً على الانضمام إلى المحاور الكبرى، أو إظهار الشدة والتفوق  العسكريين، أو تأكيد قوة الصمود الثقافي والمتانة الأيديولوجية، أو الالتحاق بقوة عظمى والتظلل بحمايتها أو التدرج في تقليد نموذجها، بقدر ما يتحقق في قدرة الدولة، أية دولة، على إثبات فرادتها وخلق نموذجها الذاتي والمنافس.

 جملة مؤشرات توحي بأن لدى المملكة العربية السعودية توجهاً جدياً، نحو إعادة إنتاج شبكة علاقات وتحالفات وشراكات محتلفة مع دول العالم. أساسه القريب، عدم جدوى الحاجة إلى جهة خارجية تحميها من التدفقات الأيديولوجية والتقلبات الاقليمية والتهديدات الدولية، وأساسه البعيد جهوزية حقيقية عند السعوديين، للانتقال والتحول إلى مستوى وجود ونمط حياة جديدين.

لم يعد الحضور في العالم قائماً على الانضمام إلى المحاور الكبرى أو إظهار الشدة والتفوق  العسكريين أو تأكيد قوة الصمود الثقافي والمتانة الأيديولوجية

هو انتقالٌ وتحولٌ بدأت مؤشراته بإخراج شرعية الدولة ونشاطها وتدبيرها العام، من القول الكلامي (من علم الكلام) والتحديد أو التأطير الفقهي لها، وظهور أنشطة ومساحات تعبير جديدة غير مسبوقة للأفراد أي توسعة مدى الحياة الشخصية، واعتماد سياسة جدية بإطلاق الصناعات التقنية المتقدمة والمعقدة، وبناء علاقات دولية على قاعدة تقديم مصلحة الدولة فوق أي اعتبار، أي ترسيخ استقلالية دولية تمكنها من بناء علاقات وتحالفات، بوحي من ضرورات الدولة لا بإملاء من حليف أو محور أو معسكر. هي مؤشرات تدل على أن المملكة باتت مدركة بأن استيعاب متغيرات العالم، لا يكون بامتصاص ارتدادت هذه المتغيرات أو الوقاية منها، وإنما بإلقاء النفس في هذا العالم والتغير معه.    

أما سؤال التحول نحو الديمقراطية، فهو تطلع ما يزال ضرورة وجودية وحاجة انتظامية في كل دولة عربية، ولا يصح أن تغيب عن بال الحاكم والمحكوم معاً، مهما كانت حميمية العلاقة بينهما عميقة وقوية.  أفهم أن تحقق الديمقراطية، لا يقتصر على قابلية الحاكم لقبول وممارسة الديمقراطية، بل يتطلب قابلية مجتمعية ذاتية ليكون ديمقراطياً أيضاً، ما يعني أن درب تحققها شاق وبعيد الأمد.  إلا أن تغييب هذا المطلب، أي عدم إدراجه في مسار التنمية الطويل، هو منقصة لأية عملية نمو وتطور. فأساس الابتكار والإبداع هو المبادرة الحرة والفكر المبتكر، وهذان لا يمكن إظهارهما إلا داخل مجال سياسي مفتوح، أي ديمقراطي بالمعنى الفعلي لا الشكلي، يطلق إمكانات الفرد وطاقات المجتمع إلى أقصاها.  لنتذكر أن   الصين تجربة نجاح لا نموذج حكم. 

السابق
بعدسة «جنوبية».. وقفة احتجاجية لأهالي اللبنانيين الموقوفين في الإمارات امام «الخارجية»
التالي
بعد الحملة ضدها.. رابطة المودعين تردّ