وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: إلغاء شرطة الأخلاق..أول الغيث

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

أخيرا، أُلغيت شرطة الأخلاق في إيران، لا بسبب خُلقية النظام وتقواه، بل بسبب صلابة الحراك في إيران وإصراره على الذهاب، إلى أقصى ما يلزم لصون حياة الفرد الشخصية وكرامته. جاء الإلغاء لا ليستجيب النظام إلى مطالب المحتجين، الذين لم يتوقف عن اتهامهم بالعمالة والجهل والغباء، وإنما خوفاً على نفسه وبقائه، ومحاولة منه لتهدئة الشارع الإيراني وامتصاص غضبه، بعدما وصل تهديد الحراك إلى أصل شرعية النظام وقيمه الرافعة لهيمنته.

عندها تنتفي صفة الأخلاق عن الفعل الإكراهي أو الإملائي، ونكون أمام أبشع صور الاستبداد السياسي وأعلى أشكال العبودية

أكثر ما أثار استغراب واستهجان الكثيرين، إضافة إلى استنكارهم لمقتل مهسا أميني، هو وجود شرطة غرضها فرض الأخلاق بكل متفرعاتها وملحقاتها داخل المجتمع الإيراني. إذ كيف يكون للأخلاق شرطة، أي قوة تفرضها بالقوة، مع العلم أن الأخلاق فعل يصدر عن الإرادة الحرة بصفتها حرة، أي يكون الفعل الأخلاقي صادراً عنها من ذاتها وبذاتها، من دون إكراه أو إملاء أو ترغيب أو تهديد.

فالفعل الأخلاقي لا يمكن أن يصدر إلا عن إرادة متقومة بحريتها، بحيث لا يعود الفعل الذي يصدر عنها من دون باعث ذاتي لها، أو بإملاء عليها من خارجها فعلاً أخلاقياً، بل يصير فعل طاعة وعبودية وانصياع وقهر. أي يصير إخضاع إرادة لإرادة أخرى، ما يتسبب بإلغاء الإرادة الخاضعة وإفنائها، لتكون على هيئة وصورة من يملي عليها، لا على هيئتها وصورتها الذاتيتين. عندها تنتفي صفة الأخلاق عن الفعل الإكراهي أو الإملائي، ونكون أمام أبشع صور الاستبداد السياسي وأعلى أشكال العبودية.

لكن السؤال: لماذا تريد السلطة في إيران أن تفرض سلوكاً أخلاقياً، يفترض به أن يكون ذاتياً أي يصدر عن كل فرد بنحو طوعي واختياري وإرادي حر؟

الجواب، هو أن السلطة تريد أخذ درجة هيمنتها ومساحة سطوتها، إلى مستوى أعلى وأوسع من مجرد الإمساك بمؤسسات الدولة وتدبير الحياة العامة. فهذه جميعها أمور خارجية وظاهرية، لكن لا يمكن أن تتغلغل إلى باطن الإنسان ودوافعه الذاتية. أما أن تمنح السلطة نفسها صلاحية تحديد السلوك الأخلاقي، أي مجموعة القيم التي تحدد الفعل الإنساني، إضافة إلى إعطاء نفسها صلاحية حمل هذه القيم وفرضها على المجتمع، فهذا غرضه إقامة ملازمة وترابط، بين طاعة النظام السياسية والقيمة الأخلاقية، ليصبح عصيان الدولة أو معارضتها فعلاً لا أخلاقيا ومنافياً للفضيلة، مثلما حرص النظام، وفق نظرية ولاية الفقيه، على إقامة ملازمة بين طاعة النظام وطاعة الله، لتكون معصية النظام ومعارضته معصية لله، وموجبة للعقاب الإلهي والابتعاد عن رحمته.

لا يعود تأثير السلطة مقتصراً على صناعة القرار أو تنفيذ أجندة خاصة، بل تتغلغل إلى مستويات أعمق وغير مرئية

هي محاولة تطويع جوانية وباطنية لأفراد المجتمع، أي تريد السلطة التربع داخل ضمائر الناس ودوافعهم الذاتية لتصادرها وتمتلكها، بغرض تنميطها وتجويفها من الداخل وإلغاء قدرة الاختيار الحر. وهذا يكون عبر إنتاج السلطة لقيم المجتمع وتفضيلاته ونمط عيش الإنسان فيه، تحديد ما هو الخير والشر، الفضيلة والرذيلة. بالتالي صياغة وتشكيل الإدراك والوعي والتفضيلات داخل المجتمع، بطريقة تضمن الانصياع الباطني والطوعية التلقائية لصالح النظام القائم. بالتالي لا يعود تأثير السلطة مقتصراً على صناعة القرار أو تنفيذ أجندة خاصة، بل تتغلغل إلى مستويات أعمق وغير مرئية، وهي باطن الفرد لتحدد له تفضيلاته ومعايير استقامته الخاصة، لغرض توليد المجتمع الانضباطي، أي المجتمع الذي ينصاع من تلقاء ذاته للنظام، بعدما كان ينصاع بالإكراه والقوة.

فالسلطة العليا عموماً، لا يكفيها الخوف أو القهر لفرض طاعتها وضمان استمرايتها، لأن الاقتصار على ذلك يعرضها للاهتزاز والتمرد عليها، في أية لحظة ضعف أو غفلة من السلطة. بل يعنيها أيضاً الانصياع الإيجابي والاستجابة الطوعية والولاء الذاتي للمحكومين. لتكون السلطة بذلك، لا سلطة أمر فحسب، بل القوة التي تؤسس قواعد الوعي والفهم والقيمة والمعرفة، وتقدم في كل ظرف مجتمعي خاص، مقترحاً يجعل السلطة القائمة في قلب المعنى الوجودي والحياتي للإنسان، ويجعل السلطة تتربع في داخل وباطن كل فرد، قبل أن تمارس تقنيات عقابها وإكراهها.

السلطة لا يكفيها لكي تستمر وتتجذر، أن تحقق المطلوب من الأفراد حتى لو كان ذلك بالقوة، بل يهمها أن تنشىء داخل الجسد علاقة ضابطة ومتزايدة، تنتج سيطرة متزايدة عليه

من هنا، كان الحجاب مدخلاً مهماً للتحكم بالجسد. سواء بتصويره فعلاً أخلاقياً، أو تصوير عدم ارتدائه منافياً للفضيلة، أو حتى إظهاره شكلاً من أشكال التهتك الديني. بالتالي إظهار السلطة نفسها ممثلة للدين وحامية له، ومجسدة للفضيلة الأخلاقية وداعية لها. أي تنشئ السلطة وحدة ولحمة بينها وبين الدين لتقول: أنا الدين كله، والإيمان يكون بي ومن خلالي، ولتعلن نفسها كائنا كلياً تنبع من داخله القيمة الأخلاقية، وتتحقق به وعبره الفضيلة.

لم يكسب الشعب الإيراني جولة في مسار مواجهته مع النظام القائم فحسب، بل نجح في إخراج الاخلاق والدين معاً من وصاية هذا النظام

فرضُ النظام شكلَ لباس معين، هو دخول على الحياة الشخصية، ووضع المعايير والضوابط لحركة الجسد وهيئته وشكله، ليكون بالإمكان التحكم بإيماءات هذا الجسد وسلوكاته وطريقة تحريك أعضائه. فالسلطة لا يكفيها لكي تستمر وتتجذر، أن تحقق المطلوب من الأفراد حتى لو كان ذلك بالقوة، بل يهمها أن تنشىء داخل الجسد علاقة ضابطة ومتزايدة، تنتج سيطرة متزايدة عليه. بالتالي يكون بإمكان السلطة فرض نفسها لا بالإكراه المباشر والممتلىء بالرعب، بل بإنشاء سلطة انضباط ذاتية داخل الأفراد، تجعل جسد الفرد، في حركاته وإيماءاته ومظهره، مرآة للنظام وتجسيداً خارجياً له.

مع إلغاء شرطة الأخلاق في إيران، لم يكسب الشعب الإيراني جولة في مسار مواجهته مع النظام القائم فحسب، بل نجح في إخراج الاخلاق والدين معاً من وصاية هذا النظام، وفي ترسيخ الهوة التي تفصل بينه وبين النظام. بالتالي ارتقى الصراع بين الطرفين: المجتمع والنظام، من تنظيم العلاقة بينهما، إلى صراع وجود: إما.. أو.

السابق
بعد مباراة نارية.. فوز تاريخي للمغرب على اسبانيا يحملها الى الربع النهائي!
التالي
بالأرقام: البنك الدولي يكشف «نسبة التحويلات» في لبنان