الطريق إلى رئاسة الجمهورية (9) رينيه معوَّض الرئيس – الحلم.. والشهيد الأول لـ«الجمهورية الثانية»!

رينيه معوض
أعد الكاتب السياسي ياسين شبلي، على أبواب نهاية العهد، سلسلة مقالات خاصة ينشرها "جنوبية" على حلقات، عبارة عن بروفايل للرؤساء السابقين منذ الإستقلال وحتى اليوم، مع الظروف السياسية التي رافقت وصول كل منهم إلى الحكم، وطريقة ممارستهم لمهامهم وظروف مغادرتهم الموقع.


“رئيس سيء الحظ لبلاد سيئة الحظ”، هكذا وصف أحدهم الرئيس التاسع للجمهورية اللبنانية الأولى ، والأول للجمهورية الثانية، الراحل رينيه معوَّض، في معرض حديثه عنه في تسعينيات القرن الماضي مع الصحافي غسان شربل في تحقيق نُشِرَ يومها في جريدة ” الحياة ” اللندنية، وهو أدق توصيف يمكن أن يكون في حالة رينيه معوض، ويتشابه في ذلك مع بعض الظروف، وحال إثنين ممن سبقوه وهما إلياس سركيس وبشير الجميل.

اقرأ أيضاً: الطريق إلى رئاسة الجمهورية (8): أمين الجميل.. من «مغامرة الإنقاذ» إلى «مغامرة الفراغ»!


ولد رينيه معوض في 17 آذار عام 1925 في بلدة زغرتا في شمال لبنان، تلقى علومه الإبتدائية في معهد الفرير في طرابلس، ثم علومه التكميلية والثانوية في معهد الأباء العازاريين في عينطورة، تخرج من كلية الحقوق في جامعة القديس يوسف عام 1947، وتدرج في مكتب الرئيس عبدالله اليافي.

“رئيس سيء الحظ لبلاد سيئة الحظ” هكذا وصف أحدهم الرئيس التاسع للجمهورية اللبنانية الأولى والأول للجمهورية الثانية الراحل رينيه معوَّض


دخل المعترك السياسي في العام 1951، مرشحاً للنيابة على لائحة الزعيم الزغرتاوي حميد فرنجية ولم يوفق في المرة الأولى، فأعاد الكَرّة لينتخب نائباً في العام 1957 عن زغرتا، وأعيد إنتخابه نائباً عنها حتى تنصيبه رئيساً للجمهورية في 5 تشرين الثاني من عام 1989.
تولى الوزارة لأربع مرات منذ العام 1961 وحتى العام 1980 وكانت الأولى في عهد الرئيس فؤاد شهاب نفسه، ومرتين إبان عهد الرئيس شارل حلو الذي خلف الرئيس شهاب في منصب الرئاسة، وآخرها في عهد الرئيس إلياس سركيس المحسوب هو الآخر على النهج الشهابي، ولم يأتِ هذا صدفة أو من فراغ، فرينيه معوض الذي بدأ حياته السياسية عملياً إبان العهد الشهابي، كان من أشد المعجبين بفؤاد شهاب وبالتالي تأثر بالنهج الشهابي في الحكم، وكان هذا طبيعياً بحكم تميزه بالإعتدال وتفهمه لعمق وأبعاد وأصول اللعبة السياسية في لبنان والمنطقة، وكذلك علاقاته الشخصية وقدرته على التفاوض والحوار، ما جعله موضع ثقة مختلف الأطراف والفاعليات، وأهَّله ليكون رجل المهمات السياسية الدقيقة ومبعوثاً للرئيس فؤاد شهاب إلى الرئيس جمال عبد الناصر عدة مرات، وكذلك مبعوثاً للرئيس إلياس سركيس لدى عدة رؤساء عرب إبان التحضير للقمة العربية العاشرة في تونس في شهر تشرين الثاني من عام 1979، من أجل دعم ورقة العمل اللبنانية حول الوضع الخطير في جنوب لبنان.

كان من أشد المعجبين بفؤاد شهاب وبالتالي تأثر بالنهج الشهابي في الحكم وكان هذا طبيعياً بحكم تميزه بالإعتدال وتفهمه لعمق وأبعاد وأصول اللعبة السياسية في لبنان


إبان الحرب الأهلية حافظ رينيه معوض على إعتداله وتواصله مع كافة الأفرقاء اللبنانيين، وعلى الرغم من علاقاته الثابتة مع آل فرنجية في منطقته، إلا أن هذا لم يكن يوماً ليثقل أو يكبِّل حركته السياسية تجاه الآخرين، كانت له إستقلاليته التي جعلته معجباً بكمال جنبلاط وصديقاً مقرباً لرشيد كرامي، إستقلالية جعلته ينتخب لصالح إلياس سركيس عام 1970 ضد الرئيس سليمان فرنجية، ولصالح بشير الجميل عام 1982، هذه النزعة الإستقلالية دون إنعزال، والإعتدال دون تفريط، والمثابرة دون كلل أو ملل في محاولة إجتراح الحلول وهو الذي وصفه صديقه وزميله نصري المعلوف ب “الرجل الذي يحفر الجبل بإبرة”، هذه الصفات كلها هي التي جعلت منه مرشحاً جدياً لرئاسة الجمهورية، خاصة بعد “حفلات الجنون” التي إجتاحت البلد بعد أول فراغ رئاسي، بُعيد إنتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل عام 1988، وتولي العماد ميشال عون رئاسة الحكومة العسكرية والإنقسام الذي تعمَّق يومها وأدى إلى حروب متتالية، إستدعت عقد مؤتمر الطائف تحت ضغط التطورات الإقليمية والدولية التي كانت سائدة أنذاك. تم الإتفاق في الطائف فطار صواب الجنرال في بعبدا، وتجلَّت ردة فعله بحل مجلس النواب ليلة الجلسة التي كان سيعقدها لإقرار الإتفاق، ولكن ما كان كُتب إقليمياً ودولياً قد كُتب ولو على مضض من بعض الأطراف المتضررة، لم يكترث مجلس النواب لقرار عون بحله، فإجتمع يوم 5 تشرين الثاني عام 1989 في مطار القليعات العسكري في شمال لبنان، حيث أعيد إنتخاب رئيس مجلس النواب حسين الحسيني، تلاه إقرار وثيقة الوفاق الوطني التي عُرفت ب “إتفاق الطائف” بأغلبية 58 نائباً وتحفظ 3 هم حسن الرفاعي وفريد جبران وشفيق بدر، وبعدها بدأت عملية إنتخاب رئيس الجمهورية من ضمن 3 مرشحين، هم رينيه معوض الذي نال في الدورة الأولى 35 صوتاً، وجورج سعادة الذي نال 16 صوتاً، وإلياس الهراوي الذي نال 5 أصوات، لينسحب في الدورة الثانية كل من سعادة والهراوي ويُنتخَب رينيه معوض ب 52 صوتاً، ويقسم اليمين في الجلسة ذاتها، ويكلف لاحقاً الرئيس سليم الحص بتشكيل حكومة العهد الأولى.

سبعة عشر يوماً هي الفاصل ما بين إنتخاب الرئيس رينيه معوض وإستشهاده يوم عيد الإستقلال في 22 تشرين الثاني 17 يوماً كانت حافلة بالتطورات والمشاورات في ظروف إستثنائية غير طبيعية


سبعة عشر يوماً هي الفاصل ما بين إنتخاب الرئيس رينيه معوض وإستشهاده يوم عيد الإستقلال في 22 تشرين الثاني، 17 يوماً كانت حافلة بالتطورات والمشاورات في ظروف إستثنائية غير طبيعية، حيث الرئيس مهجَّر ولم يتمكن من قصره الذي بقي تحت سيطرة الجنرال “المتمرد” ميشال عون الذي رفض نتيجة الإنتخابات الرئاسية، ما إضطر الرئيس ل “اللجوء” إلى مقر مؤقت – بدل عن محتل – وهو عبارة عن مبنى في منطقة الرملة البيضاء قدَّمه يومها رجل الأعمال رفيق الحريري، وأمنت له الحماية القوات السورية بقيادة جامع جامع التي كانت مكاتب مخابراتها في مبنى البوريفاج الملاصق تقريباً للمبنى “الرئاسي”، مع بعض الوحدات من الجيش اللبناني، التابعة لحكومة الرئيس سليم الحص في المنطقة الغربية من بيروت.

من أهم التطورات في هذه الفترة الفاصلة كان إجتماعه بنائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام الذي قيل وكتب الكثير حوله أهمها أنه لم يكن إجتماعاً سهلاً بشكل يذكِّر بإجتماع الرئيس الأسبق الجميل الشهير مع رئيس وزراء إسرائيل


من أهم التطورات في هذه الفترة الفاصلة، كان إجتماعه بنائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام، الذي قيل وكتب الكثير حوله، أهمها أنه لم يكن إجتماعاً سهلاً بشكل يذكِّر، بإجتماع الرئيس الأسبق بشير الجميل الشهير مع رئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن عام 1982 في نهاريا، قيل وقتها في الكواليس السياسية اللبنانية بأن الرئيس معوض لم يكن متحمساً لحسم الموقف مع الجنرال عون بالقوة على عكس الموقف السوري، بل أن هناك من أكد بأن إسم ميشال عون كان مطروحاً من الرئيس معوض كوزير دفاع في حكومة العهد الأولى – كبادرة حل وتسوية – وهذا طبعاً لم يكن ليرضي السوريين، كما قيل يومها بأن معوض طلب من القيادة السورية، وكبادرة حسن نية ودعم للعهد أن يتم إنسحاب القوات السورية من منطقتي البترون والكورة في شمال لبنان، كما أنه رفض أسماء للتوزير حملها معه نائب الرئيس السوري خدام ومنها إسم الوزير ميشال المر، مؤكداً له بأن وزراء حكومته سيكونون كلهم من المعادين لإسرائيل، ولكنه هو وبالإتفاق مع الرئيس سليم الحص هم من سيشكل الحكومة كما ينص إتفاق الطائف.

رفض أسماء للتوزير حملها معه نائب الرئيس السوري خدام ومنها إسم الوزير ميشال المر مؤكداً له بأن وزراء حكومته سيكونون كلهم من المعادين لإسرائيل،


يوم عيد الإستقلال أصرَّ أن يقام حفل الإستقبال في القصر الحكومي، لما يمثل من رمز للشرعية وليس في مقر إقامته المؤقت، وفي طريق عودته من الحفل أغتيل بعبوة ناسفة قدرت زنتها ب 250 كلغ من المتفجرات وضعت إلى جانب الطريق، ليكون الرئيس اللبناني الثاني بعد بشير الجميل الذي لم يُقدَّر له الحكم وفي ظروف متشابهة، وفي حين تم التعرف على الفاعل في قضية بشير، فإن ملف قضية الرئيس رينيه معوض للأسف، هو ملف فارغ من أي إشارات أو معطيات تفيد بهوية القاتل، أو حتى ورقة توحي بجدية التحقيقات التي أجريت كما تقول عائلة الرئيس، الأمر الذي ترك المجال للإتهام السياسي كلٍ بحسب توجهه، لكن الأكيد بأن إغتيال الرئيس رينيه معوض، كان هو المحاولة الأولى لإغتيال إتفاق الطائف” من قِبَل المتضررين، لأنه كان يمثِّل الأمل الوحيد يومها، لوقف أنهار الدم بين اللبنانيين وإعادة الُلحمة بينهم، خاصة وأن رينيه معوض، كان كما وصفه الصحافي غسان شربل،”يشبه الحل الذي حمله للرئاسة ، وأنه كان فرصة لمصالحة إتفاق الطائف مع الشهابية في رحاب الدولة، دولة المؤسسات التي تعثُر عليها في النصوص ولا تعثر عليها في الوطن، لأنه كان من أولئك الرجال الذين يعرفون قصة لبنان بمبررات قيامه وإستمراره، من قماشة الذين “إخترعوا” لبنان كبشارة الخوري ورياض الصلح وأخرين، وقماشة الذين حفظوا السر كفؤاد شهاب وإلياس سركيس وصائب سلام ورشيد كرامي وتقي الدين الصلح وآخرين.

لقد رأى البعض في إغتيال رينيه معوض، إغتيالاً لروح الطائف بغرض إفراغه من مضمونه


لقد رأى البعض في إغتيال رينيه معوض، إغتيالاً لروح الطائف بغرض إفراغه من مضمونه، ودليلهم هو طريقة تطبيق الطائف بعد ذلك، التي كانت أقرب إلى تنفيذ “الإتفاق الثلاثي” الذي رعته سوريا في منتصف الثمانينات، مستغلة تطورات الوضع الإقليمي والدولي بعد الغزو العراقي للكويت، وإطلاق يدها في لبنان مقابل تعاونها في حرب “عاصفة الصحراء”، ويعززون هذا الدليل كذلك بعملية إغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 مع تغير الظروف الإقليمية والدولية مرة أخرى، وما بدا يومها بأنه بداية سحب التفويض الذي أعطي للنظام السوري عبر إصدار القرار 1559، وما تبعها من تطورات وصراعات ومحاولات لا تزال حتى اليوم للإنقلاب على “إتفاق الطائف”، وهو ما يؤكده قيام المملكة العربية السعودية عبر سفارتها في لبنان مؤخراً، بالدعوة لعقد منتدى “الطائف 33” لإعادة التأكيد على مرجعية هذا الإتفاق .

صحيح “أنه لم يحكم كي يتسنى للبنانيين والتاريخ إصدار حكم تفصيلي له أو عليه لكن أسلوب الرئيس في جمهورية ال 17 يوماً أرسل إشارات تعبر عن إختلاف أسلوبه”


أحلام لبنانية كثيرة إنهارت في النصف الثاني من قرن ولادة لبنان الكبير، كان منها بلا أدنى شك حلم رينيه معوض، صحيح “أنه لم يحكم كي يتسنى للبنانيين والتاريخ إصدار حكم تفصيلي له أو عليه، لكن أسلوب الرئيس في جمهورية ال 17 يوماً أرسل إشارات تعبر عن إختلاف أسلوبه”، كما يقول غسان شربل، وربما هذا الأسلوب هو ما عجَّل في إغتياله، الأسلوب اللبناني النقي دون خلفيات ثأرية طائفية كانت أم سياسية، أسلوب إختصره الرئيس الراحل في آخر كلماته إلى اللبنانيين عندما خاطبهم “مودعاً” دون أن يدري قائلاً، “أيها اللبنانيون .. التاريخ لا يلغى بقرار، الثاني والعشرون من تشرين الثاني سيبقى يوم الإستقلال، سنحوله من ذكرى إلى عيد، وبالإيمان وبالمحبة بالتعاون والتضامن، نمحو الحزن ننتصر على اليأس ، نستعيد شرف الإنتماء، هوية واحدة لأرض واحدة، ندائي إليكم سؤال من القلب إلى القلب: هل نحب هذا الوطن؟ أعرف الجواب، تعالوا إذن نتحد نبني معاً نفرح ونعيش. عاش لبنان “.. ولكن كان للقتلة كلام آخر، في محاولة منهم لإلغاء التاريخ بقرار ولا زالوا، ولكن عبثاً يحاولون فالتاريخ لن يلغى بقرار.. ولن يرحم.

السابق
المنظومة السياسية اللبنانية تتشاحن كأن «عصر» الترسيم لم يبدأ
التالي
رسالة من لقمان (21): الطبع فاق التطبيع