الطريق إلى رئاسة الجمهورية (8): أمين الجميل.. من «مغامرة الإنقاذ» إلى «مغامرة الفراغ»!

امين الجميل
أعد الكاتب السياسي ياسين شبلي، على أبواب نهاية العهد، سلسلة مقالات خاصة ينشرها "جنوبية" على حلقات، عبارة عن بروفايل للرؤساء السابقين منذ الإستقلال وحتى اليوم، مع الظروف السياسية التي رافقت وصول كل منهم إلى الحكم، وطريقة ممارستهم لمهامهم وظروف مغادرتهم الموقع.

“أعطونا السلام وخذوا منا ما يدهش العالم”، بهذا الشعار بدأ الشيخ أمين الجميل الرئيس الثامن للجمهورية اللبنانية عهده، الذي بدأ في 23 أيلول 1982 خلفاً لأخيه الراحل بشير الذي أغتيل قبل ذلك ب 9 أيام، رافعاً هدف وتحدي بعنوان “مغامرة الإنقاذ”، في وقت كان البلد يرزح تحت ثقل الإحتلال العسكري الإسرائيلي، ويعيش الإنقسام على كافة المستويات، كما كان لا يزال يعيش صدمة مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا، حيث ذُبح الآلاف من المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين، على أيدي الميليشيات المسيحية إنتقاماً لمقتل الرئيس بشير الجميل.

إقرأ أيضاً: الطريق إلى رئاسة الجمهورية (6):إلياس سركيس..«الآدمي في غير أوانه»!


ولد أمين الجميل الإبن الأكبر لرئيس حزب الكتائب اللبنانية بيار الجميل، في 22 كانون الثاني من عام 1942 في بكفيا، إنتسب للحزب وهو في ال 19 من عمره، حصل على شهادة الحقوق من جامعة القديس يوسف ومارس المحاماة إبتداء من العام 1965، ترشح للإنتخابات النيابية الفرعية عام 1970 خلفاً ووريثاً لخاله موريس الجميل، الذي توفي جراء نوبة قلبية وهو يلقي خطاباً تحت قبة البرلمان، بقي نائباً حتى إنتخابه رئيساً للجمهورية عام 1982 بعد أن كان أعيد إنتخابه في العام 1972، العام الذي عُيِّن فيه رئيساً لإقليم المتن الشمالي الكتائبي حيث معقل حزب الكتائب، وكان يمثِّل “التيار المعتدل” في الحزب بلغة تلك الأيام، قياساً لشقيقه الأصغر بشير الذي كان توجهه عسكرياً ميدانياً أكثر منه سياسي، إذ كان الشيخ أمين يتمتع بعلاقات سياسية مباشرة مع قادة منظمة التحرير الفلسطينية وكذلك مع سوريا.

“أعطونا السلام وخذوا منا ما يدهش العالم” بهذا الشعار بدأ الشيخ أمين الجميل الرئيس الثامن للجمهورية اللبنانية عهده الذي بدأ في 23 أيلول 1982


مع بداية الحرب الأهلية وقبل أن يسطع نجم أخيه بشير، كان لأمين الجميل صولات وجولات سياسية في البرلمان، دفاعاً عن الحزب في وجه الدعوة لعزله بعد حادثة بوسطة عين الرمانة، ولعل أشهر صورة له كانت في البرلمان وهو يصفع رئيس الوزراء أنذاك رشيد الصلح، بعد إشتباكه معه على خلفية إستقالة حكومته بعد معارضته إنزال الجيش اللبناني، لضبط الوضع المتفلت في الشارع وتحميله حزب الكتائب المسؤولية عن التوتر الحاصل، كما كان مسؤولاً عسكرياً عن قوات الحزب في المتن الشمالي مع بدايات الحرب الأهلية، بحيث كانت من أوائل القوات التي تسلمت أسلحة من إسرائيل في ذلك الوقت، بالإضافة إلى قوات نمور الأحرار وقوات بشير، قبل أن يخضع لإرادة والده بعدها بدمج كامل قوات الحزب بالقوات اللبنانية تحت قيادة أخيه الأصغر، بعد أن سطع نجمه وبات الرجل القوي في المنطقة المسيحية، ما وضعه في الظل إلى أن عاد إلى الواجهة بعد إغتيال بشير مرشحاً للرئاسة من قِبَل المكتب السياسي الكتائبي وبالإجماع لخلافة شقيقه، وهو الترشيح الذي أشيع بأن والده الشيخ بيار لم يكن راغباً به.

مع بداية الحرب الأهلية وقبل أن يسطع نجم أخيه بشير كان لأمين الجميل صولات وجولات سياسية في البرلمان دفاعاً عن الحزب في وجه الدعوة لعزله بعد حادثة بوسطة عين الرمانة


في 16 أيلول وصل أرييل شارون إلى بكفيا لتقديم التعازي بوفاة بشير، وإجتمع مع بيار وأمين الجميل اللذين أكدا له، أنهما إطَّلعا على محضر آخر إجتماع له مع بشير وإنهما يلتزمان بمضمونه، فكان أن أيدت إسرائيل ترشيحه، وكذلك فعلت الولايات المتحدة الأميركية عبر مبعوثها فيليب حبيب، بعد إتصالات مكثفة مع مختلف الأطراف، ما حدا بكميل شمعون إلى سحب ترشيحه الذي كان قد أعلنه في 17 أيلول، أما فرنسا فقد إقترحت تمديد ولاية إلياس سركيس لمدة سنتين، إلا أن الأخير رفض الإقتراح بشدة فلم يبقَ أمامها سوى الموافقة فأيدت بدورها. عربياً لم تمانع سوريا ترشيح أمين الجميل كما أنها لم تؤيد وكذلك فعلت السعودية. داخلياً كان الرئيس صائب سلام أول المبادرين فأعلن بإسم التجمع الإسلامي تأييده لأمين الجميل، كذلك فعل الرئيس كامل الأسعد بإسم كتلته النيابية، حيث سارع بتعيين جلسة إنتخاب الرئيس يوم 21 أيلول أي قبل يومين من إنتهاء ولاية الرئيس سركيس، فإجتمع مجلس النواب في المدرسة الحربية بالفياضية، وإنتخب أمين الجميل في الدورة الأولى، بأكثرية 77 صوتاً من أصل 80 حضروا الجلسة، ليصبح الرئيس الثامن للجمهورية.
هكذا بدأ أمين الجميل عهده بدعم محلي وإقليمي ودولي كبير، وكانت القوات متعددة الجنسيات المكونة من أميركا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، قد دخلت لبنان للإشراف على إنسحاب قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، ثم عادت مرة أخرى بعد مجازر صبرا وشاتيلا وإنتخاب الجميل بذريعة حماية المدنيين – بعد خراب بيروت – وكبادرة دعم للعهد الجديد.

إختار أمين الجميل الرهان على أميركا وحدها لإعتقادهبأن 99 في المائة من أوراق اللعبة في يدها،فتجاهل بقية العوامل الموضوعية في منطقة متفجرة كمنطقة الشرق الأوسط


إختار أمين الجميل الرهان على أميركا وحدها لإعتقاده – كما الرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي كان قد أُغتيل قبل ذلك بعام – بأن 99 بالمائة من أوراق اللعبة في يدها، فتجاهل بقية العوامل الموضوعية في منطقة متفجرة كمنطقة الشرق الأوسط ووضع كل بيضه في السلة الأميركية، فكان أن تبنى الطرح الأميركي ببدء المفاوضات الإسرائيلية – اللبنانية لبحث إنهاء الإحتلال الصهيوني للأراضي اللبنانية، فكانت إتفاقية 17 أيار التي ترافقت مع سياسات داخلية وممارسات غير متوازنة ومستفزة، بحيث تعامل مع الوضع وكأنه عشية الحرب الأهلية في العام 1975، لاغياً بذلك 7 سنوات من المتغيرات جراء الحرب والمآسي التي دمرت البلد والشعب، وذلك عبر دخول الجيش بقوة للمنطقة الغربية الإسلامية من بيروت وضاحيتها الجنوبية، وبطريقة بدت “إنتقامية” بذريعة نزع السلاح من أيدي الميليشيات، وذلك من دون معاملة المنطقة الشرقية المسيحية بالمثل، هي التي كانت تحت سيطرة القوات اللبنانية المسيحية، التي لم تكن على إنسجام مع أمين الجميل منذ أيام بشير، فكانت النتيجة إعتقال وإختطاف المئات من الشباب، الذين فُقِد أي أثر لهم بعد ذلك وحتى اليوم، ما ولَّد نقمة كبيرة تلاها إشتباكات عنيفة وطاحنة في الضاحية الجنوبية لبيروت بين الجيش وحركة أمل، ترافقت أيضاً مع جملة ممارسات وتجاوزات في منطقة الجبل، من جانب القوات اللبنانية ضد المواطنين الدروز بتحريض وغض نظر من إسرائيل، قبل أن تسحب قواتها تاركة الفريقين وجهاً لوجه، فكانت حرب الجبل التي تزامنت مع تصاعد الحرب الباردة، بين الجبارين يومها بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان، وكذلك مع التغييرات في القيادة في موسكو تمثلت بوصول رئيس المخابرات يوري أندروبوف إلى السلطة، الذي عوَّض سوريا بعضاً من خسائرها في لبنان جراء الغزو الصهيوني، كما دخل بقوة على خط دعمها وحلفائها في لبنان في مواجهة قوات الأطلسي والمدمرة نيوجرسي، رداً على الدعم الغربي ل “المجاهدين” في أفغانستان.

بدأ العام 1984 على ستاتيكو داخلي بإستثناء إنسحاب القوات الأطلسية إلى البحر كما ذكرنا ما كان يؤشر إلى بداية فشل رهان أمين الجميل على الأميركيين


هُزمت القوات اللبنانية المدعومة من بعض وحدات الجيش اللبناني بقيادة ميشال عون في الجبل، وجاءت الضربة الحاسمة من تفجير مقر المارينز والقوات الفرنسية، قرب مطار بيروت في تفجير إنتحاري في 23 تشرين أول 1983، ما دفع قوات متعددة الجنسيات إلى الإنسحاب إلى البحر بداية في أوائل العام 1984، قبل الإنسحاب النهائي من لبنان في شهر تموز من نفس العام. جاء التفجير في غمرة التحضير لمؤتمر حوار في جنيف بين مختلف الأطراف اللبنانية، سعت إليه المملكة العربية السعودية عبر وسيطها الأمير بندر بن سلطان، يعاونه في مهمته رجل الأعمال اللبناني يومها رفيق الحريري، عقد المؤتمر في 31 تشرين الأول من دون الإتفاق على إلغاء إتفاق 17 أيار، وخرج ببيان عمومي لم يغير من الواقع شيء.
بدأ العام 1984 على ستاتيكو داخلي، بإستثناء إنسحاب القوات الأطلسية إلى البحر كما ذكرنا، ما كان يؤشر إلى بداية فشل رهان أمين الجميل على الأميركيين، خاصة بعد أن إندلعت ما سميت بعدها إنتفاضة 6 شباط 1984 ضد السلطة، وكانت إستكمالاً لمعركة أيلول 83 في كل من الضاحية والجبل، ولكنها هذه المرة كانت أعنف وأشرس، وأدت إلى إنشقاق وحدات من الجيش، لتنضم إلى ميليشيا حركة أمل والحزب التقدمي الإشتراكي، ما أدى إلى إنهيار سلطة أمين الجميل في المناطق الإسلامية، الأمر الذي دفع المملكة العربية السعودية مجدداً للتوسط، فكانت زيارة أمين الجميل إلى سوريا في أواخر شباط، تلاها إلغاء إتفاقية 17 أيار في 5 آذار، لينعقد بعدها مؤتمر لوزان للحوار من 12 آذار وحتى ال 20 منه.

أسفر مؤتمر لوزان عن تشكيل حكومة وحدة وطنية كان في عدادها لأول مرة قادة الميليشيات في المنطقة الغربية كنبيه بري ووليد جنبلاط اللذين خاضا بعدها حرب مع حركة “المرابطون” في غرب بيروت


أسفر مؤتمر لوزان عن تشكيل حكومة وحدة وطنية، كان في عدادها لأول مرة قادة الميليشيات في المنطقة الغربية، كنبيه بري ووليد جنبلاط اللذين خاضا بعدها حرب مع حركة “المرابطون” في غرب بيروت، على خلفية الخلاف القديم – الجديد بين منظمة التحرير والنظام السوري، ما خلَّف بداية إحتقان سني – شيعي يومها، في حين لم يكن الوضع أفضل في المنطقة الشرقية، حيث القوات اللبنانية التي إعتبرت بأن مؤتمر لوزان جاء لمصلحة خصومها، ومع إنكفاء سلطة أمين الجميل إلى المنطقة الشرقية، أصبح لا بد من المواجهة بين الطرفين، لمحاولة الإمساك بالأرض وتحقيق أهداف سياسية في مواجهة الفريق الآخر.
في هذه الأجواء الملبَّدة، توفي الشيخ بيار الجميل مؤسس حزب الكتائب ووالد الرئيس أمين الجميل في 29 آب 1984، ما جعل الرئيس الجميل وحيداً دون غطاء معنوي كبير كان يوفره له والده بتاريخه وهيبته، ما دفعه لمحاولة السيطرة على القوات اللبنانية وذلك عبر دعم وصول إبن شقيقته فؤاد أبو ناضر لقيادة القوات اللبنانية أواخر عام 84، ساعده على ذلك النكسات المتتالية، التي تعرضت لها القوات في السنتين الأخيرتين بعد إغتيال قائدها الرئيس بشير الجميل، لتبدأ بعدها سلسلة جديدة من الصراع المسيحي – المسيحي، عبر عدد من “الإنتفاضات” داخل القوات اللبنانية كان أولها في 12 آذار 1985، حيث قاد الإنتفاضة ضد فؤاد أبو ناضر، ترويكا ضمت إيلي حبيقة وسمير جعجع وكريم بقرادوني، ليبدأ إيلي حبيقة مباحثات سرية مع سوريا من ضمن الصراع على السلطة مع أمين الجميل، وكذلك داخل القوات نفسها بين حبيقة وجعجع، بسبب فقدان عامل الثقة بين الرجلين.

المواجهة بين الطرفين لمحاولة الإمساك بالأرض وتحقيق أهداف سياسية في مواجهة الفريق الآخر.


في 28 نيسان تم الإنسحاب الإسرائيلي من قرى شرق صيدا، بالطريقة التي سبق أن نفذها في الجبل، ليتكرر سيناريو حرب الجبل ويحصل تهجير المسيحيين من المنطقة، ليُستغل هذا كله ضمن الصراع الداخلي في القوات بين إيلي حبيقة وسمير جعجع، فضلاً عن الصراع بين أمين الجميل والقوات، فكان أن أعلن حبيقة في 9 أيار، وفي عملية يصفها كريم بقرادوني ب “الإستعراضية” عن ما يشبه “الإنقلاب الأبيض” داخل القوات ضد سمير جعجع، على خلفية عرضه رسالة وقَّع عليها سمير جعجع تفوض أمين الجميل الحوار مع سوريا بإسم القوات، وهي رسالة يقول بقرادوني بأنها كانت مجرد إقتراح منه، وإن حبيقة كان على إطلاع عليها ورفض توقيعها، ولم تكن رسالة سرية ما بين جعجع والجميل، المهم أن حبيقة ربح الجولة داخل الهيئة التنفيذية للقوات وأُنتخب رئيساً لها، لينكفئ سمير جعجع بعدها وتخلو الساحة لحبيقة، الذي واصل إتصالاته مع السوريين الذين كانوا يعدون لحوار ثلاثي بين القوى التي تسيطر على الأرض، وهي إضافة للقوات اللبنانية التي تمثل المسيحيين، حركة أمل ممثلة للشيعة والحزب التقدمي الإشتراكي ممثلاً للدروز، فكان الإتفاق الثلاثي الذي وُقِّع في دمشق بين الأطراف الثلاثة في 28 كانون أول 1985، في ظل رفض مسيحي واسع له وعدم رضى سني كذلك كون السُنة غيبوا عن الإتفاق، حاول أمين الجميل تعديل بعض بنود الإتفاق في زيارتين لدمشق في غضون عشرة أيام، ولكن دون جدوى فما كُتب قد كتب، عاد إلى بيروت ليقع الإنقلاب على الإتفاق الثلاثي في 15 كانون الثاني 1986 بتنسيق بينه وبين قوات جعجع، حيث حوصر إيلي حبيقة في المجلس الحربي في الكرنتينا، ولم ينقذه سوى تدخل الجيش اللبناني بقيادة ميشال عون، بناء على طلب السوريين كما أشيع يومها، في ما بدا وكأنه تقديم أوراق إعتماد للسوريين، من قِبَل الجنرال ميشال عون كمرشح محتمل لرئاسة الجمهورية.

في هذه الأجواء الملبَّدة توفي الشيخ بيار الجميل مؤسس حزب الكتائب ووالد الرئيس أمين الجميل في 29 آب 1984 ما جعل الرئيس الجميل وحيداً دون غطاء معنوي كبير كان يوفره له والده بتاريخه وهيبته


في هذه الأثناء كانت قد بدأت رحلة تدهور العملة الوطنية، التي أحالها الجميل إلى إخراج منظمة التحرير الفلسطينية أموالها من لبنان، وإستمر الوضع ما بين مد وجزر مع معارك وصدامات متنقلة وإغتيالات، سواء في المناطق الشرقية أو الغربية، ففي الشرقية حاول إيلي حبيقة في أيلول 1986، العودة بالقوة إلى المنطقة بدعم من السوريين وحلفائهم، لكن محاولته باءت بالفشل فعاد خائباً إلى مقره في زحلة، حيث تعرض لمحاولة إغتيال نجا منها، وفي بيروت الغربية كان التقاتل ما بين الميليشيات يتجدد بحسب التطورات السياسية، خاصة في ظل حرب المخيمات ما بين حركة أمل والفصائل الفلسطينية، وكذلك الإغتيالات التي طالت الكثير من القادة والمسؤولين في الحزب الشيوعي اللبناني، وكذلك الكثير من الشخصيات السنية على خلفية الصراعات العربية والموقف من سوريا، حتى كانت ما سمي بحرب “العلمين” بين أمل والإشتراكي، التي دفعت بالقادة المسلمين للذهاب إلى سوريا، وطلب دخول القوات السورية إلى بيروت لوقف الإقتتال، بعد أن تحولت شوارع بيروت أشبه ما يكون بساحة حرب مفتوحة.

أعادت عودة القوات السورية إلى بيروت الغربية الأمور إلى ما قبل الغزو الصهيوني للبنان بإستثناء الوجود الفلسطيني الذي حل محله في المشهد السياسي والعسكري حزب الله – مع إختلاف الظروف – بما يمثله من دور إيراني


أعادت عودة القوات السورية إلى بيروت الغربية الأمور، إلى ما قبل الغزو الصهيوني للبنان بإستثناء الوجود الفلسطيني، الذي حل محله في المشهد السياسي والعسكري حزب الله – مع إختلاف الظروف – بما يمثله من دور إيراني، ليقع الصدام بينه وبين حركة أمل، لتواجدهم على أرض واحدة ومن ضمن الصراع على النفوذ والإمساك بالأرض، وإنتهت الحرب بينهما بإتفاق سوري – إيراني، جعل من إيران وبالتالي حزب الله “شريكاً مضارباً” في إدارة الصراع في البلد، ولو من خلف ستار الوجود السوري، في وقت غاب عن المشهد السياسي كل من رئيس الوزراء رشيد كرامي الذي أغتيل في 1 حزيران عام 1987، وهو على متن طوافة للجيش اللبناني، كذلك الرئيس كميل شمعون بالوفاة في آب من العام نفسه، ما عقَّد الأمور أكثر خاصة وأن البلد كان على أعتاب الإنتخابات الرئاسية، التي تزامنت في العام التالي 1988 مع الإنتصار العراقي في الحرب ضد إيران، ما قلب الوضع الإقليمي وجعل القوات اللبنانية أكثر تصلباً، خاصة بعد تقديم سليمان فرنجية – الجد بالطبع – ترشيحه كمرشح تحدي، تدخلت الولايات المتحدة كالعادة مع سوريا عن طريق مبعوثها الأشهر إلى لبنان ريتشارد مورفي، ومرة أخرى كان إتفاق مورفي – الأسد على إنتخاب مخايل الضاهر رئيساً جديداً، في ظل التفتت المسيحي فكان شعار مخايل الضاهر أو الفوضى، فأختار المسيحيون “الفوضى” لتصل البلاد إلى اليوم الأخير من الولاية، لتتكثف المساعي في الربع الساعة الأخير بحثاً عمن يتسلم السلطة، وطرحت عدة أسماء مارونية من بيار حلو إلى داني شمعون إلى غيرهم، لترؤس حكومة مؤقتة تتسلم صلاحيات رئيس الجمهورية، فشلت المساعي ولم يبقَ في الميدان إلا “حديدان”، كما يقول المثل، وهو هنا قائد الجيش العماد ميشال عون الذي عين رئيساً لحكومة عسكرية، مؤلفة من أعضاء المجلس العسكري، لتنتهي “مغامرة الإنقاذ” بالفشل، بل وتسليم البلد للفراغ الذي أدى في النهاية إلى دفن صيغة 43 وموت الجمهورية الأولى، وليكون أمين الجميل آخر رئيس لها.
لم يخرج أمين الجميل من قصر بعبدا فحسب بعد إنتهاء ولايته، بل خرج من البلد بعد تهديدات بالأذى الجسدي تلقاها – كما يقول في مذكراته – من سمير جعجع، على خلفية الخلافات الكثيرة التي طبعت علاقات الرجلين، قد يكون أقساها وآخرها تسليم السلطة للعماد عون، توجه إلى المنفى “الإختياري” وتنقل بين سويسرا وفرنسا، وعمل محاضراً في جامعة هارفرد قبل أن يعود في عام 2000 إلى لبنان وينضم للمعارضة، وفي عام 2001 تنازع وكريم بقرادوني على رئاسة حزب الكتائب، لينتهي النزاع بحل وسط قضى بتوليه منصب الرئيس الأعلى للحزب، وهو منصب شرفي أكثر منه عملي، بينما دخل إبنه البكر بيار المعترك السياسي نائباً عن دائرة المتن الشمالي في عامي 2000 و 2005، ليدخل بعدها في تحالف 14 آذار ضد الوجود السوري بعد زلزال 14 شباط، فيستعيد حزب الكتائب ويخسر نجله بيار، الذي أغتيل في 21 تشرين ثاني عشية عيد الإستقلال من عام 2006، من ضمن الإغتيالات التي طالت فريق 14 آذار يومها.

سخرية القدر كانت أن يتسلم الرئاسة بعدها ميشال عون وهو نفس الشخص الذي وضعه أمين الجميل في سدة المسؤولية الأولى عام 88


بعد الفراغ الرئاسي الذي حصل بنهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان – الذي بات عادة مارونية ولبنانية أرساها أمين الجميل نفسه – طُرِح إسمه بين ما عُرف يومها بالمرشحين “الأربعة الكبار” للمنصب ضمن لائحة وضعتها بكركي، ولكن سخرية القدر كانت أن يتسلم الرئاسة بعدها ميشال عون، وهو نفس الشخص الذي وضعه أمين الجميل في سدة المسؤولية الأولى عام 88، بعد أول فراغ رئاسي يشهده لبنان، ويشهد على فشل عهد الرئيس أمين الجميل في تسليم البلد إلى رئيس جديد في الموعد المحدد، وفشل “مغامرة الإنقاذ” التي بشَّر بها وقادها في بداية عهده، ليدخل بعدها لبنان مغامرة جديدة مع حكومة ميشال عون العسكرية، التي أدت في النهاية إلى موت الجمهورية الأولى، التي لطالما قاتل المسيحيون وعلى رأسهم حزب الكتائب من أجل الحفاظ عليها.

السابق
مافيات النافعةتابع.. أمن الدّولة يضرب من جديد!
التالي
بعد تعرّض طائرة لرصاصة طائشة.. بيانٌ لمديرية الطيران المدني