المنظومة السياسية اللبنانية تتشاحن كأن «عصر» الترسيم لم يبدأ

ترسيم الحدود الناقورة

تعيش الطبقة السياسية اللبنانية في مرحلة ما قبل ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل ولا تزال مشاحناتُها تنتمي إلى “عصر” ما قبل المعاهدة الإيرانية الإسرائيلية عبر البحر اللبناني. هذه الطبقة التي أظهرت أنها عاجزة عن القيام بالإصلاحات المطلوبة لنظام صار يدير دولة مفلسة، هي اليوم بعد اتفاق الترسيم البحري تُظهِر عدم طاقتها على استيعاب معنى هذا الاتفاق في الشرق الأوسط الجديد الذي انضم إليه لبنان بقرار إيراني. هي، أي هذه المنظومة السياسية اللبنانية، تراهن بسطحية على أن اتفاق الترسيم والغاز الذي “يخرج” منه سيحمل إليها حلولاً سهلة لأزمة الانهيار الاقتصادي التي أوصلت الدولة اللبنانية إليها ، وستكون حلولا توفّر دفع ثمن فسادها .

اقرأ أيضاً: نصر الله يقحم لبنان في مواجهة سياسية مباشرة مع الولايات المتحدة!

المقولة الأولى التي تحتاج إلى تدقيق هي مقولة نهاية الانهيار مع تدفق أموال الغاز؟. لسنا الدولة الوحيدة التي قد يستمر تدهورها، تدهور بنيتها الخدماتية مع وجود عائدات الغاز أو النفط، فالعراق هو المثال الحي والمأساوي على هذا الانفصال بين العائدات والرفاهية بل حتى بين العائدات والتنمية وحتى مع الحد الأدنى من الرفاهية،مع أنه دولة نفطية كبيرة، وذلك بسبب المستوى الهائل لفساد طبقته السياسية. المائة مليار دولار وأكثر التي تجنيها الخزانة العراقية سنويا من أموال البترو دولار لا تكفي(!!!!!) لوصول الكهرباء إلى كل أحياء بغداد ومدن العراق وتنظيف مجاريها من المياه الآسنة. حتى أن رئيس وزراء العراق الجديد قبل أيام قليلة قال أن العراق بحاجة إلى زيادة إنتاج النفط ل “إعادة إعمار الدولة”. كأن رئيس الوزراء كان ينطق هنا مختاراً أو قسراً، باسم وحش الفساد السياسي العراقي الذي لا يشبع وتحتاج معدته العملاقة والشرهة إلى المزيد من التخمة.
الشعار العراقي، “إعادة إعمار الدولة”، يقابله عندنا في لبنان شعار مستهلك وفضائحي هو “إعادة بناء الدولة”، وكلاهما، الشعار العراقي والشعار اللبناني باتا ليس أكثر من “كليشيه” فارغة..

لقد أعيد بناء ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية خلال سنوات قليلة كما أعيد توحيدها بعد سقوط جدار برلين ومعها إعادة تأهيل ألمانيا الشرقية داخل النسيج المتقدم لكل ألمانيا الموحدة في مدة قياسية أقل، فلم تمر تسعينات القرن العشرين إلا وكانت “ألمانيا الشرقية” قد أصبحت من الماضي “السحيق”. هل سأل رئيس الوزراء العراقي الجديد ماذا فعلت الطبقة السياسية العراقية بمكوناتها الشيعية، (الشيعية بالأخص لأنها الأقوى)والسنية والكرديةمنذ العام 2003، تاريخ سقوط نظام صدام حسين؟
المقولة الثانية هي ارتباط إعادة التعويم السياسي للمنظومة اللبنانية الحاكمة لدى دول الغرب بالمصالح الغازيّة المستجدة كجزء من شبكة مصالح أوسع في شرق المتوسِّط. هذه مع الأسف قد تكون مقولة صحيحة ولكنها لن ترفع سيف الرقابة الخارجية المترافق مع الفضح الدائم لممارسات الفساد كما يحصل في الكثير من الدول بحيث تتحوّل إلى مادة ابتزاز سياسي تقوم به مراجع دولية كبيرة لمنظومة الفساد اللبناني المتعدد الرؤوس والطوائف، تؤدي إلى التطويع والمزيد من التطويع، وليس التغيير. فما يحصل على مستوى الأموال الضخمة المحوّلة أو المهرّبة(ولو قانوناً) من بيروت إلى الخارج وهذا الصمت الهائل الذي يحيط بها في عواصم كبرى لهو علامة على ذلك. فالتجارب العالمثالثية والإفريقية والشرقْ أوسطية، إلا بعض الاستثناءات على هذا الصعيد لا تبشّر بتطور إيجابي يشفي غليل ضحايا الفساد السياسي والمصرفي.

السؤال الكبير الآن إلى متى يمكن أن يستمر الحاضر اللبناني أسير معادلة “مع سلاح حزب الله ضد سلاح حزب الله” وبهذا المعنى تستمر مراوحة التاريخ اللبناني عند هذه المعادلة التي باتت تمسك النظام السياسي اللبناني برمته، تفتتاً وانهياراً ؟
بعد اتفاق الترسيم، أي بعد اتفاق السلام الإيراني الإسرائيلي في لبنان، ليس مثل ما قبله. قد تبدو الأمور على السطح وكأن شيئاً لم يتغيّر خصوصا مع النجاح الباهر لمواقع النفوذ الإيراني في لبنان في تقديم هذا التراجع الأيديولوجي (نوع من التفاهم التطبيعي) على أنه انتصار.

لعل اختيار المصطلحات في هذا السياق ضروري لتحديد التغيير. فلبنان في الشرق الأوسط الجديد هو الموضوع بعد اتفاق الترسيم ومن شأن ذلك أن يطلق تفاعلات عميقة في لبنان والمحيط قد تظهر بوادرها في أي لحظة. فالتاريخ يعلّمنا أن القوى التي تنخرط في تغيير كبير هي نفسها أحيانا التي تحاول الحد من تسارع آثار التغيير.
اتفاق الترسيم وليس أي عامل آخر داخل لبنان هو نقطة التحول التي ستلتحق بها النقاط الأخرى بما فيها انتخاب رئيس جديد للجمهورية هو حكما رئيس ما بعد الترسيم من حيث المعادلات السياسية حتى لو جاء أو الأصح جيء به من الطبقة السياسية التقليدية بما يكفل في النتيجة اطمئنان المنظومة السياسية إليه.

السابق
الدولار الاسود يتراجع.. كم بلغ؟
التالي
الطريق إلى رئاسة الجمهورية (9) رينيه معوَّض الرئيس – الحلم.. والشهيد الأول لـ«الجمهورية الثانية»!