ملفٌ واحد، وحِساباتٌ كثيرة: إيران ومُعضلة المعارضة الكردية-الإيرانية في إقليم كردستان العراق

في الوقت الذي تشهد فيه إيران تصاعداً في الاحتجاجات المناهضة للنظام، تأتي عمليات الهجوم بقذائف صاروخية وطائرات مسيرة انتحارية من قبل الحرس الثوري الإيراني ضد أهدافٍ عسكرية تابعة لمواقع وجود جماعات المعارضة الكردية الإيرانية في إقليم كردستان العراق، لتُثير العديد من التساؤلات حول طبيعة وجود هذه الجماعات في الإقليم، والتهديدات التي تُشكِّلها لإيران.

تُسلِّط هذه الورقة الضوء على هذا الحضور، وطريقة التعاطي الإيراني معه، إلى جانب موقف حكومة إقليم كردستان والحكومة العراقية منه، والتحديات الأمنية التي يواجهها العراق في هذا الإطار، وانعكاس ذلك بالمجمل على مستقبل نشاط هذه الجماعات في إقليم كردستان.

 حضور المعارضة الكردية في إقليم كردستان

على الرغم من أن تاريخ المعارضة الكردية يرجع إلى مرحلة ما قبل الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، إلا أنه توسَّع بشكل أكبر بعد نجاح الثورة نتيجة عدد من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي انعكست بدورها على وضع الأقلية الكردية في إيران. وتبرز هنا الفتوى الشهيرة للقائد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله الخميني في أغسطس 1979، عندما أعلن “حالة الجهاد” ضد “المتمردين” الكرد، وتحديداً في مدينة سنندج، التي تشهد حالياً احتجاجات مُناهِضة للنظام. 

اقرأ أيضاً: هل اقتربت «بداية النهاية» للنظام الإيراني؟

هذا السلوك العنيف حيال السكان الكرد، دفع بالعديد من قوى المعارضة الكردية إلى الانتقال للخارج، وتحديداً إلى العراق وبعض الدول الأوروبية. وإذا كانت المعارضة الكردية في مرحلة ما قبل الثورة تقتصر على حزبين رئيسين هما الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني “حدك”، وحزب عصبة الكادحين الثوريين الإيراني “كوملة”، فإنه في المرحلة التي أعقبت الثورة نشأ العديد من الأحزاب الكردية المعارضة للنظام، والتي بدأت تجد في “الكفاح المسلح” طريقاً للدفاع عن الحقوق القومية الكردية في إيران.

وتوجد اليوم خمسة أحزاب كردية معارضة للنظام الإيراني، بعضها متمركز داخل حدود الإقليم، والبعض الآخر على الحدود مع إيران، وهي بمثابة الأحزاب الرئيسة للمعارضة الكردية: 

  1. الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) بزعامة خالد عزيزي. تأسس في عام 1945، وشهد هذا الحزب، بسبب خلافات داخلية، انشقاقاً قاده مصطفى هجري، قبل حوالي 16 عاماً، ونشأ عنه الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني (حدكا) بزعامة مصطفى هجري، لكن قادة الحزبين أعلنوا اندماجهما من جديد في 23 أغسطس 2022، وعودتهما للعمل تحت مظلة حزبية واحدة هي الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني.
  2. حزب عصبة الكادحين الثوريين الإيراني “كوملة” بزعامة عبدالله مهتدي. تأسس في عام 1967، وهو ذو توجه يساري، وينشط بوصفهِ فرعاً كردستانياً للحزب الشيوعي الإيراني.
  3. حزب كادحي كردستان بزعامة عمر ايلخاني زاده. تأسس في عام 2008، وهو تنظيم يساري انشق عن حزب عصبة الكادحين الثوريين الإيراني “كوملة”.
  4. منظمة خبات الثورية بكردستان إيران بزعامة بابا شيخ حسني، التي تأسست في 1980.
  5. حزب الحياة الحرة الكردستاني “البيجاك” بزعامة عبدالرحمن حاجي ‌أحمدي. تأسس في عام 2004، باعتباره حركة مسلحة ذات توجه قومي، ويُعدّ الفرع الإيراني لحزب العمال الكردستاني التركي “البككا”، وهو من أنشط قوى المعارضة الكردية. ويمتلك الحزب ذراعاً عسكرياً يتراوح عدد مقاتليه بين 800 و1200 مقاتل من سوريا والعراق وتركيا وإيران.

وتختلف هذه الجماعات من حيث أيديولوجيتها واستراتيجية عملها، ففي الوقت الذي يُعتبر فيه الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني من الأحزاب الوسطية المحافظة، تتبنى باقي الأحزاب نهجاً يسارياً ثورياً.

قبل سقوط نظام صدام حسين عام 2003، قدّرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عدد الكرد الإيرانيين الموجودين في العراق بـ 16 ألفاً، وكان أغلبهم يتمركز في مخيم الطاش في محافظة الأنبار منذ ثمانينات القرن الماضي. ونتيجة لتدهور الوضع الأمني بعد 2003، أُخليَ المخيم، ونُقل سكانه إلى اقليم كردستان. واليوم تشير تقديرات غير مؤكدة إلى أن عدد الكرد الإيرانيين في العراق يقترب من 40 ألف لاجئ، غالبيتهم يستوطنون إقليم كردستان. 

توزّعت مقرات الأحزاب الكردية الإيرانية في عدة مناطق بالإقليم، حيث تتمركز مواقع الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني في محافظة أربيل، وتحديداً مناطق سيدكان وكويسنجق وسوران، في حين تنتشر مقرات حزب عصبة الكادحين الثوريين الإيراني “كوملة” في مدن محافظة السليمانية، وتحديداً في سيد صادق وشهربازير وبنجوين، في حين يتمركز “البيجاك” في مناطق حرير وجومان وهكورك، إلى جانب شريط جغرافي يربطه مع مواقع انتشار عناصر “البكاكا”، عبر جبال هاكورك على المثلث العراقي التركي الإيراني، ومنه إلى جبال قنديل. أما منظمة خبات فتتمركز على الحدود مع إيران، وتحديداً في مناطق ماريوان، في حين يتخذ حزب كادحي كردستان من المخيمات مقرات له. 

بدءاً من فبراير عام 2017 تأسس مكتب “مركز تعاون الأحزاب الكردستانية الإيرانية” لتنسيق نشاطاتها في الإقليم. ويمتلك معظم هذه الأحزاب أجنحة مسلحة، لكنها على عكس “البككا”، لا تقوم بنشاطات مسلحة واضحة داخل الإقليم، كما لا تمتلك معسكرات كبيرة أو أسلحة هجومية، وقدراتها العسكرية محدودة للغاية مقارنة بالقدرات العسكرية لدى “البككا”، وترتكز بصورة رئيسة على السلاح الخفيف. وينتشر أعضائها غالباً في مقرات إيواء لعائلات، إلى جانب مواقع عسكرية صغيرة في الجيوب الحدودية مع إيران، فضلاً عن محدودية نشاطها الإعلامي. 

وعلى الرغم من الانتشار الواسع لهذه الجماعات في إقليم كردستان، فإنّ هذا الوجود لم يشكل في أي مرحلة من المراحل تهديداً حقيقياً للداخل الإيراني. والأكثر من ذلك، أنّ هذه الجماعات، ونتيجةً لطبيعة النفوذ الإيراني في العراق، لم تنجح في توفير منافذ دعم لوجستي ومالي وعسكري كما هو الحال مع “البككا”، وهو ما جعلها تعتمد نهج المعارضة السياسية للنظام الإيراني، إلى جانب تنفيذ مناوشات عسكرية بسيطة عبر خلاياها الموجودة في مناطق كردستان إيران، إذ تتجنَّب حتى الآن الدخول في مواجهات مسلحة أكبر غير متكافئة مع الجانب الإيراني.

المعارضة الكردية ودورها في تشكيل العلاقة بين طهران وأربيل

ساهم العديد من المتغيرات التي مرت بها العلاقات العراقية الإيرانية، في تشكيل ملامح العلاقة بين طهران وأربيل، وتحديداً منذ توقيع اتفاقية الجزائر بين العراق وإيران عام 1975، وقيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، ثم الحرب العراقية الإيرانية 1980 – 1988، مروراً بتشكيل مناطق حظر الطيران في شمال العراق عقب الغزو العراقي للكويت 1990، وخروج إقليم كردستان عن سيطرة الدولة العراقية خلال الفترة 1990 – 2003، فضلاً عن قيام ما يُعرف حالياً بإقليم كردستان العراق. وفي كل هذه المراحل حاولت إيران أن تؤسس علاقاتها مع أربيل بمعزل عن بغداد، وذلك نظراً لضعف سلطة بغداد، وعلاقة إيران القديمة بالحزبين الكرديين الرئيسين، وتعدد الملفات بين إيران والاقليم، والتي يأتي في مقدمتها ملف حضور جماعات المعارضة الكردية.

تعتقد طهران أنّ هذا الحضور يشكل تهديداً أمنياً لها، وتتهم حكومة الإقليم بتسهيل نشاطات الأحزاب المعادية. وعبّر المسؤولون الإيرانيون مراراً عن أن بلادهم لن تقف مكتوفة الأيدي حيال الأدوار التي تقوم بها الجماعات الكردية المعارضة الموجودة في أربيل والسليمانية، مُحذرين أربيل بأن العمليات الصاروخية التي تستهدف هذه الجماعات مستمرة، وربما تتوسع مستقبلاً.

وفي هذا الإطار أيضاً، تنشط المخابرات الإيرانية “إطلاعات” في إقليم كردستان، وتعمل في مجالات مختلفة، من قبيل مراقبة الصحفيين ونشطاء حقوق الإنسان والمحاضرين والباحثين والمدرسين من أصول كردية إيرانية، وقد ذكر أحد المصادر الكردية الإيرانية في مقابلة مع مُعِد الورقة، أنَّهم يخضعون للمراقبة من قبل الاطلاعات لمعرفة من هُم على اتصال بالداخل الإيراني، وما هي أنشطتهم. وأشار المصدر أيضاً إلى دور عناصر قوة القدس التابعة للحرس الثوري التي تتخذ من مقر حمزة ومقر رمضان على الحدود العراقية الإيرانية منطلقاً لعملياتها داخل الإقليم في جمع المعلومات الاستخبارية عن المعارضين الكرد في إقليم كردستان. 

كما عملت إيران أيضاً على الربط بين أدوار المعارضة الكردية في الإقليم، وبين ما تواجهه من ضغوط أمريكية وإسرائيلية، مُعتبرةً أن هذه الجماعات تتلقى دعماً أمريكياً وإسرائيلياً لإرباك الوضع في الداخل الإيراني، وهي اتهامات أعاد المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي ترديدها مؤخراً. وعلى الرغم من المطالبات الإيرانية المستمرة من حكومة الإقليم بإنهاء وجود جماعات المعارضة الكردية، فإن القيادة الكردية في أربيل والسليمانية لم تستجب لهذه المطالبات، حيث إن الحزبين الرئيسين في الإقليم (الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني) يخشيان من تبعات الظهور بمظهر من يفرط بالحقوق الكردية وبالتضامن الذي تفرضه الرابطة القومية العابرة للحدود، فضلاً عن الحرج أمام المجتمع الدولي، وأنّ أقصى ما يمكنهما اتخاذه هو حضّ المعارضين للنظام الإيراني على ضبط خطابهم ونشاطهم.

وعلى الصعيد الاجتماعي؛ فإنه على خلاف “البككا”، هناك علاقة جيدة بين جماعات المعارضة الكردية وسكان القرى والمناطق الكردية العراقية التي يوجدون فيها، وذلك يرجع إلى أن الطرفين ينتميان إلى الفئة السورانية، على عكس كرد تركيا وسوريا، فهم كرد كرمانجية. كما أن كرد إيران وفّروا ملاذات آمنة للكرد العراقيين خلال حقبة التمرد الكردي في شمال العراق خلال حقبة البعث. 

ولابد من الأخذ في الاعتبار أنّ عمليات القصف الإيرانية الأخيرة على مواقع المعارضة الكردية في إقليم كردستان، تأتي أيضاً بالاتساق مع تدهور العلاقة بين طهران وحكومة الإقليم منذ أحداث الاستفتاء والدور الذي لعبه الحرس الثوري في دعم الحكومة الاتحادية والحشد الشعبي في السيطرة على المناطق المتنازع عليها. وتعمّق هذا الشرخ بعد الضربات الصاروخية التي نفذتها إيران في مارس 2022، مُستهدفةً مقراً بالقرب من أربيل قالت إنه تابع للموساد الإسرائيلي، إلى جانب دور الإقليم في أزمة تشكيل الحكومة العراقية بعد الانتخابات المبكرة، الذي تعتبره طهران مُخلاً بمحاولات “الإطار التنسيقي” الشيعي، الذي تدعمه، لتشكيل حكومة مقربة منها.

تعاطي الحكومة العراقية مع ملف المعارضة الكردية 

واجه العراق تحديات كبيرة في سياق التعاطي مع ملف وجود جماعات المعارضة الكردية في إقليم كردستان، وعلى نحوٍ يُشابه التحديات التي يواجهها حيال ملف وجود “البككا”، حيث ترفض حكومة إقليم كردستان إشراك الحكومة الاتحادية في ملفات تتعلق بنشاطات داخل حدود إقليمها، وترفض نشر قوات اتحادية داخل الإقليم، أو على الحدود مع إيران. وتوجد بين مناطق إقليم كردستان وإيران ثلاثة منافذ رسمية، واحد منها على حدود محافظة أربيل، واثنان في السليمانية، فيما أشارت معلومات ميدانية إلى أن هناك أكثر من 39 منفذاً غير رسمي بين الأراضي الإيرانية وإقليم كردستان، وهي منافذ تمثل تحدياً أمنياً للعراق، إذ يُستخدَم بعضها من قبل جماعات المعارضة الكردية في التنقل عبر الحدود، والتسلل للداخل الإيراني.

ولا يوجد اتفاق سياسي عام في العراق حول كيفية التعامل مع وجود المعارضة الكردية الإيرانية في الإقليم، ففي الوقت الذي تحاول فيه حكومة الإقليم إبقاء هذا الوجود بعيداً عن المناقشات السياسية مع بغداد، تحاول أطراف سياسية عراقية مقربة من إيران إنهاء هذا الوجود، وتحديداً الفصائل المدعومة من الحرس الثوري التي شنَّت منابرها الاعلامية هجوماً قوياً على حكومة الإقليم، بسبب احتضانه للمعارضة الكردية. لكن المفارقة هنا أن هذه الفصائل تتبنى موقفاً مناقضاً فيما يتعلق بوجود “البكاكا” في العراق، حيث إنها تتعاون معه وتندد بالهجمات التركية على مواقع وجوده، بل وتهدد بالرد عليها. 

هذا الواقع أجبر الحكومات العراقية المتعاقبة على الاكتفاء باعتماد نهج الاحتجاج الدبلوماسي على الهجمات التي يشنَّها كلٌّ من تركيا وإيران داخل الإقليم، وهو ما حدث في الهجمات الأخيرة، عندما استدعت الخارجية العراقية السفير الإيراني في بغداد محمد كاظم آل صادق وسلمته مذكرة احتجاج، وهي ذات الصيغة التي جاءت بها مخرجات اجتماع المجلس الوزاري للأمن الوطني الذي ترأسه رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي في 1 أكتوبر 2022، عندما عبّر عن رفضه للقصف الإيراني، مُشدداً على أهمية التعامل مع ملف وجود المعارضة الكردية في الإقليم، عبر القنوات الدبلوماسية والتعاون الأمني المشترك، وكذلك البيان الذي ألقاه ممثل العراق في الأمم المتحدة محمد بحر العلوم، عندما قدم طلباً لمجلس الأمن الدولي لدعم سيادة العراق وإدانة الاعتداءات على أراضيه، خلال جلسة مجلس الأمن المخصصة للعراق في 4 أكتوبر 2022. 

هذا الضعف الحكومي، إلى جانب غياب الجهود الاستخبارية والأمنية العراقية على حدود الإقليم مع إيران، بسبب الخلاف المستمر وتنازُع السلطات بين بغداد وأربيل، شجّع الحرس الثوري على أخذ زمام المبادرة وتجاهُل السيادة العراقية. وقد تتجه إيران في ظل غياب ردود حكومية عراقية رادعة، وتعاطُف بعض القوى العراقية التي تلعب دوراً رئيساً في تشكيل الحكومة المقبلة، إلى اعتماد نهج جديد، عبر الانتقال من الضربات الصاروخية إلى عمليات برية محدودة في مناطق وجود المعارضة الكردية، استنساخاً لتجربة العمليات العسكرية التركية التي تجري على الحدود الشمالية بين الحين والآخر. 

إن عدم تمكُّن العراق من معالجة هذا الملف بصورة فاعلة، جعل إيران تُوظِّفه لحسابات السياسة الداخلية والخارجية كلما دعت الحاجة. ففي الهجمات الأخيرة جاء التوظيف الإيراني عنيفاً، بغية الضغط على الحزبين الكرديين الحاكمين في الإقليم، للتأثير في أقرانهما داخل إيران من أجل تهدئة الاحتجاجات، لأن طهران تعتقد إن إخماد الاحتجاجات التي انطلقت أولاً في المدن الكردية، سيكون مفتاحاً لإخمادها في بقية مناطق البلاد، كما أن مواقع المعارضة الكردية تبدو هدفاً سهلاً؛ فمقارها مكشوفة للاستخبارات الإيرانية، باستثناء تلك المتوارية في الجبال، ما يمنح طهران إمكانية الحصول على مكاسب سريعة للاستهلاك المحلي، في ظل غياب أي دور عراقي فاعل لإنهاء هذه المعضلة الأمنية.

مستقبل وجود المعارضة الكردية الإيرانية في الإقليم

يمكن القول إن تواصل هجمات الحرس الثوري على مواقع المعارضة الكردية في إقليم كردستان، إلى جانب المطالبات الإيرانية المستمرة من حكومتي بغداد وأربيل لإنهاء وجودها، وضع نشاط المعارضة الكردية في الإقليم أمام ثلاثة سيناريوهات محتملة، هي:

1. ضبط وجود المعارضة مقابل إيقاف مشروط للهجمات: يفترض هذا السيناريو أن يُضبَط وجود المعارضة الكردية في إقليم كردستان مقابل إيقاف مشروط لهجمات الحرس الثوري على مواقعها، وبالتالي فإن إمكانية استئناف هذه الهجمات ستخضع للتطورات الداخلية الإيرانية، وأيضاً للطريقة التي ستتعامل بها أربيل للحد من أنشطة المعارضة. وهو ما أكدته وسائل إعلامية مقربة من الحرس الثوري، إذ أشارت إلى أن الحرس علَّق هجماته مؤقتاً مقابل إنهاء تهديد هذه الجماعات من قبل حكومة الإقليم، ومنها ضبط حركتها وإخلاء مواقعها على الحدود. إلى جانب مناقشات جرت بين مسؤولين إيرانيين مع نظرائهم العراقيين في بغداد الشهر الجاري، لبحث إمكانية قيام الحكومة العراقية بجهود لضبط حركة المعارضة الكردية بالتنسيق مع حكومة الإقليم، فضلاً عن زيارة مرتقبة لوفد عراقي رسمي برئاسة مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي إلى طهران لبحث الاعتداءات الأخيرة. وهذا يدفع للقول بإمكانية تحقق هذا السيناريو، وذلك لمحاولة عدم إعطاء إيران ذريعة لاستئناف الهجمات مرة أخرى. 

2. القيام بعملية عسكرية برية محدودة: يفترض هذا السيناريو أن يُنفِّذ الحرس الثوري عملية عسكرية برية محدودة داخل حدود إقليم كردستان، من أجل إنهاء وجود المعارضة الكردية على الحدود، وإبعادها بمسافة معينة عبر انشاء منطقة آمنة على الحدود (محاكاة للسلوك التركي في شمالي العراق وسوريا). فالتهديدات المستمرة من قبل قادة الحرس الثوري بمواصلة الهجمات حتى إنهاء تهديد الجماعات الكردية، إلى جانب حشد الحرس لقواته على الحدود مع إقليم كردستان مؤخراً، توحي بوجود نية إيرانية لتنفيذ عملية محدودة داخل حدود الإقليم، في حال لم تتمكن حكومة الإقليم من ضبط سلوك المعارضة وإخلاء مواقعها، وهي نية أكَّدها مؤخراً ممثل حكومة إقليم كردستان في إيران ناظم عمر الدباغ، الذي أشار إلى إن إيران قد تنظر في خيارات أخرى تتجاوز الهجمات الصاروخية والطائرات المسيرة، ومنها العمليات العسكرية المحدودة داخل الإقليم، في حال لم تُنهِ المعارضة الكردية وجودها في المناطق الحدودية بين الجانبين.

3. غلق مقرات المعارضة الكردية الإيرانية ونقلها لبلدان أخرى: يفترض هذا السيناريو أن يتم نزع سلاح جماعات المعارضة الكردية في إقليم كردستان، وغلق مقراتها ونقلها لبلدان أخرى، في تكرار لسيناريو إنهاء وجود جماعة مجاهدي خلق الإيرانية التي كانت تتموضع في العراق منذ ثمانينيات القرن العشرين بدعم من نظام صدام حسين، والتي أُنهيَ وجودها في سبتمبر 2013، خلال حكومة نوري المالكي الثانية.  وقد أعلن وزير المخابرات الإيراني إسماعيل خطيب في سبتمبر 2021، عن أن هناك اتفاق وُقِّع بين الجانبين العراقي والإيراني على نزع سلاح المعارضة الكردية. في وقتٍ رفض الجانب العراقي تأكيد ذلك. وأيضاً فإنه على الرغم من الجهود التي بذلتها الأمم المتحدة منذ تسعينيات القرن الماضي، عبر إعادة توطين العديد من أسر المعارضة الكردية في عدة دول، بينها كندا وألمانيا والسويد، إلا أنه نتيجة محاذير أمنية وعدم امتلاك اللاجئين الإيرانيين الكرد لجوازات سفر، والقيود الأمنية التي تفرضها سلطات الإقليم عليهم، أهملت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة مؤخراً الكثير من طلبات اللجوء. إلى جانب اعتذار العديد من الدول الأوروبية عن توفير مخيمات أو معسكرات خاصة بهم، بعد أزمة المهاجرين التي تفاقمت في المجتمعات الأوربية منذ عام 2015.

استنتاجات

يُشير استمرار الهجمات الإيرانية على مواقع المعارضة الكردية في إقليم كردستان، إلى تصميم إيراني واضح على التعامل الأحادي مع هذا الملف، وفق المسارات التي تقتضيها المصلحة الإيرانية، بعيداً عن مراعاة السيادة العراقية، أو حتى بيانات الإدانة التي صدرت عن المجتمع الدولي. كما تتعثر محاولات الحكومة العراقية لحل مشكلة وجود المعارضة الكردية-الإيرانية والتركية في الإقليم، وذلك بسبب وجود فاعل آخر متحكم بهذا الملف، هو حكومة إقليم كردستان وقواها السياسية، وهو فاعل له أهداف وغايات متمايزة عن توجه الحكومة العراقية.

ومما يَزيد من تعقيد هذا الوضع، محاولة إيران جعل ملف المعارضة الكردية أداة مهمة لتصفية الحسابات مع الإقليم أيضاً، حيث تطمح إيران إلى احتواء تحركات إقليم كردستان في ملف تصدير الغاز، والعلاقة مع تركيا وإسرائيل ودول الخليج، أو حتى دور الإقليم في عملية تشكيل الحكومة العراقية، وهو ما يجعل إمكانية تراجُع إيران سياسياً وعسكرياً غير مطروحة في الوقت الحاضر. وبدا ذلك واضحاً في تصريحات قادة الحرس الثوري التي تشدد على مواصلة هذه الهجمات على المجاميع والمقرات الكردية؛ فكلما اشتدت الاحتجاجات في الداخل الإيراني وصارت تهديداً وجودياً للنظام، زادت إيران من هجماتها، وقد تتسع في المرحلة المقبلة لتشمل عمليات برية محدودة، حيث ترى إيران أن في إمكانها تحقيق عدة أهداف سياسية وعسكرية من خلال مواصلة الهجمات، أهمها البحث عن فرصة لتصدير الأزمة الداخلية استفادةً من ضعف الحكومة العراقية والانقسامات السياسية المحلية، وعدم وجود كلفة عالية تترتب على مثل هذه الهجمات. 

السابق
الطريق إلى رئاسة الجمهورية (5): سليمان فرنجية..«القبضاي» القادم من الشمال!
التالي
محاميان «ينذران» رئيس مجلس القضاء الأعلى للتخلّص من «الضغوط السياسية بملف المرفأ»!