الطريق إلى رئاسة الجمهورية (5): سليمان فرنجية..«القبضاي» القادم من الشمال!

الرئيس سليمان فرنجية
أعد الكاتب السياسي ياسين شبلي، على أبواب نهاية العهد، سلسلة مقالات خاصة ينشرها "جنوبية" على حلقات، عبارة عن بروفايل للرؤساء السابقين منذ الإستقلال وحتى اليوم، مع الظروف السياسية التي رافقت وصول كل منهم إلى الحكم، وطريقة ممارستهم لمهامهم وظروف مغادرتهم الموقع.

أنتخب الرئيس الخامس للجمهورية اللبنانية سليمان فرنجية في 17 آب عام 1970 خلفاً للرئيس شارل حلو، حيث فاز على مرشح النهج الشهابي إلياس سركيس في إنتخابات يقال – والله أعلم – بأنها الوحيدة التي “صُنعت” في لبنان، بفارق صوت واحد وهي نتيجة كانت تحصل للمرة الأولى بالفعل.

 في الواقع لم تكن هذه النتيجة هي المفارقة الوحيدة، في إنتخاب سليمان فرنجية المختلفة عن إنتخاب أسلافه منذ الإستقلال، فقد كان سليمان فرنجية أول رئيس منتخب من الأطراف فهو من شمال لبنان، كما أنه أول رئيس ورث السياسة عن عائلته بالتحديد   عن أخيه حميد فرنجية، كما أنه الرئيس الأول الذي يأتي من صفوف رجال الأعمال، وليس من خلفية علمية سواء قانونية أو عسكرية كما أسلافه.

 ولد سليمان فرنجية في عام 1910 في زغرتا بشمال لبنان لعائلة إقطاعية، تلقى علومه الأولية في طرابلس ثم تابعها في مدرسة عينطورة سنة 1924، برز إسمه في العام 1957 كمتهم بمجزرة كنيسة مزيارة، التي ذهب ضحيتها العشرات من آل الدويهي، فلجأ إلى سوريا قبل أن يعود في العام 1960 بموجب عفو عام أعلنته السلطة يومها، لينتخب نائباً ويعين وزيراً لسبع مرات حتى العام 1970 عام إنتخابه لرئاسة الجمهورية، وذلك خلفاً لشقيقه الأكبر حميد فرنجية الذي أقعده المرض وهو المحامي والسياسي البارز، النائب والوزير لعدة مرات، والمرشح  لرئاسة الجمهورية عام 1952 . 

تسلم سليمان فرنجية منصبه في 23 أيلول 1970 في ظروف داخلية لبنانية وإقليمية قاسية وخطيرة

تسلم سليمان فرنجية منصبه في 23 أيلول 1970، في ظروف داخلية لبنانية وإقليمية قاسية وخطيرة، في الداخل كان لبنان يعيش تداعيات إتفاق القاهرة مع الفلسطينيين، والصراع السياسي – الإجتماعي جراء تزايد “حزام البؤس”  حول العاصمة، وفي الإقليم إندلع القتال بين الجيش الأردني وقوات المقاومة الفلسطينية في ما سمي بعدها ب “أيلول الأسود”، حيث كانت أول مهمة له خارج البلاد هي مشاركته في مؤتمر القمة العربي في القاهرة، لإيجاد حل لهذا الصراع الذي كان له تداعياته على الوضع في لبنان بعد ذلك.بإنتهاء مؤتمر القمة وبعد خمسة أيام من تسلم فرنجية مهامه، جاءت وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر بمثابة زلزال ضرب المنطقة، بعدها بحوالي شهر ونصف وبالتحديد في 16 تشرين الثاني قام حافظ الأسد – وكان صديقاً لفرنحية – بإنقلاب في سوريا تحت إسم الحركة التصحيحية، في هذه الأجواء المضطربة بدأ عهد سليمان فرنجية بتفكيك “المكتب الثاني”، كانت الإعتداءات الإسرائيلية تتواصل على القرى الجنوبية، وكانت التظاهرات المطلبية تتزايد سواء في الجنوب، حيث إنتفاضة مزارعي التبغ في النبطية، التي واجهتها السلطة بالقوة فسقط قتلى وجرحى، أو في بيروت حيث إضراب معامل غندور وإنتفاضة الطلاب في الجامعات، علاوة على الكفاح الفلسطيني المسلح،  سواء من داخل لبنان أو في الخارج، الذي إزدادت وتيرته مع إنتقال الكثير من المقاتلين الفلسطينيين من الأردن إلى لبنان، وكانت عمليات خطف الطائرات ومطار اللد ومن ثم عملية ميونيخ، التي ردت عليها إسرائيل في لبنان وبعنف يوم 10 نيسان من عام 1973، حين إغتالت ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية في فردان ما أجج من حدة المشاكل، حينما إتهمت القوى القومية واليسارية وحتى الإسلامية التقليدية الجيش اللبناني بالتقصير، وطالبت بإقالة قائده إسكندر غانم. 

إقرأ ايضاً: الطريق إلى رئاسة الجمهورية(4): شارل حلو .. «الراهب في غير مكانه»!

رفض فرنجية فأستقالت حكومة صائب سلام، لتدخل البلاد في أزمة سياسية وأمنية، عندما إندلعت الإشتباكات بين الجيش والمقاتلين الفلسطينيين في شهر أيار، التي واجه فيها الحكم اللبناني الضغوطات السياسية العربية، خاصة موقف سوريا الضاغط التي أغلقت حدودها مع لبنان، ليتم وقف إطلاق النار بوساطة وضغوط عربية، في وقت كانت مصر وسوريا تستعدان لحرب تشرين، ما أضعف معنويات الجيش ودعا الرئيس فرنجية لمصارحة قادة اليمين المسيحي، في إجتماع بقصر بعبدا مع كميل شمعون وبيار الجميل، بأنه لم يعد بالإمكان التعويل على الجيش في قضية السلاح الفلسطيني، فكانت دعوة صريحة لإنطلاق التسلح المسيحي والتدريب، بدعم من المخابرات العسكرية في الجيش اللبناني بقيادة جول بستاني، لمواجهة تمدد السلاح الفلسطيني. في أكتوبر من العام نفسه إندلعت حرب تشرين بين العرب وإسرائيل، التي بدأت تحريرية،  وإنتهت بفعل الدعم الأميركي لإسرائيل والتراجع العربي الميداني إلى حرب ” تحريكية ” لكسر الجمود السياسي، فكانت إتفاقية وقف إطلاق النار على الجبهة السورية، وإتفاقية فك الإشتباك على الجبهة المصرية التي ما لبثت أن تحولت إلى جبهة  “إشتباك” عربية بين مصر من جهة، وما يسمى دول الرفض بالإضافة إلى منظمة التحرير الفلسطينية من جهة أخرى.وكان لبنان في قلب هذا الإشتباك نظراً لقوة التأثير الفلسطيني والسوري، مع تراجع الدور المصري فيه، وهكذا تضافرت كل العوامل لتشكل أرضاً خصبة للحرب الأهلية، التي بدأت رسمياً في 13 نيسان 1975، ولكنها عملياً بدأت بعد هزيمة  1967، حين إعتقد اليمين المسيحي المتطرف بأنه تخلص من جمال عبد الناصر وأفكاره القومية، التي كان يرى فيها خطراً عليه، وبأنه بات في وضع يمكنه من رفض كل دعوات إصلاح النظام وقلب موازين القوى الداخلي لصالحه، في حين أن القوى القومية واليسارية باتت أكثر راديكالية بعد الهزيمة، خصوصاً مع تصاعد الكفاح المسلح الفلسطيني وتصاعد المد اليساري والثوري في العالم. 

بدأ العام 1975 على توتر إنفجر في تظاهرات الصيادين في صيدا بعد مقتل معروف سعد تلاها حادثة بوسطة عين الرمانة في 13 نيسان لتنفجر الحرب

بدأ العام 1975 على توتر إنفجر في تظاهرات الصيادين في صيدا، التي أدت إلى إطلاق النار ما أدى لإستشهاد القائد الشعبي معروف سعد، تلاها حادثة بوسطة عين الرمانة في 13 نيسان لتنفجر الحرب، وتنفجر معها الحكومة وتفتح أبواب جهنم على لبنان واللبنانيين.. الحركة الوطنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط، طالبت بعزل حزب الكتائب عن الحياة السياسية على خلفية مجزرة عين الرمانة، الرئيس فرنجية وإزاء التدهور الحاصل كلف العميد المتقاعد نور الدين الرفاعي، بتأليف حكومة عسكرية لكنها لم تصل إلى مجلس النواب، بسبب معارضة الحركة الوطنية واللقاء الإسلامي لها، دخل لبنان النفق وبدأت بعض الدول العربية والأجنبية ذات المصالح المتضاربة، تدلي كل منها بدلوها في الحرب، عبر دعم الأطراف المتصارعة مع محاولات ووساطات من جامعة الدول العربية وأطراف أخرى للحل دون جدوى، طرحت الحركة الوطنية اللبنانية برنامج للحل السياسي المرحلي يتضمن إصلاحات في النظام السياسي، رفضها فرنجية واليمين المسيحي بطبيعة الحال، وطالبت الحركة الوطنية بإستقالة الرئيس. وفي 24 كانون الثاني 1976 وقع 66 نائباً عريضة تطالب بإستقالة سليمان فرنجية، التي رفضها مصراً على البقاء وإنها ولايته حتى آخر يوم، فكان أن تدخل النظام السوري، الذي وجدها فرصة مؤاتية لتعزيز نفوذه، ومحاولة لإمساكه بالورقة الفلسطينية، في مواجهة تفرد أنور السادات في المفاوضات مع إسرائيل، وتوقيع إتفاقية فك الإشتباك في سيناء تمهيدا للحل السياسي، فتوافق الأسد وفرنجية على “الوثيقة الدستورية” في شباط 1976، وهي مجموعة من الإصلاحات رفضتها الحركة الوطنية.

في 11 آذار 1976 كان “إنقلاب” عزيز الأحدب، في اليوم التالي إحتلت الجبهة اللبنانية التي تمثل اليمين المسيحي والمدعومة من الرئيس فرنجية، ثكنة الفياضية وبدأ الجيش بالتفكك، وسقطت الثكنات في العديد من المناطق تحت سيطرة الموالين للأطراف المتصارعة، في 15 آذار بدأ قصف قصر بعبدا، فغادره الرئيس فرنجية بداية إلى قصر الذوق البلدي  ومن ثم إلى بلدة الكفور ليقيم في منزل نسيبه  لوسيان دحداح، الذي إتخذه مقراً موقتاً لرئاسة الجمهورية، معلناً أنه لن يترك منصبه إلا جثة هامدة، وأستعان على ذلك بدعوة القوات السورية للتدخل العسكري بعد أن سيطرت القوات اللبنانية – الفلسطينية المشتركة على حوالي 80 بالمئة من الأراضي اللبنانية، ووافق بعد  ضغوط على إجراء إنتخابات رئاسية مبكرة، وهكذا تم إنتخاب إلياس سركيس منافسه السابق في العام 70، رئيساً جديدا في 8 أيار 1976 إلا أنه لم يسلمه الحكم إلا في اليوم الأخير من ولايته في أيلول 1976. 

هكذا إنتهى عهد سليمان فرنجية الذي كان من أقسى العهود على لبنان، عهد بدأ حاملاً شعار “وطني دائماً على حق” ،  فأنتهى وقد إختلط الحق بالباطل، مؤكداً المثل الفرنسي الذي يقول بأن الطريق إلى الجحيم معبدة بالنوايا الحسنة، كما أنه في بداية عهده وعد فرنجية اللبنانيين بالأمن والأمان عبر دعوتهم للنوم “وأبواب بيوتهم مفتوحة”، فإنتهى وقد شُرِّعت أبواب الوطن على الجحيم والخراب. لم يعتزل سليمان فرنجية السياسة بعد خروجه من منصبه، بل أصبح الضلع الثالث في قيادة الجبهة اللبنانية مع كل من كميل شمعون وبيار الجميل، كما أنه أوكل لنجله طوني قيادة “جيش التحرير الزغرتاوي” الذي كان جزءاً لا يتجزأ من الميليشيات المسيحية كقوات الكتائب ونمور الأحرار وحزب التنظيم, الذي كانت ترعاه بدايةً المخابرات العسكرية منذ أيام جول بستاني. وقع الخلاف مع الجبهة اللبنانية لاحقاً، على خلفية التعامل مع كل من إسرائيل وسوريا، التي كانت قد سيطرت على لبنان تحت مسمى “قوات الردع العربية” ، كما على خلفية النفوذ في شمال لبنان، فكانت مجزرة إهدن في 13 حزيران 1978، التي قتل فيها نجله طوني وعائلته وحوالي 30 شخصاً من أنصاره، والتي نفذتها القوات الكتائبية التي كانت بإمرة بشير الجميل، وكانت  العملية بقيادة سمير جعجع الشمالي هو الآخر، ما خلف مجازر أخرى في المنطقة على خلفية ثأرية. 

بعد إتفاق الطائف وقبل وفاته في 23 تموز 1992 سلَّم ” الراية ” لحفيده سليمان الذي عُيِّن وزيراً منذ أول حكومات الطائف ومن ثم نائباً معيَّناً وبعدها نائباً منتخباً واليوم مرشح جدي لرئاسة الجمهورية

في بداية الثمانينات وأثناء محادثات جنيف ولوزان بعد معارك بيروت والجبل، كان له موقفاً مغايراً ومفاجئاً لحلفائه أنذاك رشيد كرامي ووليد جنبلاط ونبيه بري، حينما إصطف مع خصومه من اليمين المسيحي، رفضاً للإصلاحات ودفاعاً عن الإمتيازات المسيحية في السلطة، في عام 1988 وعلى أبواب الإنتخابات الرئاسية، وفي غمرة الخلافات المارونية – كما عند كل إستحقاق رئاسي – رشَّح نفسه لرئاسة الجمهورية، ما أعتُبر يومها تحدٍ للأطراف الموارنة من أمين الجميل إلى سمير جعجع مروراً بقائد الجيش يومها ميشال عون، فكان أن إستقر الإتفاق الأميركي – السوري على مخايل الضاهر أو الفوضى، رفض الموارنة وكانت الفوضى. 

بعد إتفاق الطائف وقبل وفاته في 23 تموز 1992، سلَّم ” الراية ” لحفيده سليمان طوني فرنجية، الذي عُيِّن وزيراً منذ أول حكومات الطائف، ومن ثم نائباً معيَّناً وبعدها نائباً منتخباً، واليوم مرشح جدي لرئاسة الجمهورية، في ظروف لا تقل خطورة وتعقيد عما كانت عليه ظروف تولي سليمان الجد سدة الرئاسة، وبين سليمان الجد وسليمان الحفيد مسافة نصف قرن، كانت كفيلة بتحويل لبنان من “سويسرا الشرق” إلى ما يمكن تسميته اليوم ب “رجل الشرق   المريض”، وهي فترة يتحمل سليمان فرنجية الرئيس جزءاً كبيراً من المسؤولية عنها، ولو أنه لم يكن المسؤول الوحيد  بالتأكيد، وهذا ما سيقرره التاريخ في حقه وحق غيره من المسؤولين.   
     

السابق
في موسم زيت الزيتون إحذروا من الإفراط بتناوله
التالي
ملفٌ واحد، وحِساباتٌ كثيرة: إيران ومُعضلة المعارضة الكردية-الإيرانية في إقليم كردستان العراق