وجيه قانصو يكتب لـ «جنوبية»: فتوى إعدام رشدي.. حاجة لمن؟

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

تُحَاكَمُ الرواية، أية رواية أدبية، داخل مجال صناعتها الذي هو أصول النقد الأدبي، أي تُحاكم لجهة جودة حبكتها وردائها، عمق رسالتها وسطحيتها، جمالية صورها وركاكتها، إبداعات خيالها وضحالتها، درجة تأثيرها أو رتابتها. هي تخرج من الأحداث الفعلية والواقعية لتخلق عالماً موازياً متخيلاً وصناعياً، بالتالي لا تتعامل بشفافية أو بأمانة مع حقائق ووقائع وأحداث فعلية أو قيم سائدة، بل تعمد الرواية إلى دمجها والتلاعب بها وتحويرها وإعادة إنتاجها لتخدم غرض الرواية ودراميتها. 

لا تقدم الرواية مقولات عقلية تقوم على إثباتات قاطعة، لأنها المساحة المتحررة من جفاف العقل وصرامته، ولا تدعو إلى معتقدات أو تطرح مواقف صريحة، ولا تؤكد حقائق ووقائع فعلية أو تنفيها

بالتالي لا تقدم الرواية مقولات عقلية تقوم على إثباتات قاطعة، لأنها المساحة المتحررة من جفاف العقل وصرامته، ولا تدعو إلى معتقدات أو تطرح مواقف صريحة، ولا تؤكد حقائق ووقائع فعلية أو تنفيها، لأن الرواية ريشة فن  وخيال طليق، تخلق عالماً خاصاً بها له معاييره الذاتية وله سياقات متحررة من كل اعتبار اجتماعي أو مسلمات ثقافية أو حتميات طبيعية وضرورات منطقية. فالرواية خارج الزمان لأنها تنتج زمانا خاصا بتعاقب وتسلسل مبتكرين، وخارج المكان الذي نعرفه لأن مهمتها خلق مكاناً آخر بتراتبيات وتفاعلات مختلفة.

الرواية لا تُكتب لقراء من كوكب آخر، بل تكتب لبشر على الأرض، تعمد الرواية إلى الكشف عن صور صامتة، باطن متوار، انتهاك مستور، إمكانات وجود محتملة، غريزة مكبوتة، رغبة حالمة، عالماً خارج المألوف والمتوقع وربما عالماً مستحيلاً

في الوقت نفسه فإن الرواية لا تُكتب لقراء من كوكب آخر، بل تكتب لبشر على الأرض، تعمد الرواية إلى الكشف عن صور صامتة، باطن متوار، انتهاك مستور، إمكانات وجود محتملة، غريزة مكبوتة، رغبة حالمة، عالماً خارج المألوف والمتوقع وربما عالماً مستحيلاً في طبيعته لكنه يستجيب لتطلعات كامنة ودفينة، أي موجودة بأبعاد أخرى.  هذه منطقة اشتغال الرواية، التي ليس غرضها نقل الحقائق كما هي أو وصف الأشياء وفق طبيعتها، لأنها بذلك تكون سرداً تاريخياً، أو بحثاً علمياً، أو أطروحة اجتماعية، أو مقولة عقائدية، بل إن غرضها (أي الرواية) صناعة فنية خلاقة لعالم آخر من نفس مواد العالم والمشاهد والأحداث التي نختبرها وتتكرر أمامنا، لكن تعطي لنفسها حرية صياغتها أو حبك تفاعلاتها بطريقة مختلفة، لتحدث فينا صدمة الجديد والغريب والمستبعد وغير المتوقع. 

قد تتفاوت المقاربات وتختلف التحليلات والمقترحات حول الرواية، لكنها جميعها تصب حول القيمة الجمالية لعمل أدبي

هذا الكلام بمثابة تمهيد للحديث عن رواية “آيات شيطانية” لمؤلفها سلمان رشدي. إذ أقصى وأعلى سقف لما يمكن أن يقال بحق هذه الرواية، أنها سيئة، ذات خيال وضيع، وقيمة أدبية متدنية، تعاني من ارتباك في حبكتها الروائية، تخلق تشويشا وارتباكا في ذهن القاريء حول رسالتها، عالمها متداخل وغير مفهوم، استعملت الرموز الدينية وحورت المضامين الإسلامية بطريقة تعسفية لا تخلو من اللامبالاة أو الإهمال تجاه القاريء ذي الحساسية الدينية العالية.  هذا كله يحمل النقاش والأخذ والرد، وقد تتفاوت المقاربات وتختلف التحليلات والمقترحات حول الرواية، لكنها جميعها تصب حول القيمة الجمالية لعمل أدبي. فلا معنى للقول مثلاً بكذب الرواية أو صدقها، قوة برهانها أو ضعفه، شدة إيمانها أو كفرها، أخلاقيتها أو لاأخلاقيتها، بل يقال بحقها: جيدة أو رديئة، مبتذلة أو مبتكرة، مشوقة أو مملة، خلاقة أو باهتة.  

قد يقال أن الرواية لم تراع حساسية المتدينين المسلمين تجاه رموزهم ومعتقداتهم. لكن شعور المسلمين بالإهانة شيء، وإهانة الرموز الدينية شيئاً آخر

نعم قد يقال أن الرواية لم تراع حساسية المتدينين المسلمين تجاه رموزهم ومعتقداتهم. لكن شعور المسلمين بالإهانة شيء، وإهانة الرموز الدينية شيئاً آخر. فكل ما يدخل إلى عالم الرواية يصبح شيئاً آخر بمضمون مختلف وحقيقة مختلفة، بالتالي هي عملية ابتكار وصناعة لشخصيات مقتبسة من الواقع الإنساني ويعاد صياغتها وبناءها وتركيبها بطريق مختلفة وفي سياق آخر. فالمُهان ليس الرموز أو الحقائق الدينية، بل الشخص المتدين ذو الحساسية العالية الذي شعر بالإهانة، كونه لا يحمل أو لا يتحمل تمييزا بين الحقيقي والمتخيل، بين القول العقائدي أو اللاهوتي والتعبير الأدبي، بين النقد والنقض، بين الوصف والتصريح، بين الحسي والخيالي، بين الظاهر والباطن، بين المسؤولية والحرية.

ما حصل بأقصى صوره هو سوء أداء من المرسِل وسوء فهم من المرسَل إليه

فالمُهان ليس المتدين، أي متدين، بل شكل تدين خاص، نمط وعي خاص بالدين، طريقة تفكير يفسر على أساسها الدين ويفهم حقائق الحياة والعالم. طبعاً هذا لا يسوغ إهانة أحد، وكان لا بد لسلمان رشدي مراعاة قابلية المتلقين والقراء، وإمكانية التواصل معهم، وإلا ضاعت أصل الفكرة أو الصورة التي تريد الرواية إيصالها. لكن هذا يندرج في تقييم حسن أو سوء الأداء والتقدير، ولا يندرجان في خانة التعرض للدين أو معاداة رموزه ومضامينه. أي ليست القضية قضية حملة على الإسلام والمسلمين، أو “معاداة للرسول والقرآن” بحسب فتوى الخميني، بل قضية التباس بين الراوي المرسِل وبين متلقٍ مُرسَل إليه ذي مزاج خاص ووعي ونمط تفكير خاصين، يحاكم الرواية، وكل ما يتلقاه ويحتك به، وفق معايير عقائدية صارمة ووفق طريقة حَرفية لا علاقة لها بمقصد وخطاب ورسالة الرواية. ما حصل بأقصى صوره هو سوء أداء من المرسِل وسوء فهم من المرسَل إليه.

إقرأ أيضاً : وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: جريمة هادي مطر.. انتقام لمن؟

نحن أمام ذهنية لا أمام دين، أمام عقل ديني معاصر، يسعى إلى الفعل والتأثير في التاريخ المعاصر من دون القيام بأي مجهود إزاء بناه الفكرية الموروثة، بل يكتفي بأدلجة المأثور بحسب تعبير داريوش شايغان، بأن يكثف يقينياته ويوسع مساحة ثوابته ومحرماته ويستحضر المقدس حارساً وحامياً ورادعاً ومعاقِباً وحتى مرعباً.  هو عقل يكره التعدد، لأن التعدد يقلصه إلى الحجم الذي يناسب موقعه ومكانته في العالم، يـتأذى من الاختلاف لأن الاختلاف يحول يقينياته قناعات خاصة ويجعل الحقيقة مسألة تأويل وتفسير.  عقل شغوف بالثنائيات المتقابلة والمتناقضة، يريد العالم مقسوماً على نفسه بين معسكرين: معسكره هو وحده ومعسكر كل الآخرين على تنوعهم واختلافهم. قسمة ليس غرضها الإقرار بوجودين مختلفين، بل غرضها محاكمة العالم والحكم عليه، التعالي عليه لإدانته، بالتالي تسويغ الحقد عليه ولعب دور الضحية للإنتقام منه. 

هو احتفاء بفعل القتل نفسه لا أكثر، إشباع لرغبة انتقام، تنفيس حقد، تخيل وهمي بانتصار ذاتي وهزيمة كبرى لمعسكر الكفر

هذا يفسر لنا الاحتفاء والتهليل الهائلين في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بمحاولة قتل سلمان رشدي، الذي وسم بــ”البطولي” أو “الشجاع”.  هو احتفاء بفعل القتل نفسه لا أكثر، إشباع لرغبة انتقام، تنفيس حقد، تخيل وهمي بانتصار ذاتي وهزيمة كبرى لمعسكر الكفر.  ليس المهم لدى هؤلاء معرفة دليل الردة أو التعرف إلى شاهد “جريمة” إهانة المقدسات، أو منطلق الحكم بالإعدام. فهذه جميعاً لم تُناقش ولم تُبحث حتى الساعة. فالقضية عندهم ليست قضية معرفة أو إثبات حقيقة أو إيصال فكرة أو استعانة بدليل، بل قضية جرح ذاتي لا يشفيه إلا إعدام الخصم وفناءه، توق لفرح لا يرويه إلا قتل عدو مفترض والتنكيل به، حاجة إلى مذنب أو مجرم نُسقِط عليه كل غضبنا وسخطنا وحقدنا وإداناتنا. مشهد لا يحاكي صراعاً مع العالم “المتآمر علينا”، بل يكشف عن أزمة صراع ذات مع نفسها، ما تزال في حالة حيرة وارتباك وتأزم في طريقة تعاملها مع محيطها ونمط استجابتها للعالم المعاصر.  

لم تنفع أية فتوى بردع أحد من “الإساءة إلى مقدسات المسلمين” فالذين يتطاولون على الإسلام ورموزه بطريقة التصريح المباشر لا التلميح والترميز، في الإعلام والمؤلفات، لا يمكن حصر عددهم لكثرتهم

       

رغم كل ذلك، لم تنفع أية فتوى بردع أحد من “الإساءة إلى مقدسات المسلمين”، فالذين يتطاولون على الإسلام ورموزه بطريقة التصريح المباشر لا التلميح والترميز، في الإعلام والمؤلفات، لا يمكن حصر عددهم لكثرتهم. ومع ذلك لم تصدر بحقهم فتوى بضرورة قتلهم وملاحقتهم. كما إن فتوى قتل رشدي ألبسته رداء ليس له، بعد أن حولته بنظر المجال الغربي إلى رمز لحق التعبير والفكر الحر. بالتالي أعطت الفتوى مفعولا معاكساً لغرضها وهدفها، ووضعت الإسلام في مقام المنتقم والمعاقب لا الذي يعفو يسامح ويغفر، في مقام العنف والترهيب والتخويف لا المحاور والمناقش والتواصلي والناقد. لم تخدم الفتوى غرضها، بل كانت مصدر حرجٍ شديد للدولة الإسلامية في إيران، التي اضطرت في وقت لاحق إلى التخلي عنها وعن مسؤولية تنفيذها، إضافة إلى أنها ألصقت بالمسلمين صورة نمطية ما يزال عقلاؤهم يعملون إلى اليوم على تبديدها وإزالة أثارها.

السابق
«قفزة» بسعر الدولار ظهراً
التالي
«السيد محمد حسن الأمين في الذاكرة».. لقاء في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي