وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: جريمة هادي مطر.. انتقام لمن؟

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

مر حدث طعن سلمان رشدي كأمر عادي في بلد حصول الجريمة (الولايات المتحدة). فهكذا أحداث باتت مألوفة ومتكررة. إقدام شخص مجهول ومغمور، يعاني من عقدة تهميش، ويعيش أزمة فشل ومشكلة تحقيق ذات، وعجزٍ عن تحمل مصاعب الحياة ومتطلباتها، إقدام هكذا شخص على جريمة عامة تتصدر عناوين الصحف ونشرات الأخبار، بات من عوارض المجتمع الغارق في الاستهلاك، من تبعات الشعور المؤرق بأن الإنسان متروك لوحده في ساحة التنافس، الذي لا يرحم على الثروة والسلطة، من تقلص التضامنات الاجتماعية، من تناقص في عناصر الأمان، من ارتباك في معنى الهوية، من ضياع في حقيقة الانتماء، ومن ارتفاع في منسوب القلق على المصير والمستقبل.

هي جميعها عوارض مشكلات وأزمات محلية داخل الولايات المتحدة، تتطلب معالجة، وضع سياسات، تعديل قوانين، مزيد توعية، حملات لتعزيز الشعور بالإنتماء، مزيد من برامج الاندماج الاجتماعي، تحرز أعلى في الإجراءات الأمنية. لذلك، لم يُقدِّم أحد من المحققين تفسيراً على أن ما حصل يندرج في خانة الصراع بين الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، الهداية والضلال، جرح لكرامة وطنية من قبل دولة أجنبية، إهانة لقيم وطنية، انتقام إيراني في عقر دار أميركا. فسؤال ما بعد الجريمة أخذ يتمحور، حول ماذا يجب أن نفعل لنصحح خطايانا الداخلية، أي ماذا كان الخطأ؟ وكيف يمكن أن نصبح أفضل؟ لا ماذا يجب أن نفعل لننتصر أو نغلب أعدائنا؟

لم تُدرج العقيدة الدينية أو الحَمِيَّة الإيمانية ضمن دوافع الجريمة، فالتحقيقات انصبت على شخص الفاعل وسيرته الذاتية

فالنقد يتوجه أولاً إلى الذات قبل أن يُلقى على كاهل متآمرين معروفين أو مجهولين.

لم تُدرج العقيدة الدينية أو الحَمِيَّة الإيمانية ضمن دوافع الجريمة، فالتحقيقات انصبت على شخص الفاعل وسيرته الذاتية، وعمد المحققون إلى الغوص في عوارض مرضه النفسي وتشويشه الذهني، اللذين خلقا فيه سلوكا عدائياً، وفجرا فيه رغبة انتقام لا من شخص بعينه، بل ضد محيطه وبيئته وواقعه. ما يعني أن جريمة هادي مطر لم تكن نابعة من عداوة عقائدية لبيئته، أو دواع نبيلة لإحقاق الحق، بل عداوة ذاتية شخصية ضد محيط حمَّله هادي مسؤولية أزماته وأسقط عليه مشكلاته وتوتراته. محيطٌ أراد هادي أن يعاقبه، ينتقم منه، يؤذيه، يشوهه، يثخنه بطعنات حقده وغضبه وبغضه واحتجاجه. بالتالي لا يعود فعل الانتقام إنتقاما من شخص بعينه، أو تطبيقا لحكم عادل بمُذنب، بل فعلٌ يبحث عن شخص يوفر قتلُهُ فرصة، لتنفيذ فعل الانتقام وتفجير السخط في العلن. فالطعنات التي غرسها هادي مطر في جسد سلمان رشدي، لم تكن سوى تنفيس لضغينة، تنكيل عنيف وتمزيق مشوه ضد بيئة نقم عليها، رغم أنه ولد ونشأ فيها.

جريمة هادي مطر لم تكن نابعة من عداوة عقائدية لبيئته، أو دواع نبيلة لإحقاق الحق، بل عداوة ذاتية شخصية ضد محيط حمَّله هادي مسؤولية أزماته وأسقط عليه مشكلاته وتوتراته

لم يمارس هادي مطر دور البطل الغيور على دينه والغاضب لمقدساته، ولم يعلن عداوته للغرب، ولم يلعب دور الشهيد بتبرؤه من النظام السياسي الذي يعيش فيه، أو رفضه الاحتكام إلى “الطاغوت”، فهذه جميعاً تحتاج إلى إعداد زمني طويل وتأهيل مكثف، لم يحصل عليهما هادي. بل تجده يتمسك بحقوقه كمواطن أمريكي، ويلوذ بالحصانات القانونية التي توفرها بلدُه (أميركا) له، وأخذ بنصيحة المحامين، الذين تؤمنهم الدولة للدفاع عنه بالمجان، بادعاء البراءة من جريمته. هي براءة يعتمدها شخص في مثل حالة هادي، للقول بأنه فَعل فعلته عن غير وعي أو إدراك لما يفعل أو في حالة عدم توازن نفسي أو خلل عقلي، وهي جميعها ادعاءات غرضها إثبات عدم مسؤوليته عن الأفعال التي صدرت عنه، بالتالي إسقاط العقوبات القانونية بحقه.

تجد مطر يتمسك بحقوقه كمواطن أمريكي، ويلوذ بالحصانات القانونية التي توفرها بلدُه (أميركا) له، وأخذ بنصيحة المحامين، الذين تؤمنهم الدولة للدفاع عنه بالمجان

عاش هادي مطر حياته كأي أمريكي، لم يعرف الدين ولا التدين، تعرَّف إليه (أي الدين) في فترة أزمته وقلقه، في رحلة بحث عن معنى ما ، عن قيمة سامية تعوض عليه عقدة التهميش، عن هوية تنتشله من صراع الانتماءات في داخله، عن دور يُشعره بقيمة ذاتية، عن نموذج قيادة يسوغ رغبته في الانتقام، عن مهمة إلهية تجعل من جريمته عملاً مقدساً.
هذا لا يمنع دخول جهات أو أجهزة أمنية خارجية (إيرانية)، بل هو أمر راجح وشبه مؤكد، وجدت في هادي اليائس والمحبط، نموذجا مثالياً لإحياء فتوى طمسها النسيان.

فحصل نتيجة لذلك تقاطع براغماتي بين مسارين: مسار متلبس بالقداسة (مؤسسة فتوى الخميني) يبحث عن طريق دنيوي لتنفيذ مهمة سامية، ومسار مدنس (رغبة هادي بالانتقام) يبحث عن قداسة تُطهرُه من الشعور بالسقوط وعن بطولة متخيلة تنتشله من عقدة النقص. لم يكن المقدس والتسامي والفضيلة، بالنسبة لهادي، سوى وسيلة، أداة، مادة قوة وعزيمة وثبات، أكثر منها غاية وغرض وهدف. ما فعله هادي لم يكن انخراطاً في صراع الحق ضد الباطل، بقدر ما كان تعويضاً نفسياً له، ضرورة معنوية لمسح آثام إراقة الدماء، وحاجة ملحة لإسباغ صفة الخير والفضيلة على فعل الجريمة.

ما فعله هادي لم يكن انخراطاً في صراع الحق ضد الباطل، بقدر ما كان تعويضاً نفسياً له

لم يقرأ هادي مطر من كتاب “آيات شيطانية” شيئاً، فقراءته بحسب قوله كانت “صفحتين من الكتاب” يعني أنه نظر إلى صورة الغلاف على مواقع الإنترنت، فقط لتعريفه بعنوان الجريمة، من دون أن يتعرف إلى حقيقة هذه الجريمة ولم يتعرف إلى موجبات التهمة ومنطلقات الحكم بالردة والقتل، بل لم يعلم ما إذا كان هنالك جريمة ازدراء وردة وتآمر قد حصلت بالفعل. بالتالي عرف هادي ماذا يريد أن يفعل، وهو القتل، لكنه لم يعرف معنى وحقيقة وموجبات هذا الفعل. فكان فعلاً فارغاً أجوفاً مفصولاً عن معناه وحقيقته. فالمهم بنظره ليس تنفيذ العقاب على إهانة المقدسات، بل تحقيق مشهدية الانتقام نفسها التي قصدها لذاتها، وأراد مسرحتها في مكان عام.

المهم بنظره ليس تنفيذ العقاب على إهانة المقدسات، بل تحقيق مشهدية الانتقام نفسها التي قصدها لذاتها

لا تُفهم جريمة هادي مطر الذي ولد ونشأ في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا داخل سياق يتصل بظروف حياته وبيئته وعائلته. فالجريمة بكل ملابساتها حدثاً أمريكياً خالصاً، سواء أكان في مسبباتها العميقة المتعددة، أم في محفزاتها المباشرة. ما يجعل طعنة سلمان منقطعة الصلة عن دعوات الإنتقام للإسلام ورموزه، وخارج دائرة الصراع التي تأسست عليها فتوى الخميني، بأنها صراع المسلمين والإسلام ضد مكائد الغرب وحقده وتآمره على الإسلام.
فقدت فتوى الخميني جاذبيتها وتعطلت الدوافع الدينية لتنفيذها، بما فيها الدولة الإسلامية في إيران، التي لم تستطع أن تُسقط الفتوى ولكنها تخلت عن تبنيها لها، وأعلنت تنصلها من أية صلة أو مسؤولية بها. أي فقدت الفتوى غرضها الديني وجدواها السياسية، ولم تعد سوى أداة تعرض قداسة مجانية على على كل مسعى لإشباع غِل، أو تنفيس حقد، أو رغبة انتقام.

السابق
آخر تطورات الترسيم.. اليكم تفاصيل الاتصال المطول بين هوكشتاين وبوصعب
التالي
مجلس التنفيذيين اللبنانيين يزور قائد الجيش.. وتأكيد على الحفاظ على العلاقات مع الدول العربية