وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: عاشوراء ولعبة الأقنعة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

عصارة ما قيل حول زحف مجالس حزب الله العاشورائية إلى مسارح الفن ودور السينما، المتمثل بإقامتها في مسرح المدينة، بأنه أمرٌ عادي بل إيجابي ومشرق، لما فيه من إظهار للغنى الثقافي الذي يعكسه تعدد الأديان في لبنان، وتنوع الخلفيات الفكرية والميول السياسية فيه. بل فيه تأكيد لحرية التعبير الديني وحق ممارسة الشعائر الدينية، كحق أساسي وضروري لمقومات العيش المشترك في لبنان.  بالتالي يكون الحدث إخراجاً لكامل الإمكانات الوطنية الكامنة إلى الضوء، وتجلية الأبعاد المخبئة أو المقموعة فيه، وتثبيت فعلي لا افتراضي لحقيقة لبنان التي أساسها حرية المعتقد والتعبير الديني. 

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: البطريركية آخر حصون الكيان

ما قيل هو كلام مطلق لا صلة له بحدث إقامة المجالس في مسرح المدينة، لأنه لا يعرض مؤديات وتبعات هذا الحدث والأفكار التي يختزنها ويروجها، بل يعدد مزايا فكرة افتراضية وقيمة أخلاقية مفترضة، لغرض تسويغ الحدث وتزيينه وتجميله. هو استدلال بالمقلوب، بمعنى أن مدار النقاش ليس الفكرة التي يدعي الحدث الإنتماء إليها، بل الفكرة التي ينتجها الحدث ويمارسها وتتولد منه، أي الفكرة التي تنسجم مع منطق خطاب الحدث وتكون ملاصقة لطبيعته.   بعبارة أخرى ليست الفكرة المطلقة والمنزهة والمعلقة في الهواء محلاً للنقاش، فالفكرة المتخيلة أو المتصورة لا تهب بذاتها شرعية أو مقبولية لأي سلوك أو فعل يدعي الإنتساب إليها، بل إن الحدث والفعل وطبيعة نشاطه ومنطق خطابه، والقيم التي يروجها ويبثها والجهة التي تقف وراء الحدث كله، هي نقطة البداية ومنطلق التقييم للتعرف إلى حقيقة المفاهيم والأفكار الفعلية، التي يقف عليها الحدث وتصوغ منطقه وتنتج خطابه.  

ما قيل هو كلام مطلق لا صلة له بحدث إقامة المجالس في مسرح المدينة لأنه لا يعرض مؤديات وتبعات هذا الحدث والأفكار التي يختزنها ويروجها

هذا هو الفرق بين الفكرة الإفتراضية وبين الفكرة الفعلية والمهيمنة، بين الإدعاء وبين الممارسة، بين الأيديولوجيا وبين الواقع الحقيقي، بين الإكراه والإملاء وبين حق الاختيار وحرية التفكير، بين الترويج والدعاية المبرمجة وبين تلقي الظاهرة الحسينية بعفوية وحساسية وجدانية، بين القناع الذي يخفي حقيقة الحدث ومقصده، وبين أن ندع الظاهرة الحسينية تُظهر نفسها بنفسها، أي الفرق بين أن نسقط على الظاهرة الحسينية رغباتنا وهلوساتنا وهواماتنا من جهة، وبين أن نزيل الحجب أمام انبعاثاتها المتدفقة وتوتراتها الخلاقة من جهة أخرى.

نحن أمام خطاب يكرر نفسه إلى حد الرتابة والملل، ويعاني ما يعانيه من آحادية تفسير وتوظيف سياسي وسوء استعمال ديني.  أخطر ما في هذا الخطاب أنه يمارس لعبة أقنعة، يضع مأساة كربلاء في الواجهة، ويعمد إلى تمرير ما لا ينسجم مع مقصدها وطبيعتها، إلى إعادة إنتاج مادة عاشوراء البطولية، لغرض إقامة ملازمة مصطنعة وتوافقا غريبا بين نقيضين: بين فعل استشهاد ضد الاستبداد وبين سلطة تتعالى بصلاحيتها إلى حد الادعاء بالتفويض الإلهي، بين نزعة التحرر والرفض لكل ظلم وبين تعميم نعم الانصياع والخضوع، بين مسعى الإصلاح الجامع داخل الأمة، وبين ممارسات الغلبة والزهو بالقوة المفضيين إلى التشرذم والصراعات الداخلية.

أخطر ما في هذا الخطاب أنه يمارس لعبة أقنعة يضع مأساة كربلاء في الواجهة ويعمد إلى تمرير ما لا ينسجم مع مقصدها وطبيعتها إلى إعادة إنتاج مادة عاشوراء البطولية لغرض إقامة ملازمة مصطنعة

 تأخذ الظاهرة الحسينية حقها حين تكون: واحة استكشاف، موضوع تأمل، نص مفتوح للقراءة، تعددية تأويل، فسحة اختلاف، وجمالية درامية شديدة المأساوية، إمكانات كامنة لإنسانية فائضة، ما يؤهلها لأن تكون ساحة إنسانية مشتركة،  لا خصوصية ثقافية وملكية مذهبية.  بالتالي، لا يعود ما يتم بثه وتعميمه حقائق عاشورائية، بل تعميمات سلطوية تتقنع ببطولة حسينية وتتلثم بآلام زينبية.  هو جزء من مشهد يكرر نفسه كل عام، يفرض نفسه عليك بأعلامه وسطوة شعاراته وصور رموزه الحية.  هو خطاب لقوة يراد لها أن تتمدد وتنتشر وتملأ الساحات والميادين العامتين، غير عابئة برأيك، أو ردة فعلك، أو الأثر السلبي الذي تحدثه في داخلك.

حين تتوسع ظاهرة أكثر من قدرها فإن هذا لا يعود حقاً طبيعياً لها،بل يكون توسعاً على حساب ظواهر أخرى يصبح تعدٍ على مساحات تعبير متنوعة وانتهاك لثقافات مختلفة

حين تتوسع ظاهرة أكثر من قدرها، فإن هذا لا يعود حقاً طبيعياً لها، بل يكون توسعاً على حساب ظواهر أخرى، يصبح تعدٍ على مساحات تعبير متنوعة وانتهاك لثقافات مختلفة. يتحول التوسع إلى فعل غزو وإمحاء لأوجه تعبير ونشاط يحتاج إليهما المجتمع للحفاظ على توازنه وحيويته ووفرة مخزونه الثقافي. بذلك، لا يكون المقصد والدافع بث فكرة أو التعريف بمبدأ، بل تغليب فكرة على فكرة، واستضعاف هوية للهويات الأخرى، واجتياح صورة حياة في غاية الخصوصية لصور حياة أخرى في غاية التنوع والتلون.  عندها لا نعود أمام مشهد إظهار للتعدد وإغناء للتنوع، بل أمام مظاهر قطيعة وعزلة، أمام ادعاء بالتفرد والفرادة يحرص على التباين مع كل من هو خارجه، أمام ملكية حصرية للحقيقة لا حظ لآخرين فيها، أمام هوية تصر على تمايزها بل تفوقها على باقي الهويات. 

نحن أمام ثقافة لا يعنيها أن تشارك الآخرين ما لديها، أو أن تنشىء منطقة حقيقة جامعة معهم، بل أمام ثقافة تريد ابتلاع كل ما يحيط بها من ثقافات، وتحطيم كل ما يغايرها من نشاطات وعادات وأنماط تعبير. إنها ثقافة تكره الإختلاف.

السابق
بالفيديو: «معنا المال والسلاح وما قادرين ناكل».. بلدة جنوبية تنتفض بوجه الثنائي الشيعي!
التالي
توتر سياسي حاد في العراق.. والصدر يدعو أنصاره في المحافظات الى العودة لمنازلهم!