وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: الملف البحري.. إما أن يكون إنجازا لبنانياً أو لا يكون

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

القول بأن لبنان بحاجة إلى توظيف كل عناصر القوة لديه، بما فيها القوة العسكرية، لفرض شروط تفاوضية قوية ضد إسرائيل، في معركة الصراع والمساجلة لترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وإسرائيل، هذا القول لا غبار عليه، إلا أنه قول واقع خارج سياق المسعى اللبناني لحفظ حقوقه الوطنية، وخارج دائرة النقاش بين اللبنانيين أنفسهم.

اقرا ايضا: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: حماس تسلخ فلسطين عن هويتها

المشكلة أن لبنان لم يستجمع عناصر قوته بما فيه الكفاية، ولم يصلح الخلل في علاقاته العربية، ليكون المجال العربي مصدر إمداد ودعم في نضاله المشروع، ولم يشن حملات دبلوماسية كافية لتكوين موقف دولي مؤيد، ولم تصدر السلطة دراسات قانونية تبعد الشبهات عن حق لبنان الثابت. هي عوامل تسببت بندرة في عناصر القوة وشعوراً ذاتياً بالضعف، ما عزز الوهم لدى العديد من اللبنانيين، بأن سلاح “حزب الله” هو الملاذ الأخير، بل الحصري في تحصيل هذا الحق.

المشكلة الثانية تكمن في غياب مرجعية موحدة تستند إلى استراتيجية واحدة، ذات قدرة مبتكرة على خلق تفاعل وتكامل بين عناصر القوة المتعددة. أي إن المشكلة ليس في عدد عناصر القوة وعديدها بل في غياب ما يجمعها ويوحد مسارها، ويحدث تناغما في إيقاعها لتؤدي معزوفة سياسية متقنة لا نشوز فيها. 

حين تغيب المرجعية الموحدة، التي هي الدولة حصراً، بصفتها صاحبة الحق الطبيعي (غير المكتسب) والحصري في خوض معركة ترسيم الحدود، فإن عناصر القوة المتعددة تتشتت وتتضارب، وتنشط بصفتها وحدات منفصلة عن غيرها، بل قد يتسبب الاستعمال غير المتناغم بينها، بحالة ضعف وارتباك وعجز، وبالتالي فشل في عملية المفاوضات بأسرها، التي رضي لبنان دخولها، واعتمدها طريقاً لتحصيل حقه البحري أو البري. 

ليست العبرة في لغة السجال ورفع وتيرة التهديد الصوتي، وليست أيضاً في استعراض القوة التدميرية والأسلحة الدقيقة والمسيرات عالية التقنية، بل فيمن يدير عملية المواجهة ومن يقف وراءها، ومن يقرر رفع السقف المواجهة أو خفضه، ومن يقرر تقديم لغة الدبلوماسية على لغة السلاح أو بالعكس، من يقرر الذهاب إلى الحرب في حال وجد فيها فرصاً أفضل، ومن يفضل أولوية الدبلوماسية، أو الدمج بين البراعة الدبلوماسية والقوة العسكرية. هو أداء لا تقرره سلطات مترادفة ومتوازية وبديلة، بل سلطة واحدة هي سلطة الدولة، تعلو جميع السلطات والمرجعيات. سلطة ذات ولاية مطلقة، لا لأنها جاءت بموجب نص ديني، بل بموجب أنها المجتمع نفسه في حال تنظيم وتدبير شؤونه، أي هي الأنا الجماعية أو الإرادة العامة التي يرى كل فرد أنه جزء منها.

ولعل الفرق الجوهري بين ما تنجزه الدولة وما ينجزه عنصر قوة خاص حين يتفرد بنفسه، ويخرج من سلطة السلطة الأم التي هي الدولة.  أن إنجاز الدولة هو إنجاز للأنا الكلية التي ينتمي إليها كل فرد، ما يجعل كل فرد شريكاً ومشاركاً في هذا الإنجاز، أي هو إنجاز تتوزع منافعه وفضائله على جميع المواطنين بالتساوي. أما الإنجاز الخاص، مثل أي إنجاز يحققه حزب الله مثلا أو يدعيه، فهو إنجازه لوحده، ومادة تباهي وتفاخر لعناصره وقيادته على الآخرين، بل موجب لترسيخ معادلة الغالب والمغلوب في حياة لبنان السياسية والاجتماعية، وباعث خوف لدى مكونات المجتمع الأخرى. 

كذلك، فإن ثمار إنجاز الدولة تكون لصالح جميع المواطنين، ويعزز سيادة الدولة، ويخلق طمأنينة باقتدارها على القيام بمهامها ووظائفها بطريقة ناجحة.  أما إنجاز حزب الله فتكون ثماره، بحكم ارتباطه العضوي بإيران،  لصالح محور إقليمي تضع استراتيجياته وسياساته مؤسسة الحرس الثوري الإيراني. ما يجعل إنجاز حزب الله مادة توظيف لصالح دولة أخرى ودليل على مزيد من النفوذ والهيمنة الإيرانية على لبنان، وعلامة على ضعف الدولة وعجزها.

ثمار إنجاز الدولة تكون لصالح جميع المواطنين ويعزز سيادة الدولة ويخلق طمأنينة باقتدارها على القيام بمهامها ووظائفها بطريقة ناجحة

المعادلة البسيطة التي يتجنب حزب الله ذكرها، ويهاب الأخرون التنبيه إليها، بمن فيهم التغييريون والسياديون: كلما قويت الدولة وتمكنت من ممارسة سيادتها كاملة، تقلصت قوة حزب الله وتهمشت وضاقت دائرة نشاطه، وكلما تضخم سلاح حزب الله بوضعه الحالي، وحقق إنجازات أمنية وعسكرية وحتى سياسية لحسابه، كلما ضعفت الدولة وذبلت وتقطعت أوصالاً وأشلاء. 

إنجاز حزب الله فتكون ثماره بحكم ارتباطه العضوي بإيران لصالح محور إقليمي تضع استراتيجياته وسياساته مؤسسة الحرس الثوري الإيراني

لذلك حين يبادر حزب الله إلى إرسال رسائل أمنية تثبت اقتداره في الوصول إلى أهداف إسرائيلية دقيقة، فهو دخول على خط الدولة اللبنانية في عملية إدارتها لعملية المفاوضات. هي رسائل لا تفهمها إسرائيل رسائل لبنانية أو تعتبرها جزءً من استراتيجية دفاعية اعتمدها لبنان، لأن لبنان ما يزال من دون أية استراتيجية دفاعية بحكم إصرار حزب الله على الاحتفاظ بالكلمة الأخيرة في أمور الحرب والسلم،  بل التمسك بحقه الحصري المستقل عن الدولة في شن أي عمل أمني أو عسكري ساعة يشاء وأين يشاء.  هو أمر لا يعزز سيادة لبنان مثلما تدعيه قيادة الحزب، بل هو فعل تجزئة للدولة وانتزاع أهم سمة ذاتية لها، وهي احتكار السلاح المشروع. 

حين يبادر حزب الله إلى إرسال رسائل أمنية تثبت اقتداره في الوصول إلى أهداف إسرائيلية دقيقة فهو دخول على خط الدولة اللبنانية في عملية إدارتها لعملية المفاوضات

حين يطلق حزب الله مسيَّراته الثلاث خارج السياق اللبناني الرسمي، أي خارج دوائر صناعة القرار السيادية، فهي رسالة إلى الداخل اللبناني بأن مآل الملف ومصيره النهائي سيكون بيد الحزب، ورسالة إلى إسرائيل لن تفهمها رسالة لبنانية، بقدر ما تفسرها رداً إيرانياً على الاختراقات المخاباراتية الخطيرة، التي حققتها إسرائيل في الداخل الإيراني. الرسالة تقول: أنه مثلما أن الذراع الإسرائيلية قادرة على الوصول إلى العمق الإيراني، فإن الذراع الإيرانية قادرة على الوصول أيضاً إلى العمق الإسرائيلي. بالتالي لا يعود لبنان طرفاً في المواجهة أو القول أو القرار، أي يصبح متفرجاً ومراقباً ومقصّياً عن مجرى الأحداث وتحولاتها، بعد إمساك حزب الله بملف المنطقة البحرية المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل، وتحويلها إلى منطقة صراع مستجدة بين إسرائيل وإيران، ومادة ضغط أو ابتزاز إيراني ضد القيادة الأمريكية في مسار التفاوض النووي.

 الملف البحري هو الفرصة الأخيرة للدولة اللبنانية في أن تحقق إنجازاً لبنانياً خالصاً أي إنجازاً صنع في لبنان ولصالح لبنان وحده مهما طال أمد هذا الإنجاز

 الملف البحري هو الفرصة الأخيرة للدولة اللبنانية في أن تحقق إنجازاً لبنانياً خالصاً، أي إنجازاً صنع في لبنان ولصالح لبنان وحده مهما طال أمد هذا الإنجاز. وهذا يكون بإبعاد سلاح الحزب عن هذا الملف، وتوقف السذج من “التغييريين” وغيرهم، بمطالبة الحزب بالدخول على خط المواجهة. لأن ذلك ليس سوى دعوة إلى إقالة إضافية للدولة من مهامها، وإخراج المواجهة مع إسرائيل عن هويتها العربية، وتسليم مصير الحدود اللبنانية مع إسرائيل إلى محور أذرعه متعددة، لكنه خاضع لقيادة مركزية واحدة تبعد عن عاصمة القرار في لبنان آلاف الأميال. 

السابق
احتجاجا على تردي الأوضاع.. اليكم الطرقات المقطوعة في بيروت!
التالي
عبد القادر لـ«جنوبية»: «حزب الله» يُعوم سلاحه عبر مُسيرات كاريش!