«أضواء على رواد الإصلاح الديني في العصر العربي الحديث».. السيد هاني فحص (1946 – 2014)

هاني فحص

اكتسب السيد هاني فحص في العقد الأخير من حياته على وجه الخصوص صفة الظاهرة التي قادته إليها مواقف جريئة خارقة للمألوف والسائد بين رجال الدين. وكاد يكون في مواقفه تلك فريداً مع زملاء له قليلين ممن جاءوا إلى الفكر العقلاني الحديث من مواقعهم الفقهية بإسم الدين الإسلامي.

وقد مارس السيد هاني اجتهاده في الفكر الديني وفي شؤون حياتية متعددة الجوانب، ليس كرجل دين فقه وحسب، بل كإنسان في الدرجة الأولى. وكان يعتبر ذلك حقاً من حقوقه الطبيعية. وكان، وهو رجل الدين المؤمن بدينه، مناضلاً إلى جانب مزارعي التبغ. وخاض غمار السياسة بإسمهم وباسم أفكاره، وترشح للانتخابات الفرعية في منطقة النبطية في عام 1974 بإسمهم أيضاً وباسم أفكاره، وكتبت يومذاك مقالاً افتتاحياً في جريدة النداء تحية ودعماً له في معركته الانتخابية باسمي الشخصي وباسم الحزب الشيوعي.

اقرأ أيضاً: هاني فحص.. صانع الحوار وناشر المحبة!

وإذا أستذكره اليوم، وأستذكر أحاديثنا خلال جلسات متواصلة في منزله، وفي أماكن أخرى، كان الجدل الفكري المتحرر من الدوغمائية الطاغي فيها، وإذ أستذكر في الآن ذاته كتاباته وحواراته في شؤون الدين والدنيا، وفي شؤون وطنه وفي شؤون الإنسان بعامة، فإنني أستذكر فيه المفكر العقلاني المستنير المتميز بجرأته في قوله ما كان واثقاً منه ومؤمناً به. وكان من أهم ما نطق به جهاراً أمام الدنيا من دون حرج هو أن الدولة المدنية هي الأساس في الأوطان، وأن لا دولة في الإسلام بالمعنى الذي يروّجه من يريردون قمع حرية الفكر وحرية الرأي وحرية النشاط الإنساني بإسم الإسلام ضد قيمه الروحية، ودعماً لمصالحهم الخاصة التي لا يربطها أي رابط بالدين. فالدولة، بالنسبة إليه، هي الدولة المدنية المتعارف عليها في العالم الحديث. والفضل بين الدين والدولة هو، بالنسبة إليه، ضرورة تحمي الدين مما يعانيه ونعاني نحن منه في أيامنا من محن تمثل “داعش” ومثيلاتها، مظهراً من المظاهر الوحشية التي تسيء إساءة بالغة إلى الدين وإلى قيمه الروحية، وتحرر الدولة ووظائفها مما يقحم باسم الدين فيما ليس من شأنه من قبل المتاجرين بالدين. ومذهب السيد هاني في الدولة المدنية هو شبيه بما توصّل إليه الإمام محمد مهدي شمس الدين في وصاياه الشهيرة قبيل رحيله. ذلك أن للدولة وظائف بشرية لا علاقة للدين ولمؤسساته بها، إلا فيما يتعلق بالتذكير بالقيم الإنسانية التي يبشّر بها الدين ويدعو المؤمنين للالتزام بها.

لكن فكر السيد هاني لم يقف عند هذا الأمر وحده، بل هو ذهب ملياً وبعزم في البحث في كل ما يتصل بوظائف الدولة، تأكيداً على حقوق المواطن في الحرية وفي العيش الكريم، ذلك أن الإنسان في مفهوم السيد هاني هو القيمة الأولى والأساس على الكوكب الأرضي.

غير أن السيد هاني، باسم ما التزم به من قيم دينية ومدنية، كان مهموماً بكل ما يتصل بوطنه لبنان وباستقلاله وسيادته وحريته. وكان مقاوماً على طريقته وفي فهمه للمقاومة الحقيقية، التي لم يرها قط بديلاً من الدولة، بل داعماً مكملاً لها عندما تقتضي الضررة ذلك، فالدولة هي، في نظره، المسؤولة عن كل شؤون البلاد في الدفاع عن الاستقلال والسيادة، وفي تأمين شروط أفضل لحياة المواطنين. وباسم هذه الوطنية الصادقة كان السيد هاني وطنياً عربياً بامتياز. وكانت فلسطين عشقه وهمّه الدائم، فكان مناضلاً على طريقته في صفوف مقاومتها، عاملاً بكل ما يملك من جهد وطاقة إلى جانب الشعب الفلسطيني من أجل تحقيق حلمه التاريخي بإقامة دولته الوطنية المستقلة على أرض وطنه فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية. وبعبقرية استثنائية استطاع أن يدمج في مواقفه وفي مجالات نشاطاته الوطنية بين وطنيته اللبنانية ووطنيته العربية، ومن ضمنها عشقه الأبدي لفلسطين، فضلاً عن مواقف إنسانية أعطته صفته الأممية.

كان من أهم ما نطق به جهاراً أمام الدنيا من دون حرج هو أن الدولة المدنية هي الأساس في الأوطان

بكل هذه المعاني صار السيد هاني فحص ظاهرة وطنية لبنانية وعربية. ولأنه مفكر عقلاني فقد حشد كل طاقاته الفكرية في هذا الميدان، الذي اختاره منذ بواكير شبابه، قبل أن يذهب إلى النجف، وبعد أن عاد منها فقيهاً. وقد عاد من النجف حاملاً تراثاً عظيماً من التاريخ العربي والإسلامي، مضافاً إليه ما حمله من ثقافة واسعة ومن عشق للأدب قديمه وحديثه، العربي منه وغير العربي، وهكذا اكتملت الصورة.

في آخر لقاء لي معه في المستشفى قبل أن ينتقل إلى العناية المركزة أصر أن يقول لي من خلف كمامة الأوكسجين: “إسمع يا أبو أحمد ما أقوله لك، الحياة جميلة”. فقلت له: “نعم إنها جميلة وتستحق أن نعيشها”. فأردف: “نم إنها تستحق أن نعيشها”.

غادر السيد هاني الحياة قبل الأوان. وكان يحب الحياة، يحبها بكل طاقاته، كان يحبها له ولأولاده ولشعبه وللبشرية. لكنه كان حزيناً إذ رأى أرض البشر ومنها أرضنا مليئة بالشر وبالأشرار من كل الأنواع. لكن حزنه الأخير الذي قرأته بعينيّ وبمشاعري في اللقاء الأخير أنه كان في الطريق إلى النهاية، وأنه لم يعد قادراً على متابعة مسيرته، ولن يكون قادراً على ممارسة حبه للحياة.

قبل رحيله بعام أو عامين شاركت في ندوة حول كتاب سيرته، وقدمت حشداً مما كانت تختزنه ذاكرتي عنه خلال ما يقرب من أربعة عقود من الصداقة.

وفي الواقع فإن معرفتي بالسيد هاني الطويلة المتواصلة، هي معرفة متعددة الأبعاد. ولأن هذه المعرفة بأبعادها المتعددة، قد اقتربت بصداقة عميقة وحميمة كانت تتكوّن وتنمو وتترسخ في الاتفاق أحياناً، وفي الاختلاف أحياناً، وفي الاتفاق وفي الاختلاف معاً في أحيان أخرى، فإنها؛ أي هذه المعرفة، هي التي تشكل الأساس في تحديد قيمة وقامة الرجل عندي، قيمته وقامته الفكرية، على وجه الخصوص. وهذه المعرفة ذاتها هي التي مكنتني من رؤية وتحديد الدور السياسي والاجتماعي، الذي كان يمارسه السيد هاني بصفته المتلازمتين من دون تناقض؛ صفة رجل الدين وصفة المفكر والسياسي. وكل من القيمة والقامة والدور في الحالات المشار إليها، تشير بوضوح إلى أن السيد هاني، في معرفتي به وفي تقديري له، هو نسيج وحده في الدين وفي الفكر وفي السياسة. فهو كان يمارس دوراً تنويرياً يتسم بالشجاعة الواقعية التي لا تقبل المهادئة، ولا المساومة، ولا تدخل قطعاً في المغامرة.

يتحدث السيد هاني في كتاب سيرته عن مراحل حياته منذ الطفولة حتى اللحظة التي صار فيها صاحب مقام، صاحب موقع، وصاحب فكر ومعرفة، وصاحب دور في وطنه لبنان، وصاحب دور في العالمين العربي والإسلامي.

ويستطيع قارئ الكتاب أن يكتشف، من دون جهد في التفكير وفي التحليل، تحولاته السياسية. وهي تحولات ظلت تمارس فعلها في شخصيته من دون هدنة، ومن دون فسحة لاستراحة المحارب. لكن أهم ما يكتشفه القارئ في الكتاب هو أن التحولات المتواصلة في شخصية المؤلف كانت تترافق دائماً بالأسئلة، سواء منها تلك التي لم يجد أجوبة عليها، قديماً وحديثاً، أم تلك التي ظل على امتداد حياته يحاول البحث عن أجوبة عنه، بمفرده، وبعلاقته مع آخرين من أصدقائه ممن كانوا يشاركونه همومه الوطنية والإنسانية. وفي تقديري للسيد هاني، من خلال معرفتي الطويلة والعميقة والحميمة به، أنه كان مسكوناً بهاجس المعرفة في جوانبها وفي ميادينها المختلفة، ومسكوناً، في الآن ذاته، في جعل هذه المعرفة تمارس دورها في تحرير وعي الإنسان وتحرير إرادته، لكي يكون قادراً على تحرير نفسه من آفاته التي يظلم بها نفسه، بوعي سلبي عنده ومن دون وعي، ولكي يكون قادراً على تحرير نفسه من المظالم التي تأتي إليه من خارجه ومن خارج إرادته ومن خارج قدرته على مواجهتها إلا بالنضال الطويل. والجميل في شخصية السيد هاني هو أنه كان، وهو يعاني هموم الأسئلة وهموم البحث عن أجوبة حقيقية عنها، أو أجوبة نسبية في حقيقتها، لا يخفي حيرته وقلقه وارتباكه. وهي، في حقيقتها، صفات وسمات الإنسان الحقيقي؛ فالإنسان الذي يدعي الاطمئنان ويدعي امتلاك الإجابات المطلقة عن الأسئلة الواقعية والمنطقية، هو مخطئ حتماً، حتى لا نصفه بأكثر من ذلك. لكن الطريف في علاقة السيد هاني بالأسئلة هو أنه كان يحاول أن يتعامل بجدلية راقية مع تاريخ تحولاته؛ فهو، إذ أعطى لكتابه عنوان “ماض لا يمضي”، فإنه لم يكن يريد، كما فهمت من كتابه، وكما أعرف من مواقفه، أن يبقى في الماضي؛ فهو إنسان ينظر دائماً إلى المستقبل، ويساهم، بقلق فكري في التنظير للتغيير في اتجاه هذا المستقبل. لكنه كان يعترف بحق أن كل مستقبل هو إبن لماض مضى، إبن مختلف عنه بالكامل من دون أن يتنكّر لعلاقة النسب به. لكن الماضي، بالنسبة إلى السيد هاني، يبقى حاضراً حتى بعد أن يصبح جزءاً من التاريخ والذاكرة. ذلك أن تاريخ البشر، كما فهمت من تحليلات السيد واتفق معه فيها، هو تاريخ تواصل لا انقطاع فيه، حتى ولو جاء هذا التواصل في صيغة اضطراب، كما تشير إلى ذلك الوقائع المذهلة في عالمنا المعاصر. وبهذا المعنى فإن للذاكرة موقعها في حياة الناس. ومن يتنكّر لتاريخه، في الإيجابي وفي السلبي منه، لا يستطيع أن يذهب بالقدر الضروري من الأمان إلى المستقبل.

ولعل واحدة من أجمل فصول الكتاب تلك التي يتحدّث فيها السيد هاني عن علاقته المتعددة الوجوه والمعاني مع قريته ومع منطقته، مع شتلة التبغ، وكروم العنب والتين والزيتون وعن علاقته بالحوزة العلمية، وبالتباساتها، وبالتباساته فيها، من النجف إلى طهران إلى قم، وصولاً إلى الاستقرار في لبنان. ومن أعقد وأجمل ذكرياته التي يعتز بها، تلك التي تتصل بقضية المزارعين، وبدوره في نضالاتهم، وبقضية فلسطين وبدوره في الدفاع عنها من مواقع اختلفت صيغها مع اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحداث. ولا يستثنى بالطبع علاقاته وذكرياته بالثورة الإسلامية في إيران وبقائدها وبرموزها.

اقرأ أيضاً: الإشكالية المنهجية للتطبيق الفقهي (إيران مثلاً)

ورغم أن الكتاب هو كتاب سيرة وذكريات، إلا أن السيد هاني أراد أن يقول للقارئ أين كان خلال حياته من كل ما يتصل بالقضايا الكبرى التي تواجه وطنه لبنان في حاضره وفي مستقبله، وتواجه العالم العربي، وتواجه القضية الفلسطينية، وتواجه الإسلام والمسلمين. فهو كان حريصاً على التأكيد بأنه، بصفاته كلها، ومن مواقعه المختلفة المتعددة، لا يستطيع، حتى كإنسان فرد، أن يكون مراقباً، أو ينتظر مخلصاً ما قادماً من التاريخ. صحيح أنه كان شاهداً على زمن، لكن لم يشأ إلا أن يكون صاحب رأي ودور وموقع، في كل ما يتصل بوطنه، وشعبه في الماضي الذي مضى، وفي المستقبل الآتي في الجانب المجهول والغامض والقلق منه، وفي الجانب المتصل بالطموح نحو الأفضل فيه. فقرر، على قاعدة هذا الانتماء، بوعي فكري ومعرفي وسياسي وإنساني، أن يكون مواطناً لبنانياً بكل المعاني، شريكاً لأهل منطقته في جنوب لبنان، وشريكاً لأهل وطنه لبنان، في كل ما يتصل بالحاضر والمستقبل،  شريكاً لهم في النضال من أجل حياة أفضل وأرقى وأكثر تقدماً لوطنهم وأكثر سعادة وحرية وكرامة لهم. وقرّر، في الآن ذاته، أن يعطي لرجل الدين، وللدين من خلال رجل الدين، دوراً حقيقياً يعود لكليهما، دوراً إنسانياً، دوراً فاعلاً في تحقيق تلك الأهداف. وقاده خياره هذا إلى الانخراط في العمل السياسي وإلى النضال من أبوابه الواسعة تحقيقاً لتلك الأهداف، في تنوعها، وفي تنوع المراحل التاريخية التي تحدد لها طبيعتها، وتنقّل باحثاً عن الموقع الذي يجد نفسه فيه مواطناً، مواطناً مستقبلاً، غير تابع لأحد أو لاتجاه أو لموقف، الموقع الذي يمارس فيه حريته، من دون رقابة يفرضها عليه انتماء سياسي أو أيديولوجي محدد، ويمارس فيه نضاله الفكري والمعرفي والسياسي، وفق خياراته هو بكامل استقلاليته، فاختار الوسطية، التي أرهق نفسه في تحديد دقيق لها، يؤمن له باسمها دوراً حقيقياً، لأنه اختيار كان يفرض من أعالي البرج العاجي. وكان اختيار الوسطية عنده اختياراً صعباً؛ لأنه اختيار كان يفرض عليه اتخاذ مواقف محددة من القضايا التي تشغل وطنه اللبناني وتشغل العالمين العربي والإسلامي، وتشغل القوى السياسية المتنازعة فيما بينها حول الاتجاهات والأهداف والمصالح. وهي مواقف كانت تجعله، بالرغم منه، أمام احتمال تلقي السهام من كل الاتجاهات؛ ولو بارتباك. والارتباك ليس عيباً عندما يكون الأصل فيه هو البحث عن إجابات ضرورية وملحة تقتضيها وتتطلبها أسئلة ضرورية ملحة.

هذا هو السيد هاني فحص، رجل الدين والدنيا، المفكر التنويري والإنسان الحقيقي الذي عاش أميناً لدينه وفق اجتهاده في فهم الدين، وأميناً لوطنه لبنان، وأميناً لأمته العربية، وعاشقاً لفلسطين وقضيتها.

(من كتاب كريم مروة بعنوان “أضواء على رواد الإصلاح الديني في العصر العربي الحديث – الدار العربية للعلوم ناشرون أيار 2022)

السابق
الأمطار عائدة.. لبنان على مَوعد مع مُنخفض جوي!
التالي
بالصور: تأكيداً لمعلومات «جنوبية» عن فخ تعدّه «الداخلية».. حواجز ومحاضر و«محتجّون»!