محاولات ترشيد الأسعار في إيران، وتداعياتها على الاقتصاد والمجتمع

ايران

تَبنَّت الحكومة الإيرانية خلال الشهرين الأخيرين سياسة اقتصادية تهدف إلى تحرير أسعار السلع الغذائية الأساسية، وإلغاء الدعم الحكومي عليها. وهي العملية التي أطلق عليها رجال التيار المحافظ الإيراني وصف “جِرَاحة الاقتصاد”.

وتبدو خطة تحرير الأسعار ضرورية للنظام السياسي الإيراني الذي يعاني من شحّ في المصادر المالية بسبب العقوبات، وهشاشة البنية الاقتصادية. إذ توفر هذه الخطة موارد مالية كبيرة للحكومة التي كانت الأرقام تظهر أنها تعاني في دفع رواتب العمال. لكن الخطة تنطوي أيضاً على مخاطر اقتصادية واجتماعية كبيرة، وتُنذِر بحدوث اضطرابات عامة.

الخلفية والسياق

جاء تطبيق قرار تحرير أسعار السلع الغذائية الأساسية في نهاية الشهر الثامن من عمر حكومة المحافظين، في ظرف اقتصادي عسير، نتيجة استمرار فرض العقوبات على إيران، وانسداد آفاق الانفتاح الاقتصادي الإيراني على العالم، وارتفاع أسعار السلع الغذائية عالمياً بسبب الحرب في أوكرانيا. وذلك بعد تداوله لعدة أشهر في البرلمان الإيراني، أثناء مناقشة الموازنة العامة، وفي سياق حذف البند الخاص برصد الدولار المدعوم للبضائع والسلع الغذائية الأساسية.

اقرأ أيضاً: تقلبات واشنطن وتحولات الخليج!

ففي حين أدت العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران منذ مايو 2018 إلى انخفاض مبيعات إيران من النفط، والتي تعتبر أهم مواردها الاقتصادية (حيث تشير المعطيات إلى انخفاضه إلى أقل من 400 ألف برميل لليوم في الربيع الجاري)، فإن تداعيات الأزمة الأوكرانية على صعيد إمدادات القمح، وبذور الزيت، وارتفاع أسعارها العالمية، ألقت بظلالها على إيران التي تعتبر من أكبر مستوردي القمح، والبذور الزيتية في العالم؛ حيث تُشير المعطيات الرسمية إلى أنها استوردت نحو 6.5 مليون طن من القمح خلال العام الإيراني المنتهي.

وعادت معدلات التضخم في إيران إلى المنحى التصاعدي خلال الشهرين الأخيرين؛ إذ أكدت أرقام مركز الإحصاء القومي أن الاقتصاد الإيراني أقفل على ثاني أكبر معدل تضخم سنوي له منذ أربعة عقود، عندما استقرت معدلات التضخم السنوي للعام الماضي عند 40.2%. وشهد معدل التضخم الشهري ارتفاعاً بنحو نقطتين مئويتين، ليستقر عند 3.3% للشهر الأول من العام الإيراني، مستقراً عند أعلى مستوياته منذ 10 أشهر. وعلى الصعيد الميداني، شهدت أسعار المواد الغذائية قفزة تضخم بنحو 6.5% خلال الشهر نفسه، و62% من التضخم السنوي، في ضوء واقع أن حصة المواد الغذائية من سلّة التكاليف الشهرية للأسر الإيرانية، استقرت عند مستويات تاريخية بنحو 39.4% من إجمالي التكاليف.

وفي ضوء هذا التضخم الذي ضرب الاقتصاد الإيراني بشكل عام، وسلة المواد الغذائية بشكل خاص، قررت حكومة المحافظين تنفيذ خطة لتحرير أسعار المواد الغذائية الأساسية، وإلغاء الدعم الحكومي المقدم إليها. وتَمثّل القرار بإلغاء الدعم المقدم عبر رصد الدولار بسعر 4200 تومان لتوفير هذه البضائع، وشمل القرار واردات القمح، والبذور الزيتية، والمدخلات الزراعية (Agricultural Inputs).  وتمّ إقرار محاسبة الدولار المخصص لشراء هذه السلع بالسعر المعتمد في موازنة العام الجاري للدولار (23000 تومان)، بما يعني ارتفاعاً بنحو 5.5 أضعاف في الأسعار على الورق.

الأهداف و”المكاسب” الحكومية المتوقعة

يمكن اعتبار قرار تحرير أسعار البضائع الأساسية الأخير أكبر خطوة قامت بها الحكومات الإيرانية المتعاقبة حتى الآن، على صعيد تحرير الأسعار، وإلغاء الدعم. وقد جاء القرار في ظل ظروف اقتصادية هي الأصعب في تاريخ نظام الثورة الإيرانية؛ إذ تشير الأرقام إلى أن أكثر من ثلث السكان يعيشون تحت خط الفقر المدقع، بينما يمكث أكثر من ثلثي الإيرانيين تحت خط الفقر النسبي، في ظل مؤشر بؤس (مجموع البطالة والتضخم) وضع إيران في المرتبة الثالثة ضمن المؤشر العالمي. وعملت الظروف الاقتصادية الناجمة عن العقوبات على رفع احتمال العجز في الموازنة العامة، واستمرار التضخم ضمن مستويات مرتفعة. 

وفي ظل كل هذه المعطيات، تبدو “جراحة الاقتصاد”، من خلال تحرير أسعار السلع الأساسية، قراراً تملؤه المخاطر، إلا أن التدقيق في الأرقام، يُشير إلى أنه يحمل مصالح كبيرة للنظام السياسي، على صعيد توفير الأموال، وسد العجز في الموازنة، والصمود في وجه الضغوط الدولية.

  • البذور، والزيوت: عبء الدولة الأكبر

يستهدف قرار تحرير الأسعار قطاع البذور الأساسية (القمح، والشعير، والذرة)، والزيوت النباتية إلى جانب المواد الزراعية، مثل الصويا، باعتبارها أهم مواد الواردات الغذائية الإيرانية. وتُظهِر أرقام العام الإيراني الفائت أن قطاع “المنتجات الزراعية الأساسية”، شكل 30.2% من إجمالي الواردات الإيرانية، بواقع 13.6 مليار دولار. واستوردت إيران خلال العام الماضي نحو 28.7 مليون طن من هذه المحاصيل، بارتفاع سنوي بنحو 22% في الحجم، و36% في القيمة. وشكّلت الذرة أهم الواردات الإيرانية ضمن هذا المجال بنحو 9.9 مليون طن، يليها القمح بحوالي 7 مليون طن. وجربت واردات القمح ارتفاعاً سنوياً بنحو 54%، كما جربت واردات الزيوت النباتية ارتفاعاً سنوياً بنسبة 36%، بفعل موجة الجفاف التي تضرب إيران، وتعمل على انخفاض الإنتاج الزراعي. ومن المتوقع أن تضطر إيران خلال العام الجاري لاستيراد 7.5 مليون طن من القمح، في ضوء استمرار الجفاف، إلى جانب استقرار الواردات من المنتجات الأخرى ضمن هذا المستوى.

وتؤكد موازنة العام الإيراني الفائت، التزام الحكومة بتوفير المواد الزراعية الأساسية للمخابز، والمداجن، والصناعات الغذائية، بالسعر المدعوم من الدولار (4200 تومان)؛ إذ تشير الأرقام الرسمية المنشورة من مصلحة الجمارك الإيرانية إلى أن مجموع الدولار المدعوم الذي وفرته الحكومة لاستيراد المنتجات الزراعية الأساسية بلغ 12.2 مليار دولار، لستة منتجات يشملها القانون (3.4 مليارات دولار للذرة، و2.6 للزيت النباتي، و2.3 مليار للقمح، و1.6 مليار لبذور الزيت، و1.3 مليار دولار للصويا، و973 مليون دولار للشعير) إلى جانب 2.5 مليار دولار لواردات الدواء، والبضائع الطبية. وكان مجموع تلك الالتزامات قد كلّف الحكومة نحو 192 ألف مليار تومان خلال موازنة العام الإيراني الماضي، وترك أثراً كبيراً على إنهاك قدرات الحكومة في ضخ العملة الأجنبية في الأسواق الإيرانية؛ ما أدى بدوره إلى زيادة أسعار الدولار. 

  • مكاسب حكومية على حساب الشارع

من المتوقع أن يوفر قرار إلغاء الدولار المدعوم، وتحرير أسعار السلع الأساسية نحو 276 ألف مليار تومان من الإيرادات الجديدة. مقابل 192 ألف مليار تومان من الأعباء التي كان يفرضها توفير البضائع الأساسية بالدولار المدعوم على عاتق موازنة العام الماضي. وذلك استناداً إلى محاسبة فرق السعر المعتمد للدولار في الموازنة (23000 تومان)، عن سعر الدولار الرسمي (4200 تومان). ونحو 441 ألف مليار تومان حسب السعر السوقي للدولار (30 ألف تومان). ويعني ذلك أن الحكومة ستجني ما بين 18 و29% من إجمالي إيراداتها المتوقعة في موازنة العام الجاري، عبر تحرير أسعار المواد الزراعية الأساسية، والدواء؛ ما يمكن أن يجنبها إلى حد كبير خطر الوقوع في فخ العجز في الموازنة.

وليس ذلك كل شيء، إذ ستجني الحكومة مزيداً من الإيرادات من خلال فائض الضرائب الجمركية، وضرائب القيمة المضافة؛ فالقانون الجديد يُخرِج تلك السلع من دائرة الإعفاء الضريبي؛ ما يوفر للحكومة إيرادات ضريبية جديدة، تقدر بنحو 70 حتى 95 ألف مليار تومان، من خلال فرض الضرائب على المنتجات النهائية التي يستهلكها المواطن الإيراني.

ويرى العديد من المراقبين أن محاولة الحكومة الحصول على مصادر نقدية جديدة عبر التحرر من عبء التزامات الدولار المدعوم، وعبر فائض الضريبة الناتجة عن ارتفاع أسعار السلع الغذائية، وخروجها من دائرة الإعفاءات الضريبية (باستثناء الخبز الشعبي)، هي التي دفعت حكومة المحافظين (التي تعاني من فجوة كبيرة في الإيرادات نتيجة استمرار العقوبات، وتواجه بذلك خطر عجز كبير في الموازنة العامة) نحو اتخاذ قرار سريع بتحرير أسعار البضائع الزراعية الأساسية، والدواء، وتحمُّل مخاطره الأمنية، وانعكاساته الاقتصادية السلبية.

وبلغ حجم الإعانات التي قدمتها الحكومة خلال أول شهرين من بدء برنامج تحرير الأسعار 52 ألف مليار تومان (نحو 400 ألف تومان بإزاء الشخص ضمن 30% من السكان الأقل دخلاً، و300 ألف تومان بإزاء الشخص ضمن 70% من السكان الأكثر دخلاً) على أن يتم في غضون شهرين تقديم بطاقات تموين للمواطنين، ليُلغى بعده نظام الدعم النقدي.

وضمن حسابات متراكمة، فإن هذا يعني إعفاء الحكومة من عبء قدره 54 ألف مليار تومان، نتيجة إنهاء نظام الدعم النقدي خلال الأشهر العشرة المقبلة، مقابل إضافة عبء قدره 100 ألف مليار تومان نتيجة نظام التموين الجديد، بما يعني فائضاً صافياً يتراوح بين 300 ألف مليار تومان كحد أدنى، و490 ألف مليار تومان نتيجة تطبيق خطة تحرير أسعار المواد الزراعية الأساسية. 

  • الأثر “الإيجابي” على الوضع الاقتصادي

يؤكد رجال الحكومة أن المشروع الجديد يحمل من بين آثاره تداعيات اقتصادية إيجابية؛ إذ يحول دون إفلاس العديد من المصانع، تحت وطأة ارتفاع رواتب العمال بنحو 57%، كما يحول دون تحول إيران إلى مصدر لتهريب البضائع الغذائية إلى البلدان الأخرى، والناتج عن انخفاض الأسعار في إيران بفعل الدعم الحكومي. ولا يخلو ما يقوله هؤلاء من الصواب؛ فقد كان العديد من أصحاب الأعمال حذروا من تداعيات رفع الحد الأدنى من أجور العمل بنسبة 57% خلال العام الجاري على أداء المصانع، مؤكدين أن ذلك يجعل المصانع مُخيَّرة بين الإعلان عن إفلاسها، واعتماد سياسات تسريح العمال. وكان فارق أسعار المواد الزراعية الأساسية في إيران، وفي دول الجوار، دافعا أساسيا لتهريب هذه البضائع بشكلها الخام (مثل تهريب القمح)، أو بشكلها النهائي (مثل تهريب الزيت والمعكرونة) إلى البلدان المجاورة. 

التداعيات السلبية للقرار

رغم ما تقوله الحكومة الإيرانية أو تفترض الوصول إليه من قرار إلغاء الدولار المدعوم، وتحرير أسعار السلع الأساسية، إلا أن هذا التوجه يحمل تداعيات صعبة، لا يمكن غض الطرف عنها، على جسد الاقتصاد الإيراني المنهك أصلاً بفعل مؤثرات أخرى. وتأتي أهم التداعيات من التضخم الذي يخلفه قرار تحرير أسعار المواد الزراعية الأساسية، على أسعار سلة الغذاء التي تمثل 39.4% من إجمالي التكاليف الشهرية للأسرة في المجتمع الإيراني. وسوف يترك ارتفاع أسعار المواد الزراعية الأساسية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية الخمسة المستهدفة (الخبز والألبان والزيوت واللحوم والبيض) تأثيراً مباشراً على 60% من سلة الغذاء لدى المجتمع الإيراني، وعلى 23.6% من إجمالي تكاليف المعيشة العامة. ونتيجة ذلك، فإن كل مئة نقطة مئوية من الزيادة في أسعار هذه الحصة، ستؤدي إلى ارتفاع بنسبة 23.6% في حجم التضخم العام، وإضافة 9.5 نقاط مئوية إلى معدل التضخم. وبالمجموع ونتيجة ارتفاع أسعار هذه المواد الخمسة بما بين 4 و5 أضعاف حسب الأرقام الرسمية، فإن حجم التضخم المتوقع الناجم عن تحرير أسعار المواد الزراعية الأساسية، سيتراوح بما بين 38 و47.5%، يضاف إلى معدل التضخم الشهري العام الذي استقر في شهر أبريل الماضي عند مستويات 40%. 

ورغم أن مجموع التضخم القائم (40%)، والتضخم الوليد (بين 38 و47.5%)، سيكون متراوحاً بين 78% و87.5%، إلا أن المؤشر العام سيتفادى بعضاً من ارتفاعه من خلال الانكماش الذي يصيب أسعار السلع الأخرى (مثل السيارات والبيوت والسلع المنزلية) بما يتراوح بما بين 7 و10 نقاط مئوية، ليكون إجمالي التضخم المضاف إلى التضخم القائم، متراوحاً بين 31 و40.5 نقطة مئوية.

أما السيولة التي تخلقها زيادة حجم النقد نتيجة إلغاء برنامج الدولار المدعوم من جهة، ونتيجة توزيع النقد الإلزامي ضمن برامج المساعدة الاجتماعية التي تنوي الحكومة القيام بها لتهدئة الشارع من جهة أخرى، ستضغط هي الأخرى على معدل التضخم؛ إذ تظهر الدراسات أن ما بين 3 و5 نقاط مئوية ستضاف إلى معدل التضخم العام من هذا المنطلق. إلا أن سياسة تحرير أسعار المواد الأساسية؛ إذ تحول دون نشوء عجز كبير في الموازنة فإنها تعمل بشكل واضح على انخفاض التضخم الناجم عن سياسات سد العجز التقليدية. ويشير مركز أبحاث غرفة التجارة الإيرانية إلى أن سياسة تحرير الأسعار تُجنِّب الحكومة عجزاً بما لا يقل عن 250 ألف مليار تومان. وتعمل على اجتناب تضخم بنحو 15% نتيجة سياسات الحكومة لسد العجز نتيجة التلاعب بأسعار الدولار ونتيجة اللجوء إلى سياسة طباعة النقد الإلزامي. 

ورغم تأكيد وزارة الاقتصاد الإيراني على أن نسبة التضخم الناتج عن سياسة تحرير أسعار المواد الزراعية الأساسية ستكون أقل من 10 نقاط مئوية، فإن الحصيلة النهائية الفعلية ستزيد عن ذلك؛ إذ ستنتج فائضاً في التضخم يتراوح بين 19 و25.5 نقطة مئوية تضاف إلى النسبة الراهنة من التضخم (40%). وهذا بالطبع هو التضخم الناجم عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية الخمسة (القمح والزيت والألبان واللحوم والبيض) ضمن سيناريو يتصور أن تكون زيادة الأسعار محصورة في هذه المواد، وألا تتسرب إلى أسعار المواد الغذائية عامة، أو إلى أسعار البضائع والخدمات الأخرى. أما في حال تسرَّب التضخم إلى الحقول الأخرى، وهو السيناريو المنطقي، فإن نسبة التضخم المتوقع ستكون أعلى مما ذكر في الورقة.

  • تداعيات مباشرة على أسعار السِّلَع الأساسيّة

بعد صدور القرار، شهدت أسعار القمح والمواد الزراعية ارتفاعات بنفس النسبة البالغة تقريباً خمسة أضعاف السعر السابق؛ إذ ارتفعت أسعار القمح من 2600 تومان، إلى 12500 تومان (4.7 أضعاف)، وارتفعت أسعار القمح المصفى من 3800 تومان، إلى 16900 تومان (4.44 أضعاف)، وارتفعت أسعار الشعير من 1800 تومان إلى 12 ألف تومان (أكثر من 6 أضعاف)، فيما ارتفعت أسعار الذرة من 1900 تومان إلى 12 ألف تومان (أكثر من 6 أضعاف)، والصويا من 3700 تومان، إلى 17000 تومان (4.6 أضعاف). وكل ذلك بحسب مصادر رسمية، منها الأمين العام لنقابة أصحاب الدواجن، وأمين نقابة المخابز.

وبدأت معالم أزمة ارتفاع الأسعار من المعكرونة التي غابت عن رفوف المتاجر، بعد أنباء عن ارتفاع أسعارها لثلاثة أضعاف، فيما شهدت الأيام التالية ارتفاع أسعار المواد الأساسية ضمن مسار أكّدته المصادر الرسمية. وقالت الحكومة إنها قررت رفع الأسعار بشكل رسمي، في خمس بضائع أساسية: هي الخبز، والألبان، والزيوت، والدجاج، والبيض. وعلى مستوى البيض، أقرت الحكومة ارتفاعاً يقدر بنحو 125%، بينما شهدت أسعار الدجاج ارتفاعاً شهرياً بنحو 140% (وارتفاعاً سنوياً بنحو 270%). أما الزيوت، فقد شهدت قفزة حقيقية حين ارتفعت أسعارها بنحو 410%. وشهدت أسعار الحليب ارتفاعاً بنسبة 300%. وبينما حاولت الحكومة تأجيل تحرير أسعار الخبز الشعبي، فإن أسعار الخبز الصناعي شهدت ارتفاعاً بما بين 380%، و620% بحسب الفئة، في ظلّ تلويح رسمي بتحرك الحكومة نحو تحرير أسعار الخبز الشعبي، وتوجيه الدعم للمواطنين مباشرة من خلال بطاقات تموين ذكية. أما المعكرونة التي شكلت نفطة الانطلاق الأولية لمشروع تحرير الأسعار، والتي تشير الأرقام الرسمية إلى أنها كانت تشكل بضاعة أساسية ضمن سلة الغذاء الإيراني، فقد شهدت أسعارها ارتفاعاً بنحو 272%. 

  • التداعيات على الشارع: سخط اجتماعي، واحتجاجات دامية

أدى القرار الحكومي بإلغاء الدعم، ورفع أسعار السلع التي تشكل العمود الفقري لمائدة طعام الإيرانيين إلى موجة سخط اجتماعي، ظهرت على مستوى ردود الأفعال، في شبكات التواصل الاجتماعي، وفي الشارع على حد سواء.

فعلى صعيد شبكات التواصل الاجتماعي، أطلق الإيرانيون حملةً ضدّ تحرير أسعار البضائع الأساسية، حملت عنوان “أنقذوا إيران” التي تصدرت شبكات التواصل خلال نهاية أبريل الماضي. وانتشرت في شبكات التواصل دعوات إلى مقاطعة البضائع بالأسعار الجديدة، كما انتشرت دعوات إلى احتجاجات مؤجلة في حال لم تتجاوب السلطات مع مطالب الشارع بالعودة عن قرار رفع الأسعار. وأدى ذلك إلى قطع الإنترنت عن خمس محافظات إيرانية على الأقل، وفق مصادر دولية لمراقبة الإنترنت. كما أدى إلى موجة اعتقالات في عدة محافظات، خصوصاً في محافظة الأهواز التي كانت البؤرة الأساسية لدعوات الاحتجاج.

وعلى الأرض، شهدت المدن العربية في بداية مايو الجاري، انتشاراً واسعاً للشرطة، وأجهزة مكافحة الشغب. كما شهدت تلك المدن موجة اعتقالات في صفوف الناشطين. ومع ذلك، أدى قرار رفع الأسعار إلى موجة احتجاجات ميدانية، بدأت من مدن في شمال الأهواز، وامتدت إلى محافظات أخرى. وبعيداً عن التفاصيل، فإن موجة الاعتراضات على قرار رفع الأسعار، والتي يمكن اعتبارها موجة الاحتجاجات الشعبية الأولى خلال العام الإيراني الجاري، عمت خمس محافظات على الأقل، وشهدت خلالها نحو 20 مدينة إيرانية احتجاجات مختلفة الأحجام، كانت حصيلتها ما بين 5 و7 قتلى، وعشرات الجرحى، ومئات المعتقلين، وفق مصادر ميدانية.

وبينما حاولت الحكومة ضبط حراك الشارع من خلال المواجهة الميدانية، وقطع الإنترنت عن المدن التي شهدت الاحتجاجات من جهة، ومن خلال قرارات لدعم الشارع الإيراني مقابل موجة الغلاء وتأجيل رفع أسعار الخبز من جهة ثانية، إلا أن الاحتجاجات التي شهدها شهر مايو أظهرت قوة “غلاء الأسعار” في تحريك الشارع الإيراني، بما يُرجِّح فرص حدوث مزيد من الاضطرابات، حينما توقف الحكومة برامجها لدعم الشارع نتيجة ضعف الموارد المالية.

آفاق محتملة

تبدو خطة تحرير الأسعار التي بدأت حكومة إبراهيم رئيسي تنفيذها ضروريةً للنظام السياسي الإيراني الذي يعاني من شح في المصادر المالية بسبب العقوبات المفروضة، وهشاشة البنية الاقتصادية. وتوفر هذه الخطة موارد مالية كبيرة للحكومة التي كانت الأرقام تظهر أنها سوف تعاني في دفع رواتب العمال والموظفين. وتبدو الخطة مفيدة للمصانع التي أشارت المعطيات إلى أنها تُشارف على الإفلاس، خصوصاً بعد قرار برفع الحد الأدنى من الأجور بنسبة 57% هذا العام. وكان قرار رفع الحد الأدنى للأجور وضع العديد من المصانع الإيرانية على حافة الإفلاس؛ ما سيقود إلى زيادة كبيرة في نسب البطالة.  وفي المقابل، يتيح قرار تحرير السلع الأساسية فرصة أمام هذه المصانع لزيادة دخلها عبر رفع أسعار المنتجات، كما يُجنّب الحكومة خطر مواجهة زيادة نسبة البطالة، نتيجة توجه المصانع نحو اعتماد سياسة تسريح العمال.

ويُشير خبراء إلى أن الحكومة سارعت إلى تنفيذ الخطة بشكل واضح، في خطوة منها لسد العجز في الموازنة، نتيجة تقلُّص الإيرادات النفطية التي تنخفض مبيعاتها بسبب العقوبات. وتُشير أرقام الموازنة إلى أن إيران اعتمدت 1.4 مليون برميل من مبيعات النفط اليومية، بينما تُظهر الأرقام الميدانية أنها تبيع حوالي 400 ألف برميل من خلال التحايل على العقوبات. وإن مزيجاً من عجز المبيعات إلى جانب التخفيضات التي تمنحها لبيع النفط، يجعل الفارق بين المبيعات الفعلية والمنشودة كبيراً؛ ما يعرّض الموازنة لمزيد من العجز. ومن المتوقع أن يساعد القرار الأخير الحكومة في الحصول على مصادر مالية كفيلة بسد العجز في الموازنة العامة من دون اللجوء إلى طباعة النقد، والانخراط في مسالك وحلول بديلة تُثير التضخم.

وتشير مراكز تحليل إيرانية إلى أن إسراع الحكومة في تنفيذ خطة تحرير أسعار المواد الزراعية الأساسية في هذه اللحظة الحرجة عالمياً نتيجة الأزمة الأوكرانية، وداخلياً في ضوء معدلات تضخم تبقى ضمن الأعلى تاريخياً، إنما يأتي في ضوء يأس الحكومة الإيرانية من إمكانية إحياء الاتفاق النووي، ورفع العقوبات المفروضة على إيران. إذ يوفر القرار بديلاً عن المصادر النقدية التي كان يمكن أن يوفرها الاتفاق النووي بالنسبة للحكومة. ورغم تشاؤمه بشأن مستقبل الاتفاق النووي، إلا أن هذا التحليل يجد ما يدعمه في توجهات المؤسسات السياسية الداخلية المناوئة للاتفاق النووي، وتوجهات المؤسسة السياسية الأمريكية الأخيرة بشأن المسألة النووية الإيرانية، ومسار مفاوضات فيينا.

وتُشير المواقف الصادرة عن رجال الحكومة الإيرانية، إلى أن خطة تحرير أسعار المواد الزراعية الأساسية، ليست خطة يتيمة، أو منفردة، وإنما تأتي ضمن مشروع أوسع، يهدف إلى ترشيد الأسعار في إيران بشكل عام. وذلك في وقتٍ تظهر الموازنة العامة معالم هذه الخطة في حقول أخرى، مثل: الكهرباء، والمياه. وقد أشار وزير النفط الإيراني بشكل واضح إلى أن المرحلة التالية ستكون تحرير أسعار الغاز؛ حيث تواجه إيران أزمة حقيقية بسبب ضعف الإنتاج، وزيادة الاستهلاك المحلي. 

ويرى مراقبون أن مشروع ترشيد الأسعار هذا، سوف يعمل على خفض الاستهلاك الداخلي لمصادر الطاقة، وللمواد الزراعية الأساسية، ويحول دون تهريبها إلى خارج البلاد، ويوفر للحكومة مبالغ مالية كبيرة، يمكن أن يُستَخدَم جزء منها، لتوجيه الدعم المباشر للشارع، كتعويض عن الضغوط الاقتصادية الناجمة عن القرار. وتشير مصادر، وتحليلات متخصصة، إلى أن موجات التضخم المتصاعدة، الناتجة عن اعتماد هذه السياسات، خصوصاً في ظل وضع اقتصادي متهالك، وعقوبات اقتصادية قاسية، قد تقضي على فئات اجتماعية واسعة، وتُوسِّع دائرة الفقر المدقع في المجتمع الإيراني؛ ما يُنذِر بالمزيد من المخاطر الاجتماعية.

وعلى الرغم من تأكيد المصادر الحكومية أن معدل التضخم، لن يشهد ارتفاعاً بأكثر من 10% نتيجة تطبيق خطة تحرير أسعار المواد الزراعية الأساسية، إلا أن نظرة فاحصة، تُظهِر أن معدلات “التضخم الوليد” ستكون أكثر من هذه النظرة الرسمية، وأنها سوف تتراوح بين 19 و26% (مضافة إلى 40% من التضخم القائم) نتيجة ارتفاع أسعار الفئة الغذائية الأساسية فحسب، وتزيد عن ذلك في حال افترضنا تسرُّب التضخم إلى السلع والخدمات الأخرى. 

ومن شأن ارتفاع التضخم بأكثر من 60%، أن يدفع فئات واسعة من موظفي الحكومة (الذين لم تشهد رواتبهم ارتفاعاً بأكثر من 10% هذا العام) تحت خط الفقر، إلى جانب طبقات واسعة من المواطنين، من ضمنهم العمال، والمتقاعدين، والعاطلين عن العمل. ويرفع معدلات الفقر المدقع إلى أكثر من الـ 33% الراهنة بكثير. وعلى الرغم من أن الحكومة اعتمدت وسائل لدعم الفئات الضعيفة، على رأسها تقديم إعانات نقدية مباشرة لهم، إلا أن معدل التضخم المرتفع من شأنه أن يجعل هذه المبالغ من دون جدوى حقيقي، ويمنع الحكومة من جهة أخرى من مواصلتها في ضوء شح مصادرها المالية.

وعمليّاً فإن اعتماد هذه السياسة، وسياسات مشابهة ضمن مشروع ترشيد الأسعار، سوف يعمل على زيادة السخط الاجتماعي، في مجتمع يعيش أصلاً على صفيح ساخن. ومن المرجّح أن يعمل مشروع تحرير أسعار المواد الزراعية الأساسية على إثارة احتجاجات متفرقة خلال الأشهر المقبلة، باعتباره عاملاً قائماً بذاته، وسيكون كذلك عاملاً يضاف إلى عوامل أخرى، تزيد معدلات السخط، وتُحرِّك الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشةً، وتمنح احتجاجات التململ الاجتماعي مزيداً من الوقود، ومنها احتجاجات العمال، والمتقاعدين، والمعلمين، وفئات واحتجاجات أخرى محتملة، يحركها مزيج من عوامل بيئية واجتماعية واقتصادية مثل شح المياه، والجفاف، وانقطاع الكهرباء.

السابق
كيسنجر في الـ99: كيف نتفادى حرب عالمية أخرى
التالي
إحذروا «تُجار السوء»..لحوم الأبقار ليست كلها طازجة في السوق!