من كاريش إلى بحر إيجه: توترات ساخنة من دون الإنزلاق إلى حروب واسعة!

بارجة حربية

يكمنُ غاز شرق المتوسط في خلفية المشهد عند الحديث عن تصارع القوى الكبرى ومشاريع تَمدُّد الدول الإقليمية، وتوسيع نفوذها، وتعزيز أوراقها التفاوضية، وتكريس مواقعها على خرائط الجغرافيا السياسية والاقتصادية والأمنية. الثروة النفطية والغازية حاضرة بقوة في الصراعات السياسية والعسكرية الدائرة في ساحات عدّة في الشرق الأوسط، كما في التحالفات التي تتشكَّل وتتبدَّل على وقع التطورات الدولية الكبرى. يذهبُ البعض إلى اختصار الصراع في عنوان «حرب الطاقة من الاكتشافات إلى خطوط النقل والأسواق» حيث تتداخل المصالح وتتشابك، فتتعارض وتتوافق، وتذهب في مسارات المواجهات الباردة والساخنة.

أضحتِ الصورةُ أكثر تعقيداً وحماوة مع الحرب الروسية على أوكرانيا التي خلطتْ أوراق الطاقة من جديد. وقرار أوروبا بالخروج الكليّ من الاعتماد على الغاز الروسي، والحاجة إلى تلبية حاجاتها، على المديين القصير والمتوسط، هما عاملان يُساهمان في إحداث تبديل وتعديل في المسارات التي ظهرت ما قبل الغزو الروسي، وفي حسابات الدول المنخرطة والمعنية والطامحة لأن تكون لها حصصٌ ومكاسبٌ وأدوارٌ في كعكة غاز شرق المتوسط.

لَعِبٌ تركيّ على حبال الغاز

في كانون الثاني/يناير 2020 وقَّعتْ قبرص واليونان وإسرائيل، في زمن إدارة دونالد ترامب وبمباركته، على اتفاق خط أنابيب شرق المتوسط «إيست ميد» الهادف إلى تزويد أوروبا بالغاز الطبيعي من شرق المتوسط، وهو مشروع بُني على اقتراح أوروبي صيغ عام 2013 في إطار السعي للتخفيف من الاعتماد على الغاز الروسي الذي يُغطّي نحو 40 في المئة من استهلاك الاتحاد الأوروبي للطاقة. تجاوزَ «التحالف الثلاثي» تركيا التي اعتبرتِ المشروع تهميشاً لمصالحها، وأطلقت تهديداتها حياله كونه يمرُّ في منطقة بحرية تابعة لها، بموجب اتفاقية ترسيم حدودها البحرية مع ليبيا، التي وقّعتها في العام 2019.

على أن مشروع خط أنابيب «إيست ميد» الذي كان مقرراً له أن يَنقلَ الغاز من السواحل قبالة إسرائيل عبر قبرص واليونان إلى أوروبا أضحى معلّقاً أيضاً بعدما سحبت إدارة جو بايدن في كانون الثاني/يناير 2022 دعمها له لأسباب قالت إنها بيئية، ولكن عزتها أيضاً إلى أن المشروع بات مصدراً للتوتر ولزعزعة استقرار المنطقة. خطوة رأى فيها محللون أمريكيون محاولة لاسترضاء الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، وتُشكِّل انتصاراً جيوسياسياً له، لا بل تُشجعه على مواصلة تصعيد التوترات في بحر إيجه وشرق المتوسط في إطار سعيه لتحقيق طموحات بلاده بأن تكون صلة الوصل الأهم لإمدادات الطاقة إلى أوروبا.

أي رسم لمعالم المرحلة المقبلة لن يكون بعيداً عن الصراع القائم على شرق غاز المتوسط لتعزيز مواقع الأطراف الإقليميين ونفوذهم

لكن القرار الأمريكي شكَّل مقدمة لما تبعه من تحوّلات في الموقف التركي بعد تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، وتبدُّل خطاب أنقرة تجاه تل أبيب، حيث عاد الحديث مجدداً عن إمكانية إحياء مشروع قديم بإنشاء خطط أنابيب تحت البحر من حقل ليفيانان للغاز الطبيعي في إسرائيل إلى تركيا ومنها إلى دول جنوب أوروبا الباحثة عن بدائل للغاز الروسي، إضافة إلى التطوُّر السياسي الإيجابي حيال مصر الحاضنة الرئيسية لـ«منتدى غاز شرق المتوسط» الذي يضم الدول المنتجة والمستوردة للغاز ودول العبور بشرق المتوسط (مصر، وإسرائيل، وقبرص، واليونان، والسلطة الفلسطينية، والأردن، وفرنسا، وإيطاليا، مع أمريكا والاتحاد الأوروبي كمراقبَين) فيما استبعد تركيا.

سيناريو أمريكي طَموح!

القراءة السائدة لدى مراقبين أن واشنطن تهدفُ إلى تجاوز تحالفات الغاز السياسي، التي كانت قائمة قبل الحرب الروسية على أوكرانيا، بغرض إعادة بناء تحالفات صلبة بين إسرائيل ومصر وتركيا إلى جانب دول الخليج، في ظل ما ينتظر المنطقة في إطار المواجهة لإعادة رسم مواقع القوى الكبرى على خارطة العالم والنظام العالمي.

غير أن أي رسم لمعالم المرحلة المقبلة، لن يكون بعيداً عن الصراع القائم على شرق غاز المتوسط لتعزيز مواقع الأطراف الإقليميين ونفوذهم. فتركيا تُريد، بفعل موقعها الاستراتيجي القريب من منتجي الطاقة في الشرق الأوسط والقوقاز ووسط آسيا ومن أوروبا بوصفها المستهلك الأكبر، أن تتحوَّلَ إلى الدولة الناقلة الأولى والممر الاستراتيجي لإمدادات الطاقة إلى أوروبا، وتسعى من خلال موقعها هذا إلى تعزيز نفوذَيها السياسيّ والعسكريّ في المنطقة. لن يتوانى اردوغان، الذي أعلن عزمه خوض الانتخابات الرئاسية عام 2023، عن تسخير كل أوراق القوة التي يملكها لضمان بقائه في الحكم.

إقرأ أيضاً: خاص «جنوبية»: منصة سلامة للمحظيين فقط..والدولارات داخل البنوك «فيها إيد وإجر»!

ينه على اقتناص الفرصة بعملية عسكرية في الشمال السوري تُبرِّر أهدافه باستكمال إقامة منطقة آمنة لإعادة اللاجئين السوريين في تركيا إلى سوريا، ومن شأن ذلك أن يُخفِّف من ضغوط هذه الأزمة عليه في ظل الانكماش الاقتصادي. وعينه أيضاً على الجزر اليونانية في بحر إيجه التي ارتفع منسوب التوتر فيها، وسط مخاوف من مواجهة عسكرية تركية – يونانية، أو احتكاك يؤدي إلى انزلاق عسكري بين العضوين في حلف «الناتو» المنشغل في تحديات الغزو الروسي لأوكرانيا، وما يُشكِّله من تهديدٍ لدول أوروبا الشرقية التي انضوت في عداد الحلف بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

النزاع التركي اليوناني

ففي رسالة معبِّرة برمزية المناسبة والمكان، شارك اردوغان في اختتام مناورات «أفيس 2022» في أزمير، إحدى أكبر التدريبات العسكرية في تركيا، والتي اشتملت على محاكاة إنزال برمائي قبالة السواحل التركية، متهماً اليونان بتسليح الجزر خلافاً للاتفاقيات الدولية، ومحذراً من أن تركيا لن تتنازل عن حقوقها في بحر إيجه، ولن تتردد في استخدام الصلاحيات المعترف بها في الاتفاقيات الدولية بشأن تسليح الجزر. الاتهام التركي رفضته أثنيا، نافية أي كلام عن عسكرة الجزر، ومعلنة أنها على استعداد للدفاع عن سيادتها وحقوقها، فيما اتهم رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس أنقره بانتهاك غير مسبوق للمجال الجوي اليوناني. وذهبت الخارجية اليونانية إلى حدّ نشر خرائط تظهرُ فيها محاولات تركيا – التي لا تتوقف – لتوسيع رقعة التنقيب عن الغاز والنفط في مناطق خاضعة لسيادة اليونان شرق المتوسط.

التصعيد ترافق مع إعلان تركيا وقف محادثات مع أثنيا كانت بدأت العام الماضي بواسطة «الناتو» بعد توتّر مماثل حصل على خلفية اتفاقية ترسيم الحدود بين اليونان ومصر، رأت فيها أنقرة انتهاكاً لجرفها القاريّ. برَّدتِ الوساطةُ الدبلوماسية قبل سنتين الوضع بين الجارين اللدودَين الغارقَين في كثير من الملفات التاريخية المتعلقة بالجزر، والحدود، والمياه الإقليمية، والمجال الجوي، وجزيرة قبرص المنشطرة بين وصاية البلدين، ليزيد ملف احتياطات النفط والغاز ومحاولات التنقيب في البحر المتوسط من حال التأزم، ويوسِّعها ملف اللاجئين وغيرها من القضايا. لكن الأرضية جاهزة على الدوام لـ«تصعيد غب الطلب» يمكن أن يستخدمه ساسة البلدين في حسابات داخلية. الرهان اليوم على وساطة جديدة لن تُفضي، في رأي مراقبين على ضفتَي البلدين، إلى التقارب، بل إلى القدرة على إبقاء الأزمة وإدارتها في الإطار السياسي بعيداً عن أي حادث عَرضيّ يمكن أن يؤدّي إلى تصادم عسكري.

كاريش… هل يكون الشرارة؟

وفي رقعة أخرى على شرق المتوسط أكثر جاهزية للتفجير، يبرز القلق من احتمال وقوع «الحرب الكبرى» المنتظرة، وفق سردية «محور إيران»، وهي حربٌ لا تسيرُ وفق ساعة لبنان بهدف حماية مصالحه وحقوقه وثرواته وسيادته، بل تسيرُ وفق الساعة الإيرانية المتعلقة بحسابات طهران الاستراتيجية وحماية موقعها ونظامها، والتي استطاعت من خلال تمددها خارج حدودها تأمين أوارق ضغط، وتفاوض، وتهدئة، وتفجير.

فالمخاوف مِن أن يُشكِّل وصول سفينة «إنرجيان باور» إلى حقل «كاريش»، للبدء باستخراج الغاز، شرارة تسخين عسكري يستدعيه انسداد أفق المفاوضات الإيرانية مع أمريكا، والتي تشهدُ موتاً سريرياً وسط ضيق خيارات طهران في ظل الضغوط الاقتصادية التي تواجهها داخلياً، والتداعيات السياسية لـ«حرب الكرملين» التي تُقيِّدها في إمكانية المناورة في خضم الصراع الدولي القائم، حيث إيران حليف رئيسي لروسيا والصين.

إسرائيل على مسافة أشهر قليلة من استخراج الغاز المستكشف والبدء بتصديره بحيث يُفترض أن يُعوِّض جزءاً من الغاز الروسي لأوروبا

فلبنان الذي يقول إن حقل كاريش يقع في منطقة مُتنازع عليها لم يُقدِّم المستندات القانونية للأمم المتحدة لتثبيت حقه بالخط 29 الذي يدّعيه، ويحمل، وفق خبراء، مسوغات تقنية وقانونية حسب قانون البحار والاتفاقيات الدولية، لا بل تحوَّل الخلاف على خطوط الترسيم إلى خلاف داخلي بين فريق يريد الإبقاء على الخط 23 الموثَّق دولياً، وبين فريق يُطالب بتعديل المرسوم لاستبدال الخط القديم بالخط الجديد، فيما السردية السياسية تذهب إلى تحميل مسؤولية الإخفاق إلى الوسيط الأمريكي الذي استنجد به قادة لبنان السياسيون للإتيان، على وجه السرعة، في خفّة متناهية وكأن وصول السفينة المحدد والمعلن منذ أشهر قد حصل على غفلة. وفيما الجدال والاتهامات الداخلية تدور حول الخط الواجب التمسُّك به، خرج الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصر الله راسماً الاتجاه الذي سيسير عليه ومعه لبنان، إذ اعتبر أن «الهدف المباشر يجب أن يكون منع العدو من استخراج النفط والغاز من حقل كاريش»… ليس مهماً أين سترسو السفينة، وأين الحفر والاستخراج.

فالخطِر في الأمر أنّ العدو سيبدأ بالاستخراج في الحقل المشترك والمتنازع عليه، فيما لبنان ممنوع عليه استخراج ما في مناطقه والبلوكات الواقعة خارج النزاع. هنا بيت القصيد. إسرائيل على مسافة أشهر قليلة من استخراج الغاز المستكشف والبدء بتصديره بحيث يُفترض أن يُعوِّض جزءاً من الغاز الروسي لأوروبا، ما يجعل الوضع محصوراً بين سيناريوهات ثلاثة: إما وجود اتفاق ضمني يُعطي لبنان ما يُرضي ماء الوجه، وإما الرهان على استخدام ورقة الاستخراج من حقل كاريش كورقة ضغط ومساومة لحسابات إقليمية، فيخرج لبنان خالي الوفاض في نفطه وغازه، لكنه رابح في تجنيبه حرباً بالواسطة على أرضه، وإما سنكون أمام لا اتفاق بحيث نشهد سخونة عسكرية تبقى مضبوطة دون مستوى الحرب.

السابق
غاز لبنان المسال وزواريب نصر الله الضيقة!
التالي
أرجحية الممانعة ومأزق «الشعبوية النخبوية»!