أرجحية الممانعة ومأزق «الشعبوية النخبوية»!

مجلس النواب

أظهرت جلستا انتخاب رئيس المجلس النيابي ونائبه، وأعضاء اللجان النيابية، أنّ الأرجحية في البرلمان اللبناني الحالي هي لحزب الله وحلفائه المرمّز إليهم بقوى الثامن من آذار، وأنّ التلاقي متعذر بين كتلة «القوات اللبنانية» التي زادت مقاعدها وبين الدستة المعززة من نواب «التغيير» المختلطين طائفياً، والذين يعبّرون عن مفارقة ما يمكن وصفه «بالنخبوية الشعبوية»، وأنّ التوقعات بصدد انتخاب رئاسة الجمهورية، وإن لم يكن محتوماً أن يتكرر فيها سيناريو ما حدث لحظة انتخاب رئيس البرلمان ونائبه، الا أنه لا يمكن الاسترسال فيها بمعزل عن الذي جرى.

لئن اتسمت الشعبوية بشكل عام، بنزعة التنديد بالنظام القائم، وبالمؤسسة الحاكمة، من موقع ادعاء تجسيد الإرادة الشعبية المعبّر عنها في التحريك التعبوي الميداني الجماهيري، ومن موقع انكار أي انقسامية أو تنازعية اجتماعية أو أهلية فعلية في صفوف الشعب، وعزو ذلك الى مآرب وأضاليل السلطة الحاكمة، فنواب «التغيير» أو «الثورة» هؤلاء شعبويون.

لكنهم يحيدون عن الشعبوية «النمطية» في أن الأخيرة تندّد بالاستبلشمنت (المؤسسة الحاكمة المزمنة بوجوهها الرسمية وغير الرسمية) وتعبّر عن احتقان متواصل تجاه النخب والخبراء بشكل عام، وتأنف من الاسترسال في الحلول التقنية والتكنوقراطية للمسائل، في حين تصرّح بالعكس تماماً «شعبوية النخبة». التي فرضت نفسها على انتفاضة 17 تشرين، لا سيما في الاعتصام المركزي لهذه الانتفاضة في وسط بيروت، وبشكل أكثر سطوة من خلال الحظوة التلفزيونية والتسويقية التي نالتها وجوهها وطروحها.

الخطاب الذي يرزح ضمن منطق التوتولوجيا أو تحصيل الحاصل: لا يجسد الشعب الا الشعب نفسه

تأخذ «الشعبوية النخبوية» من المفهوم العام للشعبوية تبجيل صورة الشعب التي تغص بها الساحات، وتتبنى كأي حركة شعبوية على هذا الكوكب خطاباً من نوع «نحن الشعب» (تجسيد الجزء للكل) بالشكل الذي يجعل من المقترعين للوائح «السلطة» وهم أغلبية المقترعين من المغرر بهم أو من المتواطئين مع «المنظومة»، مثلما يرجعون الانقسامات الطائفية والمناطقية والطبقية ضمن هذا الشعب الى مؤامرة لفرزه وفصله عن بعض البعض تزاولها هذه المنظومة الأخطبوطية المتخيلة.

لكن هذه الشعبوية تبتهل للنخبة التكنوقراطية، ولا تنادي بحكومة القوى الشعبية، انما بحكومة الخبراء ذوي الرتب المرموقة والسير الذاتية المقبولة في الفقاعة النيوليبرالية المعولمة. وبما أن التفاوض مع صندوق النقد الدولي ومع البلدان ذات النفوذ المالي والاقتصادي من ضرورات المرحلة، صارت حجة النخبوية الشعبوية أقوى.

بدلاً من صورة القائد الشعبوي الذي يزعم تجسيد صوت الجماهير وإرادة الناس، بشكل مباشر وفوري وتلقائي في مقابل التمثيل والتوكيل غير المباشرين للمنتخبين من قبل ناخبيهم في الديمقراطية التمثيلية، ويكون هدفه في الوقت نفسه انتزاع هذا التوكيل كتصديق على تجسيده الشعبي السابق عليه، فإن «شعبوية النخب» تحبّذ على العكس من ذلك، تجسيد النخبة التكنوقراطية للشعب الذي لا يعرف كيف السبيل للضوء والحياة والحق والكرامة من دونها.

إقرأ ايضاً: بعلبك «تنتفض».. وقائد الجيش «يقتبس» من نصرالله للرد على «حزب الله»: سنقطع اليد التي تمتد على سلاحنا!

وفي حقبة تحوّل فيها التنشيط الفكري في موضوع الديمقراطية الى الخوض في آفاق «الديمقراطية المعرفية» أي طرح السؤال قبل كل شيء ما الذي على القوى السياسية وعلى ممثلي الناس تعلمه من الناس أولاً بأول، وليس فقط كشعارات براقة وامتداحية للوحة الجماهيرية عندما تلتئم في الساحات، تحرص «النخبوية الشعبوية» على العكس تماماً. بالنسبة لها، ثمة شعب حدث أنه تمرد ذات يوم من بعد طول سكوت لكنه لا يستطيع شيئا دون هذه النخبة التكنوقراطية، وهي افتدته «بعلمها» وهبّت لأجل انقاذه، ونالت عُشر أصوات الناخبين، وعُشر المقاعد، وهذه سابقة قوية في تاريخ لبنان الانتخابي على مستوى الكتلة العابرة فعلا للطوائف، وإن كان لذلك الأمر حيثية مرتبطة أيضاً، في جزء منه، بتعليق سعد الحريري مشاركة تياره في السياسة.

استطاعت هذه الشعبوية النخبوية أن تفرض نفسها على حساب نزعتين شعبويتين أخريين أقصيتا مبكراً من السباق في أيام تشرين الانتفاضية. إذا كان هناك أيضاً «الشعبوية الباحثة عن منقذ فرد». هذه لم يكن لها كثير خبز، خاصة في ظل حركة احتجاجية تنديدية بالزعامات التي تقاسمت السلطة والنفوذ في البلد بعد الحرب.

وأساساً، كل انتفاضات البلدان العربية الشعبية عام 2011 وفي الموجة التالية (الجزائر، السودان، العراق، لبنان) لم يظهر فيها هذا النوع من الشعبوية الكاريزماتية. ظهر في هذه الانتفاضات الشعبية العربية في المقابل باع أساسي لخطاب «الشعبوية اللا كاريزماتية». هذه تمجد «الشعب الثائر» هي الأخرى، لكنها لا ترتضي للشعب من تجسيد له في هيئة زعيم كاريزماتي ثوري ملهم، لأنها تعتبره شَبَهَ الديكتاتور التي خرجت للتنديد به وإطاحته. في لبنان أيضاً، خطاب الشعبوية الأنتي كاريزمية هذا، والمتلبس لشيء من الأناركية كان الطاغي في الساحات وعلى السوشل ميديا في أيام تشرين.

الخطاب الذي يرزح ضمن منطق التوتولوجيا أو تحصيل الحاصل: لا يجسد الشعب الا الشعب نفسه. لأجل هذا، في الأوضاع العربية جملة لم يكن مقدرا لخطاب الشعبوية اللا كاريزماتية أن ينبثق عنه حالة نضالية فعلية تستمر الى فترة ما بعد انكفاء الناس عن الميادين والساحات، وحيث انه لم يكن مقدراً للشعبوية الكاريزماتية الباحثة عن تجسيد نفسه في قائد أن يكون لها أفق في هذه الأوضاع، كانت النتيجة أن هناك فراغا جرت تعبئته بشكل مختلف انما بشكل مرير في كل بلد، وفي لبنان جرت تعبئته بمفارقة ما زال من المبكر القول الختامي بشأنها، وهي مفارقة «شعبوية النخبة».

هؤلاء تشاركوا مع القوات اللبنانية الفرحة العارمة بنتائج الانتخابات. وهو مفهوم طالما أن القوات زاد عدد ممثليها في الندوة البرلمانية، وفاق عدد المصوتين لها من اقترع لتيار عون باسيل في المسيحيين.

الحسبة الشاملة لكامل أعضاء البرلمان هو برلمان غير طيع تماما للممانعة لكنه ما زال في فلكها ولها الأرجحية فيه

ومفهوم طالما أن نواب التغيير يشكلون اليوم، 13 نائباً يتشاركون في الطقوس الاحيائية لانتفاضة 17 تشرين على أعتاب المجلس النيابي وفي داخله. انما ما ينغص هذه الفرحة هو النتيجة العامة، الحسبة الشاملة لكامل أعضاء البرلمان. هو برلمان غير طيع تماما للممانعة، لكنه ما زال في فلكها ولها الأرجحية فيه، وهذه الأرجحية تتقوى بعدم قيام التواصل بين القوات وما بقي من 14 آذار الى جانبها، من ناحية، وبين نواب التغيير النخبوي – الشعبوي، في المقابل. حتى الآن، الطاغي بين الفريقين هو التراشق والتشكيك والملامات.
فنواب « التغيير» من المندّدين بمنظومة حاكمة للبلد بعد الحرب يرون أنها تسببت بانهيار نظامه المالي واستشراء الفساد فيه وضياع سيادته، ويصرّون على إدراج «القوات» في عدادها، رغم شراكتها في انتفاضة 17 تشرين 2019.

وهم أساسا شاركوا في هذه الانتفاضة مثلهم مثل القوات، ولم يجر اختيارهم يومها من قبل مجالس شعبية أو سوفياتات انبثقت من هذه الانتفاضة. أما «القوات» فكانت جزءا أساسيا من مناخ المنتفضين آنذاك في المناطق المسيحية، انما في الوقت نفسه كانت جزءا من الحكومة الواقع ضدها فعل الانتفاض، لكنها استقالت من هذه الحكومة في إثر نشوب الانتفاضة، وساهمت بالتالي في تطيير تلك الحكومة، وهي أكثر مراسا بإزاء الممانعة من «التغييريين»، لكنها تتفادى التصادم مع نبيه بري، بخلاف نهم التغييريين للتصادم معه، وهي أقرب الى خطاب جمعية المصارف في تفسير أمر الخراب المالي للبلد، لكن بعض نواب التغيير ليسوا مناهضين هم أيضاً لجمعية المصارف.

كل هذه المعطيات يصعب جمعها والخروج منها بحصيلة أحادية القراءة وسريعة. يبقى أن الصورة الحالية للمشهد هي صورة أرجحية لنواب الممانعة في مقابل انقسام الركن غير الممانع من المجلس بين كتلتين أساسيتين في هذا الركن غير قادرتين حتى اشعار آخر عن التخاطب الجدي، وعدم سجن الذات ضمن مقولات صالحة للانتخابات وليس لما بعدها.

السابق
من كاريش إلى بحر إيجه: توترات ساخنة من دون الإنزلاق إلى حروب واسعة!
التالي
بري يَفُك «تحالفه» الإنتخابي مع عون..و«نواب التغيير» على خط السيادة النفطية