رحيل منى السعودي..النحاتة الناطقة بالحزن!

منى سعيد

رحلت الفنانة الأردنية النحاتة الكبيرة منى السعودي بصمت، لا يشبه أي صمت أو سكون. فقد أُعلن أمس فجأة خبر وفاتها.
كانت تعيش الفنانة الأردنية منى السعودي في بيروت، في منزلها الهاديء في منطقة “كليمنصو”-الحمراء ، وهو منزل أشبه بمتحف يضم سلسلة من منحوتاتها الحجرية والخشبية والحديدية.

فنانة متميزة الخيال والفعل، تستعمل القوة البدنية والعضلية في سبيل الرهافة والشفافية. تطوع الصلب حتى يلين ويصير نسمة تدوم وتدوم. تنحت الشكل، تستولده من الحجر، ترسمه بالخشب والحديد، وترفعه الى أعلى النظرة.

الراحلة فنانة صديقة، قمتُ بزيارتها في منزلها مرات عديدة، وكم تحادثنا وسط الهياكل الحجرية المنتشرة حول منزلها كجيش فاتح. وهي اليوم، بعد رحيل مناها، منحوتات ناطقة بالحزن.

  • في احدى جلساتنا سألتها لماذا النحت في حياتك؟
  • أجابتني: النحت ربما هو عمل شاق وصعب لكنه ، بالنسبة لي هو عمل هادىء ومريح ويساعدني على الراحة والإستراحة. حين اخترت أن أكون نحاتة، اخترت طريقة في الحياة. ولكي تكون نحاتاُ ينبغي أن تكون عاشقاً للأرض وما عليها، وأن تلمس نبضها الحي.. النحت لدي هو تجسيد للشعر، قول ما لا يقال،لمس ما لا يلمس، هو الكلام الصامت،الحركة في السكون، الكشف والسر، الطيران بلا أجنحة، مزج الكوني بالأرضي، ادخال الزمن في المكان، نسج القداسة بإعادة التكوين والتواصل بالغيب.
  • كيف تبلورت انطلاقتك مع الحياة؟
  • كانت عمان (العاصمة الأردنية) حيث ولدت عام 1945مدينة صغيرة نشأت على سفوح سبع تلال بينها وديان وسيل ماء يتحول نهراً في الشتاء، وجدولاً في الصيف. قيل أن اسمها كان”ربّة عمّون”. ومن ثم فيلادلفيا في العهد الروماني. ثم هُجرت المدينة من القرن السادس عشر إثر زلزال واوبئة، وغابت عنها الحياة والبشر حتى أتاها من يسكنها في نهاية القرن التاسع عشر، مهاجرون من الشراكسة وتجار قوافل من سوريا بدأوا يستقرون حول ينابيعها وآثارها المهجورة ويقميمون بيوتهم من طين وحجر… كنت ابنة عائلة هاجرت من دمشق واستقرت في عمان في ذلك الزمن. كانت اللهجة الشامية هي السائدة في عائلة كبيرة من الأعمام والخالات، عائلة تقليدية متدينة، إلا انه كان لدي شعور عميق بأنني ابنة الأرض. كنتُ أنمو في حلم آخر، غامض وبعيد.
  • وكيف اكتملت الصورة في مخيلة الفنانة النحاتة منى؟
  • كان من حظي أن أذهب باكراً الى مدرسة بعيدة عن البيت، فقد اتاح لي ذلك أن امشي على قدمي يومياً ذهاباً وإياباً، وكنت اترك الطريق المعبدة وآخذ طرقاً ترابية عبر تلال عمان اللولبية، وكانت سفوح الجبال حقول قمح أحياناً، أو بقايا مقالع قديمة. وكان هذا السير يقربني من الشجر والأرض والحجر، ومن الناس والطبيعة،وكان مسافة للحلم والتأمل.

وبدات اتأمل جسد الأرض،استداراتها، تداخل الوديان والجبال، أشكال الغيم، فجوات الصخور… كل هذا ساهم بتفتح الوعي المبكر لدي.

إقرأ أيضاً: نصرالله يُحوّل لبنان إلى مصنع للصواريخ والمُسيّرات ..والجنون العوني يَتمدد إلى عثمان!

ثم بدأت أبحث عن منابع الإبداع الإنساني عبر كتب الفن والشعر. بدأت أدخل هذا العالم النابض، مع بداية محاولاتي في الرسم وفي كتابة الشعر. وبدا الحلم بالسفر الى العالم الكبير، من اجل أن أحيا وأتعلم وأعرف. وكانت باريس مدينة هذا الحلم، وكان لا بد لي من أن أكسر تقاليد العائلة وأمضي في طريق الحلم.

  • هل شغلتك الأفكار القلقة؟

في طفولتي شغلتني أسئلة ميتافيزيقية عن الخلق والتكوين، من أين تأتي والى أين تذهب… عرفت الموت باكراً بفقدان اخي فتحي. كان شاباً مولعاً بالأدب والشعر، قرأ لي “نبي” جبران خليل جبران، أخبرني عن احتلال فلسطين، حكى لي قصة جلجامش. كان هذا الأخ نسيجاً مختلفاً في عائلتنا التقليدية ، وكان صديقي .

كنت في العاشرة من عمري حين اخذه الموت بعد مرض غامض، حين سمعت خبر موته في الصباح غرقت في البكاء، ولكنني حين رأيت وجهه مسجى في التابوت الخشبي، وكان مبتسماً كأنه ينام بعمق، عرفت ان الموت تحوّل وليس نهاية فاجعة، بل أنه من نسيج الحياة. تركت المأتم في البيت، وخرجت أمشي في شوارع المدينة وسفوح التلال.

فنانة متميزة الخيال والفعل تستعمل القوة البدنية والعضلية في سبيل الرهافة والشفافية

وكان ذلك أول وعيي بأن الزمن الذي نعيشه هو رحلة الحياة الباهرة وهي جديرة بان نمجدها، ونكون فيها نبضاً فاعلاً،وبأن لا نخاف من المجهول،ونحيا في المغامرة والحلم والحرية.

  • هل فتنتك الأعمال الفنية مثل المنحوتات التاريخية الشهيرة وسواها؟

طبعاً. عشت هذا الشعور الكبير. فتنتني المنحوتات منذ طفولتي، واول ما عرفت منها المنحوتات المبعثرة في ساحة المدرج الروماني في عمان، وكان ملعب طفولتنا. أما بيتنا فكان جزءا من الموقع الأثري المسمى “سبيل الحوريات” الذي كان يشكل باعمدته المنقوشة وأقواسه وينابيعه ساحة بيتنا الأمامية. لقد عشت طفولتي في مكان اسطوري،بين هذه الحجارة المنحوتة مسحورة بجمالها وديمومتها.

  • لك منحوتات يظن من ينظر اليها أنها تتكلم وتتحرك وخصوصاً منحوتاتك “أمومة الأرض”، كيف تفسرين هذا ؟
  • لا شك أن المنحوتة المستخرجة من جوانية الإحساس لا بد أن تترك أثراُ في عين الناظر اليها.أبعد ما أذكره في طفولتي، أنني كنت اذهب مع أمي لزيارة أخوتي في السجن،أحمل سلة فاكهة صغيرة، وأقف لأتحدث معهم من وراء القضبان. كانت أمي تبكي، وتهمس لي أنهم في السجن لأسباب سياسية تتعلق بفلسطين. بعد أشهر قليلة عام 1948،وصلت الى بيتنا عمتي وعائلتها،جاؤوا من غزة،وكانوا يحملون بضعة أكياس فيها حاجات وملابس، عرفت يومها أن الإسرائيليين قد احتلوا فلسطين وطردوا الناس من بيوتهم ووطنهم، وانتشرت مخيمات اللاجئين في أطراف عمان ، وكان هذا اول وعي لي بالمأساة الفلسطينية ومنذ ذلك اليوم، تسكن فلسطين في قلبي ومنها ستولد منحوتاتي “أمومة الأرض”.
السابق
تعميم «المستقبل» بعدم استخدام اسمه في الحملات الانتخابية يربك المقربين!
التالي
خاص «جنوبية»: أسبوع حاسم بملف المرفأ..ودعاوى جديدة متوقّعة من «المتضررين»!