الأستاذُ المتحرّش والزعيمُ الفاسد .. طينةٌ شرّيرة واحدة!

د. هلا رشيد أمون

تعود طرابلس الى بقعة الضوء للمرة الثانية من باب الثورة. في المرة الأولى ثارت على الجلاّدين والفاسدين، واليوم تثور على المتحرّشين. ولا أرى فرقاً بين الثورتين، فما الثورة الا كسر للتابو، وتحطيم لجدار الصمت وحاجز الخوف، وصرخة مدّوية في وجه مرتكبٍ وظالم.

اقرأ أيضاً: نائب طرابلسي «يُشرّع» السطو على مدخرات المودعين!


وتبدأ القصة من ذلك الأستاذ المتحرّش الذي أنتحل صفة “إعلامي”، أو “ناشط” ، كي يوجد لنفسه حيثيةً أو مكانةً في المناسبات العامة، وهو الذي اعتاد إنشاء مجموعاتٍ واتسابية يضمّ إليها الناس دون استئذان. متجاوزاً احترام خصوصياتهم ومساحاتهم الخاصّة. وفجأة اكتشف الناس أنه متورّط في مسلسلٍ طويلٍ من التحرّش بطالباته، يرجع لعدة سنوات ماضية. 

وكَشفُ المستور حصل بفضل شجاعة التلميذة غنى ضنّاوي، التي فضحت مدرّس التربية المدنية والقيم الإنسانية، في منشورها الجريء على صفحتها على الفايسبوك، ثم ما لبثت أن كرّت سُبحة الشكاوى، وتشجعت أخريات على نشر لقطات “سكرين شوت” لمحادثاتٍ عبر مجموعاتٍ دراسية، تُظهر تلقّيهنَّ رسائل إلكترونية تتضمن إيحاءاتٍ جنسية صادرة عن الأستاذ. وسرعان ما تحولت القضية الى قضية رأي عام، بعدما ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بالخبر، الأمر الذي فتح باب الاحتجاج على مصراعيه، ودفع الأهالي والتلامذة الى التجمهر والاحتشاد في باحة ثانوية “جورج صرّاف” الرسمية المختلطة في منطقة أبي سمراء، حيث اقتحموا مكتب المدير، الذي اتهموه بالتواطؤ مع المدرّس المتهم والتستّر عليه، وطالبوا بمحاسبته، وراحوا  يهتفون “ثورة .. ثورة” و ” ع الذكورية .. ثورة” .

كَشفُ المستور حصل بفضل شجاعة التلميذة غنى ضنّاوي التي فضحت مدرّس التربية المدنية والقيم الإنسانية

 وما لبثت ان تتالت المواقف المؤيّدة من كل لبنان، مُثنيةً على جرأة التلميذات، ومُشجعةً لهنَّ على فضح كل متحرّش، وتلقينه درساً في التربية والأخلاق.هذه المشهدية الثورية التي تردّدت أصداؤها في كل أنحاء لبنان – وربما في العالم – أجبرت وزير التربية، على اتخاذِ قرارٍ بمنع المتحرّش من مزاولة المهنة (وهو الذي سبق له ان فُصِل من عدة ثانويات بسبب سلوكه)، وإقالةِ مدير الثانوية الذي تجاهل الشكاوى المتعددة، المقدَّمة عن هذا الاستاذ طيلة السنوات الماضية.والحقيقة أنّ الأخبار التي تمّ تداولها، عن أساليب تحرّشه ومضايقاته وانتهاكاته وممارسته العنف اللفظي والجسدي، كانت صادمة بالفعل: كأن يمسك أيدي التلميذات، أو يحضنهنَّ، أو يلامس أجسادهنَّ، او يعنفهنَّ لفظياً من خلال استخدام الكلام المسيء والشتائم، او يهدّد مَن ترفض التقاط صورة معه، بمعاقبتها في تخفيض علاماتها. وكل هذا لا يدع مجالاً للشك، بأن هذا الأستاذ “المدعوم”، الذي استغل منصبه التعليمي واستخدم سلطته المادية والرمزية، يعاني من اضطراباتٍ نفسية (اضطراب التلامس الجنسي) وبحاجة الى المعالجة.

وبعيداً عن مسألة الحقوق الجندرية التي تركز عليها المنظمات النِسوية، ما هي ملامح “المتحرّش” حسب علم الطب النفسي وعلم الاجتماع ؟ إنه  شخصية غير سويّة (سايكوباتية) شديدة الإندفاع، لا تحترم القوانين عامةً، وهو ما يمكن تعريفه بالشخصية “المضادة او المعادية للمجتمع”. وتتميز هذه الشخصية بالسلبية واللامبالاة وتكرار الفعل الخاطئ، وعدم الاهتمام او التفكير بالعواقب الاخلاقية والاجتماعية لتصرفاتها، ما يجعل المتحرّش شخصاً لا يمتلك مشاعر أو أحاسيس، فهو يُقِدم على أفعاله الشائنة، انطلاقاً من ميول للانحراف دون رادعٍ داخلي (أو ما يُعرف بالضمير) . وغيابُ هذا الرادع سيجعل منه شخصية تقوم بأفعالٍ مؤذية فى حال عدم ضبطه. بعبارة أخرى، “التحرش” سلوك اندفاعي ناتج عن رغبة مكبوتة تتعارض مع القانون وأعراف المجتمع، وإذا وجدت هذه الرغبة طريقاً سهلاً للخروج دون وجود رادعٍ قانوني أو اجتماعي، فإنها تخرج على الفور . 

ولكن الأمر قد لا يتوقف عند حدود “التحرّش الجنسي” فقط، فهذا الشخص يمكن أن يمارس السرقة والاختلاس، بل والقتل أيضاً، إذا أُتيحت له الفرصة. ويخبرنا علماء الاجتماع، ان تزايد ظاهرة التحرّش في أيّ مجتمع، يتناسب طردّياً مع انهيار النسق القيمي للمجتمع ككل: الإنهيار الثقافي والاخلاقي والديني والسياسي والقانوني والتربوي.

يخبرنا علماء الاجتماع ان تزايد ظاهرة التحرّش في أيّ مجتمع يتناسب طردّياً مع انهيار النسق القيمي للمجتمع ككل

ولو استرجعنا أبرز السمات التي تميّز شخصية “المتحرّش”، لوجدنا أنها تنطبق على شخصية “الزعيم اللبناني” بشكلٍ لا يصدّقه عقل: غياب الرادع الأخلاقي؛ اضمحلال الضمير؛ انعدام المشاعر والأحاسيس؛ السلبية واللامبالاة تجاه الضحايا، الذين يعاملهم كأرقامٍ في صندوق الاقتراع أو كقطيعٍ يقوده نحو الجحيم ؛ تكرار أفعاله المسيئة لضمانهِ غياب المساءلة والمحاسبة؛ عدمُ التفكير في التبعية الاخلاقية والاجتماعية لأفعاله وتصرفاته الشائنة؛ الاستغلال المادي والرمزي للسلطة والمناصب والمواقع؛ استخفافه بالأنظمة والقوانين لأنه أمِنَ سوء العاقبة؛ معاداة المجتمع؛ إثارة الغرائز (الطائفية).

هذا التطابق بين الشخصيتين المَرَضيتين، تسمح لنا بالقول إنهما من طينةٍ شريرةٍ فاسدة واحدة، في بلدٍ ضعُفت فيه سلطة القوانين والقضاء، وصارت العدالة استنسابية تُطبَّق على الضعيف المستقلّ، وينجو منها القوي والتابع والمدعوم؛ في بلدٍ شاعت فيه رذيلةُ “الزبائنية” السياسية والمحسوبيات، وفاحشةُ زجِّ الأتباع في الادارات والمؤسسات، والمدارس والجامعات لأغراضٍ انتخابية بحتة؛ في بلدٍ انهار فيه كل شيء ذي قيمة، وسُرقت فيه مليارات الدولارات، ولم نجد مذنباً او مجرماً أو لصّاً واحداً وراء القضبان. فالكل يغسل يديه من جرائم الفساد وتقويض أركان الدولة وإفلاسها، وينفي عنه مسؤولية وتهمة تجويع الناس، ويلصقها بآخرين مجهولين. وهو تماماً ما فعله الأستاذ المتحرّش، الذي يعلّم التربية والقيم ويمارس نقيضها؛ والذي نفى في أول تعليقٍ له على ما حصل، التُهمَ المنسوبة إليه، قائلاً إنّ هناك حملة ضدّه لأنّه “محبوب وناجح” ( كالزعيم المقدّس) وأكّد أنه “غير متوارٍ عن الأنظار، لأنه ليس مجرماً لكي يسلّم نفسه للقضاء”.
لئِن ثارت طرابلس على “الزعيم الفاسد”، فلم يكن من المستغرب أن تثور على “الأستاذ المتحرّش”، اللذين يشربان من مُعينٍ واحد. فـتحيّةُ تقديرٍ لطرابلس، وللجيل الصاعد من الصبايا والشباب في مدينة طرابلس، التي رغم قهرها ونكبتها وأحزانها، ما زالت قادرةً على إثارةِ دهشتنا ومحبتنا

السابق
حسن فحص يكتب لـ«جنوبية»: الخطوط الاماراتية الايرانية.. «البرمائية»!
التالي
بالفيديو: من لبنان الى السعودية.. 4 ملايين حبّة «كبتاغون» في البنّ!