نائب طرابلسي «يُشرّع» السطو على مدخرات المودعين!

د. هلا رشيد أمون

الكلُّ لا يزال يذكر بأنه بعد اندلاع الثورة في العام 2019، أقفلت المصارف ابوابها لمدة اسبوعين ،ثم تعرّض مئات ألوف المودعين اللبنانيين للإذلال والمهانة، نتيجة احتجاز اموالهم. وقد تعاطت تلك المصارف باستنسابية مع أصحاب الودائع، وتمكّنت منظومة الفساد السياسي والمصرفي من تهريب 9.5 مليار دولار إلى الخارج، حسب ما كشفته “وكالة موديز” .

وبعد تأخيرٍ دامَ سنتين، وتهريب النافذين لأموالهم، وتقاسم أموال المودعين بين زعماء الطوائف وكبار المصرفيين، والتجار ورجال الأعمال والمهرّبين المحميين من الاحزاب، كانت اللجان النيابية المشتركة في المجلس النيابي، تنوي الاجهاز على ما تبقّى من جنى أعمار الناس ومدخراتهم، من خلال اقتراح القانون الذي أحيل اليها لدراسته، والرامي الى “وضع ضوابط استثنائية ومؤقّتة على التحاويل المصرفية والسحوبات النقدية” (الكابيتول كونترول)، وفق اقتراح رئيس الحكومة ​نجيب ميقاتي الذي رأى أنه يجب إقراره، لأن صندوق النقد الدولي طالب بأن تأتي هذه المسألة، ضمن خطة متكاملة مع الصندوق. وقد كان من المفترض ان يتمّ إقراره اليوم الثلثاء في المجلس النيابي.

وقد ظهر بما لا يقبل الشك، ان هذا المشروع كان يسعى الى تحقيق عدة اهداف بالغة الخطورة: تشريعُ عمليات السطو على ودائع مئات الألوف الذين احتُجزت أموالهم وباتوا يعيشون شظف العيش؛ وضربُ حقوق المودعين وتحميلهم أكبر نسبة من الخسائر في عملية توزيع الخسائر ؛ وقوننةُ عمليات تهريب الأموال؛ وتكريسُ نظام الإفلات من المساءلة والعقاب؛ وتحصينُ الناهبين واللصوص من الزمرة الحاكمة؛ وتأمينُ حمايةٍ لاحقةٍ للكارتل المصرفي من أيّ ملاحقةٍ قضائية من جانب المتضررين في حال التخلف عن الدفع، ولاسيما في ظلّ معلوماتُ عن قُرب صدور أحكامٍ بحقّ مصارف لبنانيّة أمام محاكم أوروبية؛ وتعزيزُ صلاحيات رياض سلامة حاكم مصرف لبنان الذي بدّد خلال 20 شهراً، اكثر من 16 مليار دولار على عمليات الدعم لبعض المواد التي لم يستفِد منها سوى كبار التجار والمهرّبين .

وقد وصف “نادي القضاة” هذا الاقتراح بأنه يشكل شذوذاً قانونياً، عن كلِّ ما هو مألوف من مبادئ دستورية وقانونية وأعرافٍ سائدة، مُحذراً من عواقب إقراره، ومطالباً بقانونٍ يحافظ على أموال المودعين. وبدوره أشار النائب ميشال ضاهر ، إلى أن “القانون استهدف تشريع تصفير خسائر ​المصارف من حسابات المودعين”.

وتجدر الاشارة الى أن مهندس هذا المشروع، هو نائب عن طرابلس اسمه نقولا نحاس الذي قال بعد الضجة الكبيرة التي أثيرت حوله، “إنّ هذا القانون ​هو مطلب أساسي لحماية ​المودعين، وإنّ كل الجهات الأساسية قد شاركت فيه، وإنه هو نفسه الذي دُرس في اللجان النيابية، ولكن تمّ إضافة الشقّ الذي يتعلق بالحساب الجاري، وتعديلات ​صندوق النقد الدولي” . وقد بات معلوماً أن نحاس اقترح تحويل الودائع الدولارية الى الليرة، وتقديم رشوةٍ للمودعين بانخفاض نسبة الهيركات على ودائعهم الى 48% بدلاً من 85% اذا تمّ اعتماد سعر السحب على 12 ألف ليرة بدلاً من 3900 ليرة، ولكن دون تحديد المدة التي سيُسمح للمودع بسحب وديعته بالكامل، ما يقضي على أمل المودعين باستعادة اموالهم التي ستكون في عُهدة المصارف وحاكمية مصرف لبنان.

وبعد تسريب الوثائق التي تظهر حقيقة هذا القانون – الفضيحة المخالف للدستور، ودعوة جمعيات المودعين الناسَ الى الاحتجاج والتظاهر امام قصر الاونيسكو لإسقاطه، تسابقت بالأمس، كل القوى والتيارات السياسية التي نهبت خيرات البلد على مدى سنوات، للتبرؤ من هذا القانون، مستغلةً قرب موعد إجراء الانتخابات النيابية، للدخول في سوق المزايدات الرخيصة، التي تدّعي الحرص على حقوق المودعين، مع أن القاصي والداني بات يعرف أن أفراد العصابة الحاكمة، قد قاموا بتهريب أموالهم الطائلة، رافضين إقرار قانون “الكابيتول كنترول” في بداية الأزمة، الذي من أولى اولياته تنظيم وضبط تدفق الأموال الى خارج البلد، وحصرها فقط باستيراد الحاجات الأساسيّة كالمواد الغذائية والمواد الأوليّة. وكان من نتائح ذلك التلكؤ المتعمّد في اقراره، أن تهاوت القيمة الشرائية لليرة الى قاعٍ لا قعر له؛ وتدنت قيمة الرواتب والأجور، وضُربت الطبقة المتوسطة التي هي صِمام أمان المجتمع؛ وزادت معدّلات الفقر والبطالة؛ وارتفعت أسعار المواد الغذائية والنقل والفاتورة الصحية بشكل جنوني؛ ودقّت المجاعة أبواب اللبنانيين؛ واصبح البلد على حافة انفجار اجتماعي لا مثيل له في كل تاريخ لبنان.

وكمثالٍ فاضحٍ على تلك المزايدات الشعبوية المفضوحة، ما صرّح به النائب ​قاسم هاشم، من أنّ “أيّ إقرارٍ لقانون ​الكابيتول كونترول يجب أن يُبنى على أساس الحفاظ على أموال المودعين، وهو ما أكّدنا في ​كتلة التنمية والتحرير ، على انه حقٌّ مقدّس، ويجب ان يتحمل الجميع مسؤولياتهم. والخسائر تسبّبت بها الدولة ومصرفها ومافيا المصارف، ولا يجوز ان يدفع المواطن ثمن السياسات الخاطئة التي اوصلت البلاد والعباد الى هذه الازمة المالية والاقتصادية”.

نعم .. بعد خراب البصرة، لا يجد ساسةُ لبنان الذين هم في معظهم مالكون للمصارف أو مساهمون فيها، أيّ حرجٍ أو خجلٍ من الدخول في بازار التكاذب على المواطنين، وإدعاء الطهارة والبراءة من دم الشعب اللبناني المنكوب بسببهم. وكلُّ من لا يزال يصغي الى تصريحاتهم أو يصدّق أكاذيبهم، هو إمّا معتوه أو مستفيد.

لقد طار اليوم مشروع ميقاتي – نحاس المتدثر بعباءة صندوق النقد الدولي لتشريع تبديد ما تبقّى من أموال المُودعين، من جلسة المجلس النيابي، ليس بفضل حرص أرباب المحاصصة والطائفية، على حقوق المواطنين التي سرقوها وبدّدوها وتقاسموها فيما بينهم، بل بفضل الضغط الشعبي الذي مُورس عليهم بعد انكشاف خطتهم الدنيئة التي لا تمت الى الإنقاذ بصلة، بل هي مجرد خطة لفتح الباب على المزيد من الاقتراض . ذلك ان وظيفة المافيا على الدوام هي أن تسرق الحقوق، لا ان تحافظ عليها.

السابق
السفارة الأميركية في لبنان تُعلّق على فقدان صلاحية دولار الـ1990.. هل يُمنع التداول به؟
التالي
حكم مشّدد على مدير مكتب مسؤول امني رفيع.. وهذه هي تهمته!