حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: لبنانُ ليسَ دولةً «محتلةً» وإنمّا شعبٌ «مخطوفٌ»!

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

يَطيبُ لقِسْمٍ كبيرٍ منْ خصومِ حزبِ الله، إطلاقَ شعارِ الإحتلالِ الإيراني على سيطرةِ حزب الله، على أغلبية مفاتيحِ القراراتِ السياسيةِ والأمنيةِ بالدولة اللبنانية، ويتمسَّكونَ برفع شعارِ “مقاومة الإحتلال الإيراني”، وإنشاءِ مقاومة مدنية تواجهُ هذا الإحتلالَ وتفرضُ جلاءَهُ عن أرضِ لبنان.

اقرا ايضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: قطار العصفورية!


ويَستندُ جماعةُ “مقاومة الإحتلال الإيراني”، الى حقائقَ معلنةٍ عن الارتباطِ العُضوِّي لحزب الله بإيران، وعن استناده الى دعمها في مأكله ومشربه، وإمداده العسكري وأسلحته وصواريخه و رواتب عناصره، وخطوط تمويله، ويستشهدون بولاء قيادته وطاعتها العمياء، لولي أمرها الفقيه السيد علي الخامنئي، كما يَشرَحونَ تفصيلاً أجندتَهُ العسكريةَ والأمنيةَ، ودورَهُ الإقليمي كذراعٍ في فيلقِ القدسِ التابعِ للحرسِ الثوري الإيراني، ويستنتجونَ بعدَ كُلِّ ذلكَ، أنَّ الشجاعةَ النضاليةَ والإخلاصَ الوطنيَّ، يقتضيانِ تسميةَ ما يعتبرونَهُ حقيقةً بإسمها، وأنَّ أيُّ رفضٍ لإطلاق شعار “مواجهة الإحتلال الايراني”، هو ناتجٌ إمّا عن تواطئٍ مع هذا الاحتلال، وإمَّا نتيجةَ جبانةٍ وخوفٍ، يمنعان هذا الطرف أو ذاك من النطق بالحقيقة وتبنيها.

يَستندُ جماعةُ “مقاومة الإحتلال الإيراني” الى حقائقَ معلنةٍ عن الارتباطِ العُضوِّي لحزب الله بإيران


ويأتي هذا الشعارُ كترنيمةٍ سحريةٍ، تَجَمَّعَ حَوْلَها عشراتُ أو مئاتُ بل آلافُ الأصواتِ السيادية، في الساحة المسيحية وغيرها، وتحاولُ ان ترسُمَ خَطَّ تواصل بين معارك الحرب الأهلية الماضية، التي رفعت فيها “الجبهة اللبنانية” شعارات مواجهة الإحتلال الفلسطيني، ثم قامت أحزابٌ ذاتُ أغلبيةٍ مسيحيةٍ بعد ذلك، برفع شعار الاحتلال السوري، وقد اعتبرَ بعضُها توصيفَ المعركة، ضد نظام الاسد، بمواجهة الوجود او الوصاية السورية، على اثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري، سقفا مُنخفِضاً لا يُلبِّي تطلعاتِ الشارع السيادي ونزعتَهُ الإستقلالية …

ببساطةٍ وسهولةٍ يَرصُفُ هؤلاءُ معاركَهُم المتوالية ب إحتلالاتٍ متتابعة: فلسطينية ثم سورية واليوم ايرانية، من يوافق على هذه السرديةِ، يكون سيادياً شجاعاً، ومن يحاول تبيانَ الفروقاتِ بين كُلِّ وضعيةٍ وأخرى، ويدعو الى إختبارِ تَبَدُّلِ ظروفِ الزَّمانِ بين مرحلة وأُخرى، ومن يرى خصوصيةً في كُلِّ مواجهةٍ عن مواجهةٍ أُخرى، فهو جبانٌ رَعديدٌ مُهادِنٌ، لا يَصلُحُ لمَعركَة السِيَّادةِ ولا لاستعادة قرارِ الدولة اللبنانية.

أيُّ رفضٍ لإطلاق شعار “مواجهة الإحتلال الايراني” هو ناتجٌ إمّا عن تواطئٍ مع هذا الاحتلال وإمَّا نتيجةَ جبانةٍ وخوفٍ


هذا التبسيطُ الشعبويُ لتوصيفِ المعضلةِ البنيوية التي يواجهُهَا لبنانُ، والتي أدَّت الى كارثةٍ هائلةِ الأبعادِ مُتعَدِّدة الوجوهُ وشائكةِ الحلولُ والمعالجاتِ، هذا التبسيط، فضلا عن أنَّهُ لا يستفيدُ من تجاربِ المواجهاتِ الماضيةِ، ولا يستخلصُ عِبَراً من مآسيهَا المُفجِعَة ورِهاناتِهَا الخاسرَةِ، فإنَّهُ يستهدفُ الكسبَ حيث لا فائدةَ من الكسبِ، ويتجنبُ الحشدَ والمواجهةَ، حيت تُجدي المواجهةُ، ويُطلقُ دعوةً لا تُسْمَعُ حيث تكون فائدةٌ لسماعها، في حين أنَّها تُسْمَعُ حيثُ لا فائدةَ من سماعِها.


ولمزيد من توضيح الأمر وتفنيد خطورته، وبلغة السياديين الأشداء، لنعرض ما حدث منذ سبعينات القرن الماضي ولتاريخه؛ فإن مواجهة الاحتلال الفلسطيني (على حد قولهم) وإزالةَ بعضِ المخيماتِ الفلسطينية، التي أُطلقَ عليها، صفة المعسكرات، لنزع طابعها الغالب، كتجمعات سكانية مدنية، لم تنجح، الاّ باستدراج إحتلال إسرائيلي وَصَلَ الى عاصمة لبنان، والاَّ بإستقدام جيشٍ سوري محتلٍ، نسق على مرحلتين؛ مرحلةُ بدايةٍ، لإزالة مخيماتٍ في المناطق الشرقية، ثم نسق ثانية في مرحلة لاحقة لإزالة مخيمات أُخرى في مناطق بيروت وضاحيتها الجنوبية، وتحول لاحقاً الى إحتلال جديد، تتوجب مقاومته، كما توجبت مقاومة الإحتلال الاسرائيلي، الذي تمَّ تسهيلُ حدوثِه، لجلاءِ الإحتلال الأول الفلسطيني…

وفي حضرة التساكُنِ بين الإحتلالِ الإسرائيلي والإحتلال السوري كانت عملية ولادة الإحتلال الإيراني ورعاية نُمُوِّهِ وتعاظُمِ شَأنِهِ وقُوَّتِهِ

وفي حضرة التساكُنِ بين الإحتلالِ الإسرائيلي والإحتلال السوري، كانت عملية ولادة الإحتلال الإيراني ورعاية نُمُوِّهِ وتعاظُمِ شَأنِهِ وقُوَّتِهِ. (التعابير اوردها طبقا ل لغة السياديين)
وقد يكون منصفاً القولُ والاستدراكُ، أنَّ ما تقدم هو توصيفٌ مجتزأٌ وجائرٌ لتاريخِ لبنانَ الحديثِ، ويُمَثِّلُ تحميلاً لطرف واحد مسؤولية كل أحداث الحروب ومآسيها، وهو طرف يحق له أن يقول؛ أنَّهُ كان في موقع الدفاع عن وجوده وحريته، وأن كل ما فعله هو أنَّهُ أراد التشبث بأرضِهِ ووطنه واستعانَ بمن استعان، لكي يبقى ويستمر ويعيش، وان عمليات التهجير والاقتلاع والمجازر قد طالته وكان ضحيتها بقدر ما طالت افرقاء آخرين بل وأكثر.

هل يعدنا أصحابُ شعار “مواجهة الاحتلال الايراني” بتكرار آخر لمآس جديدة أراد كلُّ لبناني نسيانَها؟


والنقاش هنا، لا يستهدف توزيعَ المسؤولياتِ أو تثبيتَ الاداناتِ، أو عرضَ مظلومياتِ طرفٍ هنا أو طرفٍ هناك، النقاش هنا، هو محاولةٌ لاستخلاص الدروسِ والعبرِ، ففي مواجهة كل إحتلال سابق، تم استقدام إحتلال جديد آخر، وفي وداع كل محتل، إرتكبت مجازر تهجير وجرائم حرب موصوفة، فهل يعدنا أصحابُ شعار “مواجهة الاحتلال الايراني” بتكرار آخر لمآس جديدة، أراد كلُّ لبناني نسيانَها؟
الأمر الآخرُ الذي يستوجب التساؤلَ والايضاحَ، أن الاحتلالات السابقة على حد تسمياتكم، كانت فلسطينية ام سورية ام اسرائيلية، تشكلت قواتها العسكرية من جنسيات غير لبنانية، وكان يمكن اجلاؤها وطردها الى بلدان اخرى اوالى بلدانها، واما جنود ما تدعونه “الاحتلال الايراني”، فهم لبنانيون تماما، ولهم عائلات واقارب وفروع وأصول، فكيف سيتم إجلاءُ جيش الاحتلالِ هذا والى اين؟!
وهل انتبه اصحاب شعار ” مواجهة الاحتلال الايراني” الى خطأين قاتلين يصنعهما هذا الشعار الشعبوي؛ الخطأ الاول هو معاملة الشيعة كجالية ايرانية أجنبية، الواجب إجلاءَ مقاتليها لا إدماجهم وإعادة تأهيلهم!

أما الخطأ الثاني فهو صب الماء في طاحونة حزب الله، ومنحه ذخيرة تضاف الى صواريخه، وهو الذي يريد ان يهيأ للمخيال الشعبي الشيعي العام، أنَّ وجودَ الطائفة مرتبطٌ بقوة الحزبِ، وان إضعاف الحزب وادماجه في دولة لبنان، هو تهديد للشيعة وخطر على وجودهم!
من نافل القول ان المعركة هذه، تجري بين السياديين الاشداء والاقل شدة، وليس داخل جمهور حزب الله ومناصريه، بل في مناطق شبه صافية على الصعيد الطائفي، أي في الأقضية ذات الأغلبية السكانية المسيحية، الممتدة من بشري الى جزين، أو في مدن الساحل ذات الاغلبية السنية، وتطال التنافس على ولاء مواطنين مسيحيين في أغلب الأحيان وتستهدف كسب تأييدهم.

من نافل القول ان المعركة هذه، تجري بين السياديين الاشداء والاقل شدة وليس داخل جمهور حزب الله ومناصريه بل في مناطق شبه صافية على الصعيد الطائفي


والسؤال الجوهري هنا، كيف تتقدم معركة دحر “الاحتلال الأيراني” بهذه الاستراتيجية وعبر هذا الاداء السياسي؟ خاصة وانها لا تراعي مزاج الجمهور الشيعي وهواجسه وتساؤلاته! وما هي الخطوات التي انجزت ضمن هذه المواجهة، واي خطوات قادمة مطلوبة؟!

وأول الحقائق في هذا المجال، ان هذا الشعار يستهدف فيما يستهدف جمهور التيار العوني، لاستعادته الى الانحياز لمنطق السيادة اللبنانية، الذي رفعه سابقا في سياساته، كما يستهدف منطق القوات اللبنانية التي انخرطت بالتسوية، التي اوصلت الجنرال ميشال عون الى سدة الرئاسة، وقد فات هؤلاء السياديين ان العربة الفكرية والسياسية التي أوصلت عون الى قصر بعبدا، لم تكن ولاية الفقيه الشيعية فقط، بل وبدرجة اكبر، نظرية “تحالف الأقليات المشرقية” الذي تتربع إيران في قيادته، كما غاب عن تفكيرهم أنَّ مواجهة ايران وهيمنتها على لبنان في البيئة المسيحية، تتلخص اولا وأخيرا في مواجهة منطق “تحالف الاقليات”، ومغادرة منطق “صراع الهويات”، الذي يذكيه الطرح التبسيطي، الذي يجعل من كل الزمن اللبناني، مواجهة لاحتلالات متوالية لغرباء على ارض لبنان… هذا المنطق هو استمرار لمنطق، ساد منذ خلوة سيدة البير سنة ١٩٧٦، وحتى رفع الانخاب في معراب لحظة التسوية الرئاسية…

الفارق جوهري بين مواجهة هيمنة حزب الله على لبنان، انطلاقا من قيم ١٧ تشرين وثورتها المدنية العابرة للمناطق والطوائف، والهادفة الى بناء دولة المواطنة والمؤسسات والكفاءة، وبين منطق اخر يعتبر الوصاية الايرانية احتلالا جديدا تتم مواجهته بنفس شعارات وعدة مواجهة الهيمنات السابقة، ويخوض الصراع كاستمرار للحروب والصراعات الداخلية الماضية.
وبصراحة ووضوح ان تجديد شباب “الجبهة اللبنانية” كما تجديد شباب “الحركة الوطنية” اللتين خاضتا الحرب الاهلية، افكارا وعقائد وهويات وسرديات وحلولا ورؤى واصطفافات وتحالفات، امر لا يمكن الرجوع اليه ولا اعتماده، وكل محاولة في هذا الاتجاه ستكون اضاعة للوقت، وانحرافا عن الطريق الصحيح، ومساهمة مجانية في تحصين الوصاية الايرانية، وتمديد زمن نفوذها وشبكاتها، وأعاقة لاستعادة سيادة لبنان ودولته المخطوفة.

لبنان ليس بلدا محتلا إنما هو وطن مخطوف


وأما الحقيقة الأكيدة أن لبنان ليس بلدا محتلا، إنما هو وطن مخطوف، فالمحتل في القانون الدولي والأعراف، مسؤول عن أمن الناس وسلامة المدنيين وإطعام الشعب، وإدارة شؤون الدولة وتوفير الخدمات، والتعليم والطبابة للمواطنين الذين يخضعون للاحتلال، ولكن في بلد مخطوف، فان الخاطف يُحَمِّلُ بقية دول العالم ومنظماته، مسؤولية القيام بهذه المهام على جميع المستويات، وهو أمر ينطبق على وجود نظام، خطف لبنان لصالح إيران، وتحول اللبنانيون فيه الى ركاب طائرة مخطوفة، وقد رفع الخاطف مسؤولياته عن اطعام اللبنانيين، ويطالب المجتمع الدولي والبنك الدولي باغاثة ضحاياه، كما يطالب مصر والاردن بتأمين الطاقة الكهربائية، ويستند للعراق لتأمين الفيول؛ ودول اخرى لتوفير المساعدات الطبية والانسانية، ويعتمد على اميركا والمغرب وقطر لتموين جيشه واجهزته الامنية.
وواقع الامر في لبنان هو وجود عصابة، تفاوض العالم بعدما حولتنا الى رهائن، بانتظار مفاوضات فيينا و تطورات مأرب و واجتماعات بغداد وليس هناك من يمارس دور الدولة والمؤسسات الرسمية فيها، او حتى الادارة المتعاونة مع المحتل.

ولذلك فان لبنان قدم نماذج غير معروفة في العالم عن قيام الدول ونظام الحكم فيها؛ كمثل أدارة بلد من دون موازنة، وسدود بلا ماء، وشركة كهرباء تنتج العتمة، الى ان قدم نموذجا لوجود حكومة من دون مجلس وزراء. انها طبيعة العصابة الخاطفة ونهجها.

السابق
مجموعة «ن».. صرخة بوجه القضاء إنتصارا لدماء ضحايا المرفأ: «مكملين لآخر نفس»!
التالي
من طبخ الحبوب حتى تغليفها وتصديرها.. هذه أسرار تفشي الكبتاغون في سوريا برعاية حزب الله والفرقة الرابعة !