حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: قطار العصفورية!

حارث سليمان
يخص الناشط السياسي والأكاديمي الدكتور حارث سليمان "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

لم يعد لبنان يشبه اي دولة من دول العالم، فدولته لا تستحق اسم دولة، لان اية دولة تستحق اسمها، يكون لديها حاكمٌ يديرها، وسياسةٌ خارجية تحدد علاقاتها مع دول واطراف الخارج، وقضاءٌ او حكيمٌ، يفصل في نزاعات سكانها، ودولة لبنان لا تملك اي من هذه المقومات التي تمتلكها عادة او امتلكتها اية قبيلة في التاريخ.

لم يعد في لبنان سلطةٌ مهمتُها ادارةُ شؤون الناس، وتسهيلُ سُبُلِ حياتهم اليومية، فلا يوجد مسؤولٌ في أي موقع، يقبل بأن تُوضَعَ على عاتقه، مهمةُ حل أزمة، أيةُ أزمة، مهما صَغُرَتْ، أو قَلَّ شأنُها، كل من تولى منصبا، حَسِبَهُ تَشْريفاً ورِفْعَةَ مَقامٍ فقطْ، دون أنْ يُلزِمَهُ كرسي المسؤولية بالسعي لحَلِّ أزمةٍ أوْ إدارةِ مِرْفَقٍ، أو تسيير خِدمَةٍ عامة، فالمسؤولُ يُسابِقُ المواطن العادي، على التظلم والتشكي والنق من سوء الأوضاع وتفاقم الأزمة.

وكأن الأزمةَ هي فعلُ كارثةِ طبيعية، او زلزال بركان ثار وانفجر لعوامل جيولوجية، او غضب الهي حل بشعب لبنان، وذلك لامتحان صبره واختبار ايمانه، ولا سبيل لرده او تخفيفه او محاولة التعافي والنهوض من مفاعيله المدمرة.

لا احد في لبنان يعتقد ان الوضع جيد، لا أحد في لبنان يخرج للناس ولو كذبا أو دجلاً، ليقول لهم أنَّ ثمة مسارا، ولو بعد حين، لاستعادة الوطن وانعاش الاقتصاد والخروج من الأزمة.

مخالفة القانون فبدل ان تكون تهمة وجريمة تخضع للعقاب اصبحت موضع افتخار منوط بالاقوياء الذين يجعلون من الارتكاب فعل تحد ومباهاة

ومع كل هذا الأسى والمرارة، لا أحد ايضا، يشعر بتأنيب ضمير أو ندم أو خجل، فيقف معترفا، بمسؤولية ولو جزئية عن كارثة، ألَمَّت بشعب بكامله، وأضاعت كل ما جنى وكل ما يملك، وهدَّدَتْ هناءَ أيامِه الآتية، بالفقر والجوع والمرض والذل.

لا احد في لبنان يخرج الى اصحاب الودائع ليقول لهم، هل ستفرج المصارف عن اموالهم! ومتى وكيف سيتم ذلك؟ ومن سيتحمل تكاليف الخسارة في النظام المالي اللبناني، التي وصلت الى أكثر من ٦٤ مليار $ اميركي.

لا احد في لبنان يخرج ليفسر للناس كيف ومتى سيصدر قانون تقييد التحاويل المالية الى الخارج، رغم مضي سنتين على تقييدها دون قانون!؟ وبقاء اصحاب الحظوة احرار في تحويل اموالهم المسروقة وغير المسروقة.

إقرأ أيضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: الاستحقاقات الديموقراطية.. مواجهة واشتباك مع المنظومة وزبائنيتها!

لم يعد في لبنان من رادع للشر والرذيلة او مخالفة القانون والدستور، فممارسة الافعال الشريرة امر علني وقح وسافر، يرتكبه الشرير تحت قرص الشمس، جهارا نهارا، فيما يخجل الاوادم من ادانتها، والرذيلة تجد من يبررها بشتى انواع التبريرات واسخفها.

أما مخالفة القانون فبدل ان يكون تهمة وجريمة تخضع للعقاب، اصبحت موضع افتخار منوط بالاقوياء الذين يجعلون من الارتكاب فعل تحد ومباهاة، يحدث اعجابا بقوة المرتكب وجبروت قدرته وشدة بأسه، وأما انتهاك الدستور روحا ونصا فقد حوّلوه مِراسا معتادا، لمن أُنيطت به، مهمةُ فرض احترامه والسهر على حسن تطبيقه.

لم يعد في لبنان القضاءُ قضاءً، بعد ان توهّم البعضُ، بانه مؤهل لمحاكمة القضاة والحكم عليهم وترشيد سلوكهم وتأنيبهم وتهديدهم، بدل ان يخضع للقضاء ويسلم بأحكامه ويمتثل لمذكراته واستجواباته!

لم تَعُدْ الحياة في لبنان، تُشبه اي نمط حياة في اي وطن آخر، فالتسوق لم يعد يطال قطاعات واسعة كانت مجال استهلاك الفئات المترفة، فانهارت تجارات كثيرة، وتدنى بشكل ملموس استهلاك سلع الرفاهية والموضة والتجميل والكحول وغيرها الخ.

وكانت من نتيجة ذلك إقفالُ مئات الشركات والمصالح والمؤسسات التجارية والسياحية، وانحصر الاستهلاك والتسوق نسبيا، بالحاجات اليومية الغذائية والمنزلية، حيث تتبدى لعبة صيد وتذاكٍ عبثية، بين صندوق الجباية في المتجر، وبين جيوب المواطنين الذين يتابعون شراء الحاجيات، فلا ثبات في ارقام الاسعار بين رفوف عرض السلع وارقام شرائها عند صندوق الدفع، فالأسعار والكلفة حتى في المستشفيات والصيدليات والطبابة، يمكن ان تتغير بين ساعة واخرى، اما أسعار الوقود للسيارات والمنازل فتتغير عدة مرات في الاسبوع…

لا وجود لأية تغطية صحية او استشفائية لأي مواطن، ولا يُقبلُ في اية مستشفى، مريض تغطيه اي مؤسسة ضامنة من مؤسسات الدولة! طبعا لا الضمان الاجتماعي ولا تعاونية موظفي الدولة، ولا صناديق طبابة الجيش والقوى العسكرية المختلفة يمكن ان تؤمن لمنتسبيها استشفاء وعناية، يضاف الى ذلك ايضا، صناديقُ تعاضد القضاة واساتذة الجامعة اللبنانية، والشركات الضامنة لموظفي الميدل ايست ولنقابات المحامين والمهندسين في بيروت وطرابلس، كل هؤلاء ومن يتبعهم لا تَقبلُ المستشفياتُ استقبالهم على حساب صناديقهم الضامنة، لطبابتهم واستشفائهم، ولا تستقبلهم الا بدفع مبالغ نقدية مباشرة ودون خجل.

لا تحسن العصابة المجنونة التي تخطف البلد لا قيادة القطار ولا ايقافه ولا ابقاءه على مساره او خروجه عن سكته!

لبنان اليوم، يشبه قطار سفر كبير بعربات متعددة، وبدرجات فخامة وخدمات مسافرين متدرجة، فيه عربات كانت ارستقراطية باذخة ، وثانية مترفة راقية، وثالثة محترمة ولائقة، ورابعة سياحية خدماتها وافية، وخامسة شعبية كافية، وسادسة تنقل فقراء وعمال واصحاب الاقدام الحافية، وعلى الرغم من انه كان يسير بسرعة كبيرة فقد تم اختطافه من عصابة مجنونة، قتلت سائق القطار ومعاونيه وطاقم الصيانة والخدمات فيه، واكتشفت انها لا تجيد قيادته، ولا التعامل مع تقنيات تسييره المعقدة.

لا تحسن العصابة المجنونة، لا قيادة القطار ولا ايقافه، لتأمين سلامة ركابه، ولا ابقاءه على مساره، ولا منع انقلابه او خروجه عن سكته.

في علاقتها مع من هم داخل القطار، دأبها اخافتهم وترويعهم، واثارة الخلافات في ما بينهم، وتكليف بعض منهم، بقتال بعض آخر، ليكون لها شرف لعب دور الحكم فيما بينهم.

أما بالنسبة لعلاقتها بالعالم خارج القطار، فلها سلوك أولي يتمثل في لعبة يومية، تبتز العالم بها، بحجة إبقاء الرهائن على قيد الحياة، فتتسول مساعدات واغذية واحتياجات، تتقاسم قسما منها وتتنفع بها، وتوزع ما تبقى على الرهائن في المقصورات المخطوفة.

التساكن مع عصابة مجنونة وشريرة لمدة طويلة يصيب الرهائن بمس جنون العصابة ذاته بحيث يغدو لبنان ” قطار عصفورية” منفلت في مسار هائم

اما السلوك الآخر فهو استراتيجي ويتمثل بالمطالبة بفدية تدفع لمشغليها، وبابراز معاناة الرهائن وآلامهم من أجل ابتزاز العالم الخارجي، ودفع فدية باهظة مقابل حرية رهائنها.

الازمة ان التساكن مع عصابة مجنونة وشريرة لمدة طويلة، قد يصيب الرهائن بمس جنون العصابة ذاته، بحيث يغدو لبنان ” قطار عصفورية” منفلت في مسار هائم، فبعد ان ظهر واضحا وعبر سنوات جنون العصابة من خلال خصوماتها وخلافاتها وخطاباتها وارتكاباتها وسخافات صغائرها، وما تقدم عليه من سلوك وممارسات لا تندرج ضمن اي منطق او نهج مسؤول، تتبدى حديثا اعراض انتقال اعراض الجنون الى صفوف الرهائن، ويتبين ان من حسبه الناس اهلا لمواجهة الخاطفين وعصابتهم، في مسيرة انقاذ مرتجاة، اصابته عوارض جنون العصابة وقلة هيبتها، فكانت نتائج نقابتي المحامين في بيروت وطرابلس، فهل من يعتبر!!؟

السابق
نصرالله «يُسقط» الإستقلال على المقاومة..ويتوعد خصومه «إنتخابياً»!
التالي
رحيل سماح إدريس..المثقف الذي رفض اعتبار الكتب مقبرة!