وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: أميركا من المواجهة إلى الإستيعاب..أفغانستان نموذجاً!

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

خروج الولايات المتحدة من أفغانستان وتسليمها طالبان السلطة طواعية، ليس حدثاً يخص الأفغان، بل هو مؤشر على تغير جوهري في سياسات الولايات المتحدة، في التعامل مع دول وشعوب منطقة الشرق الأوسط بأسرها.

فبعد أن تولد لدى الولايات المتحدة شعور بنشوة الانتصار بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وبأن المنظومة الليبرالية باتت هي الوسيلة الوحيدة، لنجاح أي نظام سياسي وشرط لأي ازدهار اقتصادي.  هذا الشعور تمت صياغته صياغات أيديولوجية متعددة، كان أهمها أطروحة فوكوياما، التي أعلن فيها أن التاريخ الإنساني وصل إلى ذروته، وأن المقولة الليبرالية هي مستقره النهائي، لكونها الشكل الأقصى للحرية الإنسانية، والشرط الأساسي لإشباع التوق الإنساني في تحقيق الذات والمصير.

كانت الصياغة الثانية هي أطروحة صراع الحضارات، لصامويل هاننغتون، التي اعتبرت أن المنظومة الليبرالية، لا يمكنها التوافق أو الالتقاء مع المنظومات المغايرة والمختلفة، وفي مقدمها الإسلام. بالتالي فإن الصراع والمواجهة سيكون مآلاً حتمياً في العلاقة بين المنظومة الغربية والمنظومة الإسلامية.

أي علاقة إما أو، ولا مجال للتسوية بينهما، وأي مشترك بينهما هو وهمي وزائف.  هو كلام مؤداه، أن انتشار الليبرالية في العالم، بمقولاتها الفلسفية وهياكلها السياسية وشبكاتها الاقتصادية، لا يمكن أن تعمم نفسها من داخل المجتمعات الإسلامية، بل لا بد أن تفرض فرضاً من خارج هذه المجتمعات، بحكم افتقاد هذه المجتمعات إلى الذهنيات والدينامية المجتمعية، في خلق مسار ليبرالي داخلي. فالقصور الذاتي لدى هذه المجتمعات، يحتم إدخال عناصر ومحركات ومنشطات خارجية، تسهل عملية اللبرلة والدمقرطة في داخلها.

هذا التفكير، تحول إلى تيار سياسي محافظ في الولايات المتحدة الأمريكية، واستطاع النفاذ إلى صناع القرار على مستوى الدولة، التي أخذت تصنف الدول الأخرى، وفق قربها أو بعدها عن المنظومة الليبرالية، وراج توصيف بعضها بالمارقة، ثم وجدت في احتلال أفغانستان والعراق فرصتها، في تحويلهما من دول أصولية واستبدادية، إلى دول ديمقراطية وحليفة. بل ذهبت بطموحها بعيداً، إلى حد التفكير بتغيير الأنظمة الاستبدادية القائمة، إما بالضغط عليها أو معاقبتها أو دعم القوى المعارضة لها.  

كانت تجرية العشرين عاماً كافية لانكشاف خطأ فرضية هاننغتون في افغانستان وأن الديمقراطية لا تحصل بوصاية

هذه السياسة، كانت تفرض حضوراً أمريكياً فاعلاً في المنطقة، عبر بناء تحالفات ودعم موالين وحلفاء لها، وخلق جبهات وفرض عقوبات وإدارة صراع وتدخل مباشر، ما فرض على الولايات المتحدة تكثيف حضورها العسكري، وضخ مالي هائل، مكن السياسة الأمريكية أن تكون المحدد الأول والرئيسي، لأي مشهد سياسي في المنطقة. 

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: لبنان من السياسة إلى طور اللادولة!

كانت تجرية العشرين عاماً، كافية لانكشاف خطأ فرضية هاننغتون، ووهم صناع القرار الأمريكي حينها. وأن الديمقراطية لا تحصل بوصاية ورعاية، بل بتحول جذري في الذهنيات، وأطر العلاقات وبنى الانتاج ومرجعيات القيم، وهي عملية تحول دونها موانع عميقة ومتجذرة، وتتطلب مساراً ذاتياً شاقاً ومرهقاً داخل هذه المجتمعات، لا يمكن اختزالها ببنى فوقية مصطنعة أو شكليات انتخابية رتيبة.

تبين لدى الأمريكيين أن وراء الظاهر الليبرالي والكرنفال الديمقراطي، هنالك حجم تناقضات هائل داخل هذه المجتمعات، لم تتم تصفيتها ولا يمكن لمحتل أن يفككها، ولم تستطع مؤسسات السلطة المصطنعة استيعابها، أو التحكم بها أو تحويلها.  هي تناقضات تنتج شكل انتظامها الخاص، ونمط سلطة يناسبها، قوامها الغلبة والقهر، ليس للحاكم ضد محكوميه فحسب، بل لمكون على مكون آخر، ولقوة على أخرى. فالسلطة ظلت ملكاً خاصاً وحيازة تنتزع من الآخرين بالقبول والإذعان، وليس بالإجماع والتوافق والشراكة.

تسليم الولايات المتحدة السلطة إلى طالبان لم يكن مجرد قرار ظرفي بل هو تحول في اداء اميركا في المنطقة

تسليم الولايات المتحدة السلطة إلى طالبان، لم يكن مجرد قرار ظرفي، بل هو تحول في استراتيجيات الأداء الأمريكي في المنطقة، قوامه التخلي عن التورط المباشر فيها وتركها لمصيرها ولخياراتها الداخلية، والتعامل البراغماتي مع قوى الأمر الواقع فيها، لغرض ضمان استقرار نسبي، يحول دون تصدعات داخلية أو انفجارات، تتطاير شظاياها خلايا إرهابية في الخارج.  أنها سياسة إعادة التموضع من الداخل إلى الخارج، رصد عن بعد وترقب من مسافة ووقوف على الحدود، مع الاستعداد للتدخل بقدر الحاجة في حال خرجت أمور الداخل عن السيطرة.

إنه تحول من التحكم المباشر، إلى الاحتواء الذي يخلي الساحة لأهلها، ولا تعود التفاعلات الداخلية تعني الكثير للأمريكيين، بقدر ما يعنيهم الإيقاع الخارجي لكل بلد، الذي لا بد من ضبطه وتدجينه. بذلك لا تعود معايير الديمقراطية أو حقوق الإنسان، معياراً صارماً في السياسة الخارجية، بل تصبح معايير الأمن القومي والمصالح الاقتصادية الضابطة الأولى، ويصبح استقرار المنطقة وتوازن القوة بين دول المنطقة، الغرض الأقصى للسياسة الخارجية.

التحول الاميركي لن يقتصر على أفغانستان بل سيشمل المنطقة بأسرها بما فيها لبنان وسوريا

هو تحول لن يقتصر على أفغانستان، بل سيشمل المنطقة بأسرها، بما فيها لبنان وسوريا، حيث لمسنا تساهلاً في تطبيق قانون العقوبات على النظام السوري، وتعاملاً سمحاً مع ناقلات النفط الإيرانية القادمة إلى لبنان.

قد يكون لهذا التحول إيجابية كبرى، وهي أنه يترك الفرصة للداخل بأن يخلق واقعه، ويشق طريق انتظامه الخاص. لكن المشكلة هي أن قوى الديمقراطية باتت مكشوفة الظهر، في حين تحشد القوة المعادية والمنافية للديمقراطية، بكافة أسلحتها المشروعة وغير المشروعة، وتحظى بشتى وسائل ومقومات الدعم من الخارج، ما يجعلها معركة غير متكافئة ومعروفة النتائج سلفاً. 

السابق
غضب شعبي على نواب «الثنائي» جنوباً..والبقاع غارق في أزماته!
التالي
نائب في كتلة ميقاتي: باسيل اختار وزراء الرئيس!