وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: لبنان من السياسة إلى طور اللادولة!

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته الإلكترونية.

فات الأوان للحديث عن مرجعية الدولة اللبنانية في إدارة الشأن العام، بما فيه حقها السياسي في حفظ السيادة، أي أن تكون صاحبة الحق الحصري في حمل السلاح. هي صفة اعتبرها ماكس فيبر، عالم الاجتماع الألماني صفة جوهرية للدولة، أي هي صفة ووظيفة غير قابلة للانتزاع ولا يصح التنازل عنها، وحين تتخلى الدولة عن هذه الصفة وما يستتبعها من مهام، تكون الدولة قد تخلت عن جوهر وظيفتها ومسوغ وجودها، ما يجعلها تفقد تباعاً المهام الأخرى، لأنها من متفرعات ولوازم السيادة، والتي من أهمها مرجعية القانون في فض النزاعات أو ردع المخالفين، أو مرجعية الدولة في تدبير شؤون المجتمع وقضاياه وحل أزماته.

تصبح الدولة المتخلية عن سيادتها الفعلية لا الشكلية بحكم الدولة الخاوية المتخمة بموظفيها ومسؤوليها

بالتالي تصبح الدولة المتخلية عن سيادتها الفعلية لا الشكلية، بحكم الدولة الخاوية المتخمة بموظفيها ومسؤوليها، وممثليها المتنفعين من نفوذها وسلطتها ومواردها، وتتحول إلى كيان زبائني، كرنفال انتخابي هزلي، عجز قاتل في كل مجالات الحياة العامة، وانهيار كامل مع أدنى كارثة، مثلما هو حاصل الآن.  أي دخل لبنان في طور اللادولة، منذ أن تنازلت الدولة عن سيادتها، أي عن حقيقتها ومعناها، وما هو حاصل الآن، من كوارث مالية وتفلت أمني وفساد فاق التصور، ليس سوى نتائج طبيعية وحتى منطقية، بمعنى السبب العميق وليس المباشر، لهذا التنازل.

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: أميركا ربحت وأفغانستان خسرت

هو تنازل، عمل حزب الله على انتزاعه من الدولة واحتكار السيادة لنفسه، أي حول السيادة إلى حق وملك خاص له، وسعى إلى تأمين غطاء شرعي أو سياسي لهذا الحق، من خلال عبارات خادعة وملتبسة وحتى متناقضة مثل: ثالوت الجيش والشعب والمقاومة، وأخذ يمنن اللبنانيين، أنه يدافع عنهم ويحمي السيادة، لكنه في حقيقته، ليس سوى دفاع عن استقلالية سلاحه وسيادته على البلد، ليكون له الكلمة النهائية والحاسمة في المجال الأمني والاستراتيجي، ثم تطور هذا الوضع، بحكم تضخم السلاح، وتحويله إلى أيديولوجية سياسية، بأن يكون للحزب، الكلمة النهائية في مجال الحكم وتركيبته، بأن خلق عرفاً سياسياً وقانونياً رديفاً للدستور والقانون المدونين.

حزب الله انتزع السيادة من الدولة وحوّلها إلى حق وملك خاص له وسعى إلى تأمين غطاء شرعي أو سياسي لهذا الحق

لم يلتفت الكثيرون بمن فيهم قوى 14 آذار، الذين مرروا ثالوث الجيش والشعب والمقاومة، أن هذا الثالوث هو بمثابة إقرار ضمني بتنازل الدولة عن سيادتها، وبأنه تقويض لأي أساس، تقوم عليه الدولة الحديثة، ونقض فاضح لمعنى الديمقراطية ومبدأ التمثيل الشعبي. 

فالشعب في مفهوم السياسة المعاصرة، وبحسب الدستور اللبناني، هو مصدر السلطات، أي هو مصدر شرعية أية مؤسسة أو فعل سياسي أو أمني. بالتالي وضع “المقاومة” مقابل الشعب في هذا الثالوث، يعني إخراج المقاومة من أن تكون متكونة من الشعب، أي من كل مكوناته، ومن أن تعود مرجعيتها وشرعيتها إليه، وإسنادها إلى كيان أمني قائم هو حزب الله.  وهنا المفارقة الخطيرة، فالمقاومة التي تتحالف مع الشعب بحسب الثلاثية، يعني أنها لا تكون نابعة منه، أو ترجع إليه، بل تحدث مرجعيتها الخاصة بها والمستقلة والمنفصلة عن الشعب. بالتالي يكون حلف الشعب والمقاومة، عبارة خادعة لإخراج المقاومة من الشعب، وتكون موازية له، أي منافسة له وتساويه في درجة الشرعية، بل باتت حقيقة تفرض نفسها على الشعب، لأن الذين أقروا بهذا التحالف، من موالين ومعارضين، خانوا أمانة ووظيفة تمثيلهم للشعب وتعبيرهم عنه، لأنهم سلبوه حقاً جوهرياً له، لا يقبل الانتزاع وغير قابل للتصرف، وهو أنه مصدر شرعية أي سلطة أو هيئة أو قوة أو ترتيب عام.

أما حلف المقاومة والجيش، فهو مظهر آخر من انتزاع السيادة، لا من الشعب هذه المرة بل من الدولة نفسها. فالجيش هو المؤسسة التي تجسد سيادة الدولة، ويوكل إليها مهمة حفظ السيادة، أي مواجهة أي محتل أو عدوان، ومواجهة أي إخلال بالسلم الأهلي.  هي مهمة لا تقبل أن يشاركه فيها أحد، بل لا يجوز، بحكم أن الدولة بحسب تعبير فيبر هي صاحبة الحق الحصري في احتكار الإكراه المشروع، أي صاحبة الحق الحصري بحمل السلاح. ما يجعل سلاح الجيش، هو السلاح الشرعي الوحيد، الموكل إليه مهمة حفظ السيادة وصونها. هي مهمة لا تقبل أيضاً التصرف أو التنازل أو الشراكة، وحين تتصدى “المقاومة”، الذي هو العنوان التمويهي لسلاح حزب الله، لهذه المهمة وتنتزعها من الجيش وتحتكرها لنفسها، فهي بذلك لا تشارك الجيش مهمته، بل تقيله من أهم مهامه، وبالتالي تنتزع السيادة من الدولة التي هي الصفة الجوهرية لها.

تم تمرير هذا الثالوث، الذي ظاهره رحمة وباطنه عذاب، ظاهره التعاون والتنسيق بين مكونات وطنية متعددة، وباطنه إقالة الدولة من مهمتها الجوهرية، وسلب الشعب خاصيته الأساسية، وهي كونه مصدر شرعية أي فعل أو كيان أو مؤسسة.  معادلة تم تمريرها في سياق الاستثمار السياسي لاحتلال بيروت، وسياق ضعف وتخاذل بل جبن الطرق المقابل، الذي رضي بهذا الثالوث، مقابل شراكة في موارد الدولة أي نهبها، ومقابل مناصب سياسية هشة وهزيلة وعاجزة، بعد أن أفرغ اتفاق الدوحة رئاسة الوزراء والحكومة  من فاعليتها ودورها، ليصبح الحكم الفعلي لقوى الأمر الواقع، وأصحاب اليد الطولى في القدرة الأمنية والعسكرية.  

حلف المقاومة والجيش فهو مظهر آخر من انتزاع السيادة لا من الشعب هذه المرة بل من الدولة نفسها

حين ندخل طور اللادولة، وهو الطور الذي تتنازل فيه الدولة عن جوهر حقيقتها، وأساس وظيفتها أو توكلها إلى غيرها، تبدأ الهويات الفرعية بالظهور، والتي أهمها الهويات الطائفية، ويبدأ الفرد بالبحث عن ملاذات آمنة داخل طائفته، وتبدأ كل طائفة أو منطقة، بإنشاء مناطق نفوذ وإدارات محلية وخدمات ذاتية، تعوض من خلالها عجز الدولة وفشلها وانهيارها، مثلما بدأنا نلمس مظاهرها من بعض المسلكيات والمبادرات.  عندها لا يعود قاموس السياسة والقانون، مرجعاً لتفسير وفهم الأحداث والتفاعلات الداخلية، بل نحتاج إلى قاموس انتربولوجي، لنعرف كيف يكون بإمكان القبائل المجاورة، أن تتعايش مع بعضها البعض بسلام.      

السابق
الفلتان الأمني يتمدد من الشمال إلى الجنوب..قتيل وجرحى بالجملة!
التالي
الوفد اللبناني في دمشق.. هذا ما تم الاتفاق عليه