شريعتي ابرز مفكري النهضة والثورة.. بين العمر القصير والتأثير الطويل

علي شريعتي
بمناسبة مرور 44 عامًا على رحيله؛ و 88 عامًا على ولادته، دار الأمير تصدر خمسة كتب للمفكر علي شريعتي في طبعة جديدة

إلهي علّمني كيف أحيا؛ أمّا كيف أموت فإنّي سأعرفه .. إلهي لا تُنعم عليَّ بفضائل لا تنفع الناس “علي شريعتي”

من منّا لا يعرف علي محمد تقي شريعتي، الذي ترجمت كتبه إلى كلّ لغات الدنيا، بل حتى إلى لهجات محلية كما حصل ويحصل في الهند وأندونسيا..؟ من منّا لا يعرف الرجل الذي أضحت كتبه وأفكاره مصدر إلهام لكلّ ثائر في سبيل العدل والحريّة ومحاربة الخرافة “المقدسة”..؟ من منّا لا يعرف الرجل الذي عُرضت عليه الدنيا ولم يضحِ بالحقيقة من أجل المصلحة ولو علقوه على المشنقة وأذابوا جسده بالشموع؛ بل ألقى في قلوب جلاديه حسرة وإلى الأبد لانهم لم يسمعوا كلمة آهٍ منه..؟ من منّا لا يعرف المفكر الواعي المسؤول والعالم العامل بعلمه حتى دخول السجن لأكثر من ثلاث مرات في إيران الشاهنشاهية، وهو المسلم الشيعي “الوهابي”، “الماركسي” “المُتغرّب” “الرجعي” كما نعته الكثير من مناوئيه، والثائر والمتنوّر و معلّم الثورة الإسلامية كما قال عنه السيّد أحمد الخميني (نجل الإمام الخميني)، وكما يراه طلابه ومريدوه.

اقرا ايضا: شريعتي ابرز مفكري النهضة والثورة.. بين العمر القصير والتأثير الطويل

من منّا لا يعرف الرجل الذي أضحت كتبه وأفكاره مصدر إلهام لكلّ ثائر في سبيل العدل والحريّة

من منّا لا يعرف أنّ العمر القصير (44 سنة) الذي عاشه شريعتي قد أنتج أكثر من ستين كتابًا في سبيل الله والناس؟!.

لا شكّ أنّ علي شريعتي من أبرز مفكري حقبة النهضة والثورة الإسلامية والتحرّر من الاستعمار… بأية صفة يمكنك أن توصّفه؟ قد يستعصي عليك حصره في صفة واحدة؛ أو أن تضعه في إطار معين أو محدود، لكن من السهل استكشاف مدى إبداعه وقدرته على التحرّر من السياق النمطي والبحث الدائم عن النباهة والأصالة والمسؤولية الحضارية.

شريعتي ابرز مفكري النهضة والثورة

علي شريعتي ليس مفكرًا بالمعنى التقليدي؛ بل كان مغامرًا و«مجربًا فكريًا» بتعبير البعض، بحث دائمًا عن الأدوات والأفكار التي تعينه على كسر حاجز الظلمات وعبور بحر التيه الذي جالت فيه أمته الواقعة بين استعمارين –داخلي وخارجي- دون أمل من قائد إلى أرض فكرية حضارية صلبة تقف عليها؛ أو ستقفُ عليها.

شعلة من نار وقبس من نور

ولد علي شريعتي في قرية كاهاك من قرى مزينان التابعة لمحافظة خراسان الإيرانية في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1933م. لأسرة متديّنة ناشطة في الشأن العام ،فقد كان أبوه محمد تقي شريعتي أحد رجال الدين المجدّدين والمفسِّرين للقرآن الكريم في تلك الناحية، وقد اجتهد الوالد في محاربة التقاليد والطقوس والممارسات والخطابات الخرافية التي غرق فيها (التدين الشيعي) في تلك الفترة. اقتبس الولد من أبيه جذوة من نار هذا السعي، وقبسًا من نور هذا الطريق، فكان طالبًا مسلمًا حركيًا نشيطًا، حيث انضم إلى جناح الشباب في الجبهة الوطنية وهو ما يزال بعد فتى، ثم بعد سقوط حكومة مصدّق، انضم إلى حركة المقاومة للشاه؛ فاعتقل ستة أشهر.

كان شريعتي ما يزال طالبًا في كلية الآداب حين أسّس مع آخرين اتحاد الطلبة المسلمين، ثم بعد تخرجه حصل على منحة دراسية لفرنسا في جامعة السوربون العريقة. وفي فرنسا بدأت إحدى أخصب المراحل في حياته، وهي ما اصطلح عليها بـ “الحقبة الباريسية” من حياته القصيرة.

في فرنسا، لم تكن لتلك النار التي اشتعلت في مشهد أن تخمد، ولا لذلك النور أن ينطفئ، فقد احتك شريعتي مباشرة بالحِراك النشيط المضاد للاستعمار الذي شهدته باريس في تلك الفترة، فتعاون مع الجبهة الوطنية لتحرير الجزائر، وقرأ لـ فرانز فانون وترجمه إلى الفارسية في “معذبو الأرض”، ثم أسّس مع طلبة إيرانيين حركة “حريّة إيران” في الخارج، وتعرّف على فيلسوف الحريّة الفرنسي سارتر الذي قال في إحدى رسائله: “أنا لا أتّبع دينًا، ولكن لو اتبعت؛ لاتبعت دين علي شريعتي”.. أيضًا تعرّف شريعتي إلى غيره من أكاديميي ومفكري ومستشرقي تلك الفترة، مثل لويس ماسينيون، جاك بيرك، وعالم الاجتماع جورج غورفيتش، وقد أدّت مشاركته في إحدى المظاهرات للتضامن مع الرئيس باتريس لومومبا، أوّل رئيس منتخب للكونغو إلى اعتقاله لأيام، واعتقل ثانية في باريس أثناء مشاركته في مظاهرة دعم للجزائر، وقد أخبرني أستاذي الدكتور حسن حنفي صديق وزميل شريعتي في الدراسة /جامعة السوربون، قائلًا: “نحن كنّا نقرأ التاريخ في القاعات، بينما شريعتي كان يصنع التاريخ الحقيقي في المظاهرات وفي تجمّعات الحي اللاتيني”.

بعد حصول شريعتي على درجة الدكتوراه، قفل شريعتي عائدًا إلى إيران حيث فتمّ اعتقاله على الحدود وأُودع السجن فترة من الزمن ليعمل بعدها مدرسًا في جامعة مشهد المشهورة.

شريعتي الذي لم يكتفِ بدوره التثقيفي والتعليمي في الأطراف، فاتجه إلى المركز في طهران، ومثّل مع الشيخ مرتضى مطهري جذوة حسينية الإرشاد التي كانت الخزان الفكري للثورة وللتعبئة الروحية والفكرية للشباب، فألقى شريعتي فيها محاضراته التي مثّلت خلاصة فكره في القضايا الاجتماعية والسياسية والدينية المختلفة، وجذبت إليها عشرات الآلاف الحضور، وتمّ طباعة محاضراته وتوزيعها في كافة أنحاء إيران وخارجها، وقد تجاوزت عشرين مليون نسخة بشكل إجمالي خلال ثلاث سنوات.

السلطات الإيرانية الشاهنشاهية تقلق من هذا الانتشار الواسع والتأثير الكبير والمفاجئ لشريعتي فدخل السجن عدّة مرات

السلطات الإيرانية الشاهنشاهية تقلق من هذا الانتشار الواسع والتأثير الكبير والمفاجئ لشريعتي فدخل السجن عدّة مرات كان آخرها بعد إغلاق حسينية إرشاد؛ فاعتقلته مع والده (محمد تقي) ومرتضى مطهري وبعض طلابه لمدة عام ونصف، ثم أفرجت عنه بعد تزايد الضغط الشعبي؛ وتدخّل المسؤولين الجزائريين وعلى رأسهم وزير الخارجية يومها عبد العزيز بوتفليقة الذي أصبح رئيسًا للجزائر فيما بعد، بعدها تمكن من مغادرة البلاد، حيث لقي حتفه بعد ثلاثة أسابيع في لندن بتاريخ 19 حزيران/ يونيو 1977م. وقالت السلطات البريطانية إنّه توفي إثر نوبة قلبية، ولكن الرأي السائد أنّ جهاز السافاك (مخابرات الشاه) هو الذي اغتاله.

وبسرعة ملفتة بادر الإمام موسى الصدر بالتنسيق مع المعارضة الإيرانية بإرسال حسن حبيبي (نائب رئيس الجمهورية لاحقًا) وكمال خرّازي (وزير خارجية إيران لاحقًا) إلى لندن، ويُحضروا جثمان شريعتي إلى سورية لدفنه في جوار السيدة زينب كي لا يستغل شاه إيران مراسم دفنه وجنازته فيما لو دفن في إيران.

وهكذا انطفأت حياة علي شريعتي على مستوى الجسد، لكن جذوته لم تنطفئ؛ ونوره لم يخبُ، فقد هيأت أفكاره وكتبه ومحاضراته الأرض في إيران لقيام ثورة من أعظم الثورات في التاريخ والتي أطاحت بنظام الشاه محمد رضا بهلوي وذلك بعد سنتين من وفاة شريعتي.

ورغم مرور 44 عامًا على رحيله، و 88 عامًا على ولادته، إلّا أنّ أفكاره عن المثقف والدين والمجتمع والاستعمار وغيرها ما زالت درسًا صالحًا لمجتمعاتنا المنكوبة، والتي في أمس الحاجة إلى الأسس الفكرية والأدوات المعرفية التي تنقذها من أوضاعها الراهنة، على أمل خير قريب.

انطفأت حياة علي شريعتي على مستوى الجسد، لكن جذوته لم تنطفئ؛

وفيما يلي استعراض سريع لخمسة من كتب شريعتي التي أعادت اليوم إصدارها دار الأمير بحلّة جديدة احتفاءً بذكراه، وتأتي هذه الكتب ضمن سلسلة الأعمال الكاملة لـ شريعتي التي وصلت إلى 32 كتابًا أصدرتها دار الأمير في بيروت منذ العام 1992م.

1/ بناء الذات الثورية

يعتبر شريعتي أنّ الثورة ليست مجرّد نقطة انفجارية في حياة الإنسان والمجتمع، إنّما هي حركة بنائية متجدّدة يتمّ بناؤها بالكدّ والمكابدة، فمن الصعب أن تظلّ مخلصًا للثورة وطريقها ما لم تكن ثوريًا قبلها في الأصل.

وأن تبقى مخلصًا للثورة؛ يعني تبني ذاتك وتكافح في سبيل هذا البناء، هكذا يلخِّص شريعتي الأمر، وهذا البناء وهذه الثورة إنّما هي انعتاق للجوهر الإنساني من حتميات الجغرافيا والتاريخ والمجتمع والبيولوجيا، هذا الانعتاق لا يكون كاملًا بطبيعة الحال وإلّا كان انفصالًا وتشظيًا، فهي مسؤولية الإنسان في أن يقرّر ويرتضي لنفسه مصيره الذي يرى نفسه أهلًا له.

كما يرى علي شريعتي لفكرة بناء الذات ثلاثة مبادئ لا تكاد تخلو منها ثقافة أو حضارة، وهي: المعرفة الوجدانية، والسعي إلى العدل والمساواة، وأخيرًا التوق إلى الحرية.

وهنا يكمن دور الأيديولوجيا بالنسبة إلى علي شريعتي، وهو أن ترسم طريقًا موصلًا من المعرفة الوجدانية إلى الحرية مرورًا بمجتمع عادل، هذا الطريق في الأيديولوجيا – الإسلامية تحديدًا – يتكوّن من ثلاث ممارسات رئيسية تسهم في تكوين الذات الثورية، وهي: العبادة والعمل والنضال السياسي والاجتماعي.

2/ مسؤولية المثقف

لنا أن نعتبر كتاب «مسؤولية المثقف» إحدى الركائز الأساسية التي انطلق منها مشروع علي شريعتي، والتي ستؤثر على شكل كل ما تلاها من كتب ومحاضرات وأفكار.

يكمن دور الأيديولوجيا بالنسبة إلى علي شريعتي وهو أن ترسم طريقًا موصلًا من المعرفة الوجدانية إلى الحرية مرورًا بمجتمع عادل

تنبع فكرة الكتاب من التفريق الأوّلي الذي اختطه شريعتي بين ما سمّاه المثقف الأصلي والمثقف المقلِّد، المثقف الأصلي هو المثقف الأوروبي الذي نشأ في كنف الطبقة البرجوازية الأوروبية، التي عانت في بداياتها من استبداد الدين والسلطة، فخدمها هذا المثقف بأفكاره وأطروحاته وتفاعله مع مشاكلها.

أمّا المثقف المقلِّد فهو الذي تمّ استنساخه على نموذج المثقف الأوروبي في حضارات وسياقات مختلفة في الشرق والغرب، ويبقى هذا المثقف المقلِّد شاذًا في موضعه من المجتمع الذي لم ينتجه ويبقى غير قادر على التفاعل مع قضاياه، ما لم ينتج أدواته الخاصة ويتحرّر من أصل التبعية الثقافية التي اصطنعته.

هذه هي المقدمة التي ينفذ منها علي شريعتي إلى ضرورة دور المثقف العضوي والمثقف المنتج محليًا، فالتقدم والإنتاج الاقتصادي والحضاري؛ لا بدّ وأن يسبقه إنتاج متقدّم على مستوى الأفكار والثقافة، وهو هنا يجادل تحديدًا ضد النزعة الحركية التي تقول إنّه قد انتهى وقت الكلام وحان وقت العمل.. حيّا على خير العمل. وهنا، يرى شريعتي أنّ ما سبق لم يكن كلامًا ينبني عليه عمل، إنّما بدايات وعي بالأزمة التي تمرّ بها الأمّة، ويجب أن يتبع هذا الوعي اشتباك معرفي وثقافي ودعوي يهيئ الأرضية الملائمة لعمل حقيقي ومنتج في سبيل الحضارة. فالمثقف – مثل نبيّ بلا نبوة – يسعى بين الناس بوظائف النبوة؛ وعليه أن يتحمل التبعات ولو كلفته حياته.

3/ النباهة والاستحمار

يعتبر هذا الكتاب من الكتب الأكثر شهرة لعلي شريعتي، وهو تعميق لطرحه السابق في كتابه مسؤولية المثقف، ولكن هنا يتوسّع علي شريعتي في قضية «نسبية القضايا الثقافية»، أي أنّ القضية الثقافية التي تطرح في سياق اجتماعي ما قد تؤدي لتقدمه أو حلّ مشكلة مستعصية بالنسبة له، هي نفس القضية عندما تطرح في سياق اجتماعي آخر قد تكون مدمِّرة لأنّها مفتقدة للدافع الاجتماعي والأولية.

يبرز هنا مصطلح «الاستحمار» كمضاد للنباهة والأصالة والإبداع، وهي الصفات التي تكون الذات الفاعلة في المجتمع وتجعله كيانًا مستعصيًا على الاستبداد والاستعمار، حين تختفي هذه الصفات يبرز الاستحمار كضدٍّ مناسب لنشوء الاستبداد.

قد يبدو الاستحمار مصطلحًا طريفًا أو مستهجنًا، ولكنّه معبِّر بشدّة عن سياسة أو نمط تاريخي وحديث

قد يبدو الاستحمار مصطلحًا طريفًا أو مستهجنًا، ولكنّه معبِّر بشدّة عن سياسة أو نمط تاريخي وحديث يتمّ استخدامه لصرف المثقف والذات الثورية عن التفاعل الجاد مع قضايا المجتمع. وتكمن فاعلية هذا الاستحمار في كونه يتعمّد الانطلاق من أرضية أخلاقية، أي أنّه يطرح قضايا ومسائل قد تكون مشروعة أخلاقيًا ودينيًا؛ ولكنّها ليست ذات أولوية اجتماعية.

كأن يندلع حريق في بيتك؛ فيهرع إليك أحدهم قائلًا: “هيّا إلى الصلاة والعبادة”، فمهما بدت هذه الدعوة أخلاقية ومقدّسة إلّا أنّها تنطوي على شرٍّ كامن وماحق، لأنّ الانشغال (ولو كان مقدسًا) بغير إطفاء الحريق هو نوع من أنواع من الاستحمار المؤكد.

كتب شريعتي التي أعادت اليوم إصدارها دار الأمير بحلّة جديدة احتفاءً بذكراه

4/ التشيع الصفوي والتشيع العلوي

وهذا الكتاب لا يقل شهرة عن سابقه، وفيه من الجرأة الفكرية ما يكفي لأنْ يكون محل جدل حتى الساعة، فإذا كان النقد الثقافي ومحاولات التأسيس هي الأطر التي يتشكّل منها فكر علي شريعتي، فنقده للحوزة الدينية وللتدين الشيعي السائد في إيران في ذلك الحين؛ كان تفاعله الحقيقي داخل هذه الأطر، وهذا ما أشار إليه السيّد علي خامنئي في مقابلة أجريت معه، فيقول ” أود هنا أن أنقل لكم خاطرة جرت عام 1347 هـ. ش (1969م) أي في السنة الأخيرة من عمر جلال آل أحمد (مفكر ايراني)، حيث جاء المرحوم آل أحمد الى مشهد فجمعتنا وإيّاه جلسة مُشتركة كان من حاضريها بالإضافة الى آل أحمد المرحُوم شريعتي وعدد من الأصدقاء، حين وصل الحديث الى عُلماء الدين وكان يُعبّر عنهم يومذاك بالحوزة العلمية، التفت المرحوم آل احمد إلى شريعتي مُتسائلًا لماذا تنتقد الحَوزة العلمية بكثرة ولا تنتقد مُثقفينا .. هلم وانتقد مثقفينا أيضًا !! فأجاب المرحُوم شريعتي بجواب يمكن أن نتلمّس من خلاله حقيقة موقفه في التمييز بين (الرُوحانيين) كموقع وحالة، والرّوحانيين (علماء الدين) كأشخاص، فقال شريعتي: “إنّ سبَب تأكيدي في نقدِ الحوزة العلمية يعود إلى أنّنا ننتظر منها الكثير، بينما لا ننتظر شيئًا من نُخب مثقفة ولدت في أحضان الثّقافة الغربية .. الحوزة العلمية قاعدة أصيلة نأمل منها أن تُقدم الكثير، وحين تتخلّف عن العطَاء في مقام العمَل فإنّنا نمارس النقد”**.

كان شريعتي مسلمًا متدينًا لا يرى نهضة دون الإسلام،

لقد كان شريعتي مسلمًا متدينًا لا يرى نهضة دون الإسلام، ولكنّه أراد تخليص التشيّع السائد في بلاده من نزعتين أساسيتين، النزعة الأولى وهي الخرافة والتقاليد، ولخص ذلك بقوله “إنّ مبادئ الدين التي في الكتب غير تلك المطبَّقة على الأرض”، وهو هنا يسحب البساط من تحت أقدام المثقفين الذين لم يتوانوا عن مهاجمة الإسلام واتهامه بأنّه سبب التخلّف استنادًا على هذه الخرافات وتلك التقاليد. إذًا، يدعو شريعتي إلى إعادة اكتشاف الإسلام ومعرفته، وهي القضية التي خصّص لها مجموعة أخرى من المحاضرات وصدرت في كتاب تحت عنوان “معرفة الإسلام”، وهو الجزء التاسع من سلسلة الأعمال الكاملة العربية.

في كتاب التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي، استخدم شريعتي أدواته الفكرية والأكاديمية والمعرفية – التي نلحظ فيها للوهلة الأولى توجهًا يحاكي-الماركسية- كما رآها البعض، وربّما اعتمد قليلًا على التحليل الطبقي-، ليحاكي جيل الشباب الذي كان متأثرًا بالماركسية من جهة؛ وبغيرها من المناهج الغربية من جهة أخرى، فاستخدم شريعتي هذه المناهج ووظّفها في تفنيد ما أطلق عليه “التشيّع الصفوي”، أي التشيّع المستعار الذي خدم سلطة الدولة الصفوية في مواجهة المدّ العثماني.

وهنا، يحاول شريعتي، رغم كونه شيعيًا متدينًا، إنصاف الدولة العثمانية التي اعتبر أنّها قامت بدور كبير في صدّ الحملات الصليبية والاستعمارية في أكثر من محطة تاريخية.

يحاول شريعتي، رغم كونه شيعيًا متدينًا، إنصاف الدولة العثمانية التي اعتبر أنّها قامت بدور كبير في صدّ الحملات الصليبية والاستعمارية

فيرى شريعتي أنّ التشيع الصفوي سطا على أهم الأسس التي قام عليها التشيّع العلوي الأصلي وقام بتحريفها وتغيير معناها، وهي: العترة والإمامة والعصمة والتقيّة والسنّة والتقليد.

ويتّبع شريعتي منهجًا تشريحيًا ليقرّر الفرق بين هذه المفاهيم عند كلّ من نوعي التشيّع، ويرى أنّ الدولة الصفوية حرّفت هذه الأصول لأغراض الإخضاع السلطوي والسياسي، وهو يُشبِّهها بالدولة الأموية التي حرّفت مبادئ المذهب السُّني لتبرّر السيطرة على مقدرات البلاد والعباد باسم المقدّس “الديني”.

5/ مسؤولية المرأة

أمّا قضية المرأة بالنسبة لشريعتي هي المثال الأنسب الذي يشرح منهجه الفكري والثقافي. في كتابه «مسؤولية المرأة» يطبّق شريعتي عمليًا نقده للدين التقليدي السائد ونقده للتشيّع الصفوي ونقده للمثقف المزيّف، ويشرح طريقه لإعادة اكتشاف ومعرفة الإسلام والتشيّع كأساس يقوم عليه مشروعه الحضاري.

ويعتبر شريعتي أنّ المرأة -في عهده- تقع تحت نيرين؛ نير الاستبداد باسم الدين والتقاليد التي هي ليست من الدين في شيء، وهي امتداد لميراث العبودية والسلطة الأبوية، ونير المفاهيم الثقافية الغربية التي ليست سوى امتدادًا للنزعة البرجوازية في نشر ثقافة الاستهلاك والجنسانية لتبرير وتهيئة الأرضية لتمدّدها الإمبريالي.

وفقاً لشريعتي، فالطريق الحقيقي للمرأة هو الاقتداء بـ “فاطمة الزهراء”، والتعلّم منها في كل أحوالها،

ووفقاً لشريعتي، فالطريق الحقيقي للمرأة هو الاقتداء بـ “فاطمة الزهراء”، والتعلّم منها في كل أحوالها، ويرى أنّ هذا هو الطريق الحقيقي لتحرير المرأة من نير التقاليد التي خالطت الدين حتى أصبحت منه حينًا، وأصبح منها أحيانًا.

ختامًا، قد تختلف مع شريعتي أو توافقه، ولكن السؤال الأهم، بعد 44 عامًا على رحليه، و88 عامًا على ولادته لا تزال كتبه وأفكاره حاجة ملّحة خاصة لجيل الشباب؛ فلماذا بعد كل هذه السنوات لم نستطع انتاج وإنجاب شريعتي آخر؟!.

*كاتب لبناني، مدير عام دار الأمير في بيروت – دكتوراه في الفلسفة

.المصادر:

**مقابلة مع السيّد علي الخامنئي، منشورة في مجلة الوحدة، العدد 162، رجب 1414 هـ 1994 م. ص 36 ـ 37.

1: كتب شريعتي: بناء الذات الثورية، مسؤولية المثقف، النباهة والاستحمار، التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي، مسؤولية المرأة، علي شريعتي، دار الأمير، بيروت.

2: انظر، مقالة “عصام حمزة”، موقع “إضاءات”، تاريخ 23/11/2016 (بتصرّف). أيضًا مقدمة ” محمد حسين بزي ” لكتاب هبوط في الصحراء لشريعتي، (قصتي مع شريعتي)، دار الأمير، بيروت.

السابق
تحية حبّ لروح جورج حاوي
التالي
 نجل نائب سابق «يدفع» موكلته لكسر إضراب المحامين!