وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: لبنان ما بعد اتفاق الطائف

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

قبل أكثر من عام، كان الحديث عن صيغة دستورية جديدة بديلاً من اتفاق الطائف، ضرباً من الفرض المستحيل أو الخيالي.  فاتفاق الطائف كان بمثابة مُنجز تاريخي أخرج لبنان من حرب أهلية دامت لأكثر من ثمانية عشر عاماً، ووضع خارطة طريق للانتقال إلى نظام لا طائفي.

حوى اتفاق الطائف بداخله ثغرات أكثر من أن تحصى، وبقي الكثير من بنوده الأساسية معطلاً ومغيّباً، بخاصة التمثيل النيابي خارج القيد الطائفي وتأسيس مجلس الشيوخ، إضافة إلى مشكلة الوصاية السورية، التي كانت ببعض صورها أسوأ من احتلال أو غزو دولة لدولة أخرى.

اقرا أيضا: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: ثورة لبنانية غير منجزة!

رغم كل ذلك، فقد كان اتفاق الطائف حينها أفضل الممكن محلياً وإقليمياً ودولياً.  وقوبل برضى لبناني عام، لا لأنه يلبي طموحهم السياسي والاجتماعي، إنما لأنه طوى صفحة الحرب الأهلية التي باتت متخمة بالموت والألم والدمار والعبث واللامعنى. وهو ما يفسر ضمور الخطاب الثوري والتضامنات الراديكالية بعد اتفاق الطائف، وغلبة الطابع الإصلاحي والتسووي على النشاطات السياسية والجهود الثقافية وانطلاق ورش البناء والنهضة.  

لم يكن المقصد من اتفاق الطائف تأسيس عقد اجتماعي جديد بقدر ما كان الغرض منه الخروج من الحرب

تجزئة السلطة وتفتيتها

لم يكن المقصد من اتفاق الطائف تأسيس عقد اجتماعي جديد، أو وضع لبنات دولة بمعناها الحديث، بقدر ما كان الغرض منه الخروج من الحرب، بوضع قواعد اشتباك جديدة تنقل الصراع من الشوارع والأزقة إلى السياسة والمؤسسات.  ما يعني أن الطائف لم يطو صفحة ويفتح صفحة جديدة في سياق الانتظام السياسي اللبناني، بقدر ما تسبب المنطق التسووي بداخله إلى إعادة إنتاج التناقضات نفسها المنتجة لصراعات متعددة، لكن بأطر جديدة وقواعد اشتباك مختلفة.  ما فعله الطائف أنه وبدلاً من الفصل بين السلطات، الذي هو ابتكار مونتسكيو للحدّ من استبداد السلطة المركزة، فقد تم تجزئة السلطة وتفتيتها، لتنشأ ثلاث سلطات متوازية لكل منها سيادتها ومجال نفوذها الخاص بها. وبدلاً من، حسم سيادة الدولة بصفتها المبدأ الجوهري لحقيقتها، فقد رسخ الطائف سيادات متعددة هي سيادة الطوائف، التي تحولت إلى كائنات مقفلة تملك صلاحية حصرية في تقرير وإدارة وحتى تنظيم شؤون المنتمين إليها.

وهو أمر كثّف العزلة بين الفرد والدولة، وضيّق حيّز الفضاء العام المتقوّم بمنطق المواطنة، وعزز علاقات الزبائنية داخل كل طائفة، وأسهم في تحويل السياسة من ساحة تنافس على إدارة الصالح العالم إلى ساحة صراع على المكاسب والمنافع الطائفية والمصالح الخاصة.


الطائف سهَّل إنتاج أمراء حرب ومهندسي صراعات وذهنيات غلبة تمنع نشوء مجتمع ذي هوية جامعة


ما فعله اتفاق الطائف أنه سهَّل إنتاج أمراء حرب ومهندسي صراعات وذهنيات غلبة، لا تقوض الدولة وساحات المجال العام فحسب، بل تمنع نشوء مجتمع ذي هوية جامعة وراء التكوينات الطائفية. وتعزز الزبائنية في علاقة الرمز والقوى السياسية بأفراد المجتمع، وهي في حقيقتها تنازل كامل من الجماعات والأفراد عن حقهم السياسي، مقابل خدمات ومنافع تقدمها القوى والقيادات السياسية، ليصبح أساس العلاقة مع هذه القوى علاقة ولاء شبه مطلق مقابل خدمات ومنافع، لا علاقة مجال عام لممارسة الفعل الإرادي الحر.  

افتعال الانهيار الشامل 

أنتج الطائف نمط حكم تشاركي يجعل معها الديمقراطية بقيمها وإجراءاتها ممتنعة.  فالحكم التشاركي يقوم على تفتيت المركز السياسي الذي هو الدولة، وإنشاء مركزيات متعددة بتعدد الطوائف التي تحولت وظيفياً إلى مجموعة قبائل ذات تكوين مغلق تأسر أعضائها والمنتمين إليها بداخلها، وتلغي مفهوم الدولة بمعناها الحديث، لأنها لا تعود تقوم على قاعدة حقوق وواجبات ذات مباديء كليّة، بل تقوم على خصوصيات متعددة بتعدد الجماعات لكل منها حكمها وقواعدها ومبادئها الخاصة.  تأسس مع الطائف نظام سياسي ينتج في داخله ما ينفيه ويقوّضه، بحيث تكون لحظة السقوط والنهاية مسألة وقت، كان الإنهيار الاقتصادي الراهن مؤشره الجليّ.  هي لحظة التقطتها قوى الأمر الواقع نفسها وعملت على تسريع حدوثها تمهيداً لإعادة بناء تسوية أخرى وفق قواعد اشتباك جديدة تنسجم مع خارطة القوى الجديدة والمعطيات الإقليمية والدولية التي باتت مختلفة عن معطيات الزمن الذي أنتج اتفاق الطائف.هذا يفسر إمعان هذه القوى في افتعال انهيار اقتصادي شامل، وتفكيك مؤسسات الدولة والتعطيل المتعمد للسلطة التنفيذية وتأسيس مؤسسات رديفة تكون بديلة عن مؤسسات الدولة وممارسة الحكم الذاتي بطريقة في أكثر من منطقة، وخلق محميات أمنية واقتصادية محظورة على الدولة نفسها. وهي جميعها ممارسات لا تفسر إلا بمسعى ضمني حيناً وعلني حيناً آخر لتأسيس صيغة دستورية جديدة تترجم موازين القوى الجديدة.

أنتج الطائف نمط حكم تشاركي يجعل معها الديمقراطية بقيمها وإجراءاتها ممتنعة


من المؤكد أن الصيغة الجديدة التي ستكون قوى الأمر مرجعياتها لن تُدخل لبنان في الدولة، ولن تحيي مرجعية القانون، بل لن تنهي منطق الغلبة وذهنية الحرب ولو في الخطاب والأداء وأسلوب التعبئة، بل ستكون بمثابة دورة جديدة من الصراعات والتوترات والغزوات المتبادلة تطحن بداخلها أجيالاً جديدة تستدرجها عبر وعود كاذبة وأيديولوجيات مزيفة. 


المفارقة أن سقوط النظام القائم لا يستلزم بحال نهاية القوى الممسكة بالقرار السياسي، بحكم أن بقاءها ونفوذها لا يقومان على قاعدة شرعية أو قانونية، بقدر ما يقوم على شبكة النفوذ والولاءات التي انشأتها على هامش الدولة وعلى حسابها. ما يعني احتفاظها بالقدرة على إنشاء وضع سياسي جديد بقواعد جديدة تكون قادرة على الإمساك بخيوط الوضع الجديد والتحكم بمساره.

لا تعني الثورة السعي لإزاحة قوى السلطة القائمة فحسب، بل تعني أيضاً وضع قواعد لعبة جديدة


في الوقت الذي تسارع فيه قوى السلطة الحالية إلى تأسيس انتظام سياسي جديد يضمن لها حضوراً ونفوذاً مستقبليين، فإن نشاط قوى التغيير ودعاة الثورة لم يخرج من  دائرة الإحتجاج وإصدار بيانات الإدانة وسلوك ردات الفعل وإطلاق مبادرات إنشائية مرتجلة لم تلتقط جدية اللحظة التاريخية بضرروة التغيير الجذري، ولم ترتق إلى مستوى انتزاع زمام المبادرة من قوى السلطة وإطلاق مسار تغييري شامل لا يطوي صفحة النظام القائم فحسب بل يخرج لبنان من كهوف القبيلة، وآفة الهويات الجزئية القاتلة، ووهم الخلاص عبر القيادات الملهمة.

ماذا تعني الثورة؟


لا تعني الثورة السعي لإزاحة قوى السلطة القائمة فحسب، بل تعني أيضاً وضع قواعد لعبة جديدة وإنتاج ذهنيات تحول دون إعادة إنتاج قوى وقيادات جديدة على شاكلة القوى والقيادات الحالية.  ليست الثورة فعل إصلاح أو تقويم لواقع قائم، بل هي فعل خلق لواقع جديد.   

السابق
وزير الصحة يعلن عن كمية لقاح كورونا القادمة الى لبنان
التالي
بالصورة.. مغتربة لبنانية تبادر بتنظيف شاطئ خلدة بمفردها: «لأننا ضيوف لا ملّاك»