وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: ثورة لبنانية غير منجزة!

وجيه قانصو
يخص المفكر والباحث والأكاديمي الدكتور وجيه قانصو "جنوبية" بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع و منصاته الإلكترونية.

حصل خلال عام تحولات واضطرابات واحتجاجات في لبنان، لنسمها “ثورة”، اتخذت عمقاً شعبياً كاسحاً، غلب على أكثرها التعبير السلمي.

ما يشي بأن الأمور وصلت في لبنان إلى حد انقطاع التواصل بين الدولة والمجتمع، وأن أدوات الإقناع التي تعتمدها الدولة عادة أخفقت في استعادة الوضع إلى مساره الاعتيادي الهادئ.

ما تسبب بإحداث اختلالات خطيرة في مسلمات الاستقرار ومباديء المشروعية السياسية، وزعزعة في نقطة التوازن التي كانت تضمن قبولاً عاماً للسلطة في ممارسة مهامها. 

ما حصل كان كسراً وإنهاء لصلاحية شرعية قائمة، ومسعى مجتمعي للبحث عن أو تأسيس أو المطالبة بقواعد مشروعية مختلفة تنسجم مع التوقعات والآمال الجديدة.

من المؤكد أن حدث “الثورة” في لبنان كان خروجاً من وضع ورفض لترتيب قائم. هو حدث لم يُستورد ولم يُفرض من فوق، بل كان إفرازاً لواقع قائم وبنية مجتمعية ذات تكوينات متعددة ومتباينة أحياناً، واتجاهات وميول متنوعة، تضافرت جميعها وتآزرت لخلق مشهد “الثورة” الراهن. 

تغيّر الجهات وتبدل الاشخاص وتعاقب القوى لن يبدل في أصل المنظومة التي التي تنتج الفساد

رغم كل ذلك لم تؤتِ هذه “الثورة” أُكُلُها وتُحقِّق غاياتها المرجوة، بحكم أنها تراوحت بين أن تكون حركة احتجاج ومطالبة أهل السلطة أنفسهم بإصلاح الفساد وإقالة أنفسهم،  من دون أن تنتقل أو ترتقي هذه التحركات إلى رسم خارطة طريق لنفسها لما بعد السلطة القائمة.

ما جعلها تستمد وجودها وفعاليتها من وجود وفعالية أهل السلطة أنفسهم، فتجدها تنشط مع كل كارثة تحصل بسبب أداء أهل السلطة، ثم ما تلبث أن تذهب في غيبوبة شبه كاملة بانتظار كارثة جديدة توقظها من سباتها.

 هذا يدل على أن هذه “الثورة”  كانت من إفرازات الواقع السياسي القائم في لبنان نفسه ومنتج من منتجاته، ما يجعلها جزء من الواقع السياسي نفسه الذي انتفض الثوار ضده، ولحظة من لحظات أزماته وانسداداته التي وصلت إلى نقطة انفجار.  

إقرأ أيضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: لبنان.. علامات احتضار لموت وشيك

ما حصل لم يكن تحولاً وانبثاقاً ودفع باتجاه واقع جديد، بقدر ما كان الواقع القائم نفسه في إحدى لحظاته التاريخية، ومرحلة من مراحل وجوده، بحيث يُعدُّ انقسامه وتشظيه مظهر طبيعي له وصورة لحقيقة جيناته الأصلية.

هذا الإخفاق لم يكن مصدره عدم أهلية الثوار أو حسن أو سوء نوايا قوى التغيير، بل يدل على أن قواعد واستراتيجيات السلطة في المراقبة والعقاب والتحكم والإقناع ما تزال هي نفسها، سواء أكان في إدارة الحكم أو في معارضتها. 

فتغير الجهات وتبدل الاشخاص وتعاقب القوى لن يغير في أصل المنظومة التي التي تنتج الفساد وتتسبب بالكوارث، لأنها تتحكم بتوزيع الموارد والقوة وتقوم على مشروعية سياسية يسلم بها المجتمع نفسه.

أي منظومة متوارية خلف المشهد السياسي وتتحكم بالذهنيات وتوجه الإرادات الشعبية لإنتاج شريحة سياسيين وحكام من طراز من نعرفهم ونختبرهم.  أي منظومة تجعل المجتمع اللبناني بمن فيهم نحن الساخطين والمحتجين ننتج هذه السلطة، ونعيد إنتاجها بوجوه جديدة.    

الثورة ليست فعلاً سياسياً أو مجرد عمل احتجاجي بقدر ما هي تغيير لقواعد اللعبة السياسية نفسها!

هذا يعني أن موانع التحول إلى أفق انتظام سياسي جديد لا يقتصر على وجود أهل السلطة، بل هنالك منظومة قيم صلبة وذهنيات راسخة تقف وراء أجهزة إدارة شؤون المجتمع، باتت بمثابة بديهيات الحياة والوجود والمعنى، وتجدها مُتمثَّلة في وعي وسلوك الثوار أنفسهم من دون أن يدركوا ذلك. 

وهنالك قواعد توزيع وتداول وممارسة وفهم للسلطة متحكمة بكل وجوه النشاط العام بما فيه نشاط الداعين إلى التغيير الشامل.

ففي الوقت الذي نعتقد أن تدمير منشآت السلطة وإزاحة طاقمها بالكامل سيكون سبباً حتمياً للتحول إلى مجال آخر، يتبين لدينا أن ما يحصل يبقى ضمن نفس الأصول والقواعد الراسخة في ممارسة السلطة وتوزيعها ومبادئ الإنصياع والمشروعية واستراتيجيات إمساك السلطة بكل مفاصل الحياة داخل المجتمع. 

لم يدرِِ الثوار أن إزاحة السلطة وفق القواعد التي وضعتها السلطة نفسها لإزاحتها، هو ترسيخ لقواعد اشتغالها وتعزيز لإجراءاتها وتنفيذ لاستراتيجياتها، تجعل الثوار أنفسهم أحد أدوات إعادة إنتاج هذه السلطة بشخصيات وتضامنات مختلفة.

لذلك، لا بد لنا من التبصر بالرواسب العميقة خلف الأحداث وشبكة القوة المنتجة للإكراه والإقناع، المستمرتان (الرواسب والشبكة) في ممارسة سلطتهما وتأثيرهما رغم التغيرات التي تحدث على السطح.

إذ  لا يكفي لتحقق الديمقراطية إزالة موانعها أو حسن نوايا الثوار وصدق عزيمتهم، بل لا بد من وجود مقتضاها، أي تأمين شروط إمكانها لتصبح فعلية ومتحققة.

فالثورة ليست فعلاً سياسياً أو مجرد عمل احتجاجي بقدر ما هي تغيير لقواعد اللعبة السياسية نفسها، وخروج عن قواعد المشروعية وحتى القيمية الراسخة في المجتمع.  أي هي تحول مجتمعي قبل أن تكون تغييراً سياسياً.

 هذا يستدعي التفكر ملياً في الأرضية المشتركة التي يقف فوقها الثوار وأهل السلطة معاً وتتحكم بسلوكهم ووعيهم وخطابهم، لجهة: شبكة القوى الخفية التي تخلق الحدث العام وتُسيِّرَه، وديناميات الأمر المنتشرة ومستقرات الطاعة المتوارثة، والقواعد التي تنظم أصول التنافس السياسي والاقتصادي، وقواعد الصراع بين الحكم والمعارضة، وضوابط نشوء مقاومات ضد السلطة التي وضعتها السلطة نفسها والتزم الثوار بحرفيتها، رغم كثافة حشودهم والتصدعات الكبرى التي أنزلوها بمؤسسات الدولة.

حين أصر ألكسي دو توكفيل على أن الديمقراطية صفة المجتمع قبل أن تكون صفة سياسية، بمعنى أن الديمقراطية عبارة عن منظومة قيم ونمط علاقات لا بد أن تتخذ صفة إجتماعية قبل أن تتخذ هيئة سياسية، كان يؤكد على التساوق والتزامن بين التحول المجتمعي والتحول السياسي، وأنهما يتعاكسان ويلازم بعضهما بعضاً.

السلطة نفسها ليست شيئاً يفرض على المجتمع وإنما كيان منبثق منه ويجسد قيمه

فالدولة ليست كياناً يأتينا من خارج المجتمع، بل هي، رغم تمايزها كمؤسسة ونشاط عن المجتمع، المجتمع نفسه في صورة انتظامه لنفسه، هي مرآته وصورته العاكسة لقيمه وخلقيته وتضامناته.  

ما يعني أن السلطة نفسها ليست شيئاً يفرض على المجتمع وإنما كيان منبثق من المجتمع يجسد قيمه ومنطق علاقاته الداخلية.

لم يدرك أكثر الثوار أن نصف المشكلة كانت في السلطة، والنصف الثاني كانت فيهم، وأن تغيير سلطة بنفس الذهنيات والقيم والروابط القائمة، سيعيد إنتاج نفس السلطة التي اعتدنا قيامها على منطق الغلبة، لكن هذه المرة بوجوه جديدة ونخب مختلفة.

السابق
تواصل بين نصرالله وباسيل «لإبتزاز» الحريري..«الداخلية» و«العدل» أو لا حكومة!
التالي
«حزب الله» يَشُد حزام التقشف..لا طحين بعد نفاد العراقي!