«حروب صغيرة» بين الإنفراج والإنفجار.. ولا «حياد» لمن تنادي!

لبنان

  أحداث كبرى وصغرى متنقلة شهدها ويشهدها لبنان منذ فترة وتحديدا بعد طرح البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي لمفهوم الحياد في الخامس من تموز الماضي ، الذي جاء بعد أن وصل لبنان إلى طريق مسدود سياسيا وإقتصاديا وماليا وإجتماعيا جراء السياسات المتبعة منذ زلزال 14 شباط 2005 الذي قلب كل المعادلات في البلد ، خصوصا بعد إتفاق الدوحة الذي جاء أيضا بعد أحداث 7 أيار بحيث إعتبرها البعض ممن قام بها وغطاها بأنها عمل مجيد فيما إعتبرها البعض الآخر إعادة للأمور إلى سكتها الصحيحة. 

اقرأ أيضاً: هكذا يَتلطّى «حزب الله» وراء الجيش داخل الحدود وخارجها!

التسوية الرئاسية

بعد التسوية الرئاسية التي أبرمت بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر ، والتي أتت بعد إتفاق معراب بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية التي إنبثقت  جميعها عن ضغوط الفراغ الذي أحدثته قوى الثامن من آذار جراء تعطيلها الحياة السياسية والدستورية في البلد جراء منعها إنتخاب رئيس غير الذي رشحته وهو ميشال عون ، نقول بعد هذه التطورات كان الأمل لدى البعض بأن يتوقف الإنهيار وتعود الممارسة السياسية إلى دورتها الطبيعية خاصة وأن محور الممانعة قد ضمن وضعه مع وصول مرشحه إلى سدة الحكم ولم يعد له من مبرر للتعطيل ، وكذلك فريق العهد السياسي المتمثل بتياره بحيث لا يمكن التصور بأن له مصلحة في إفشال العهد الذي كلفه الوصول إلى سدة الرئاسة الإنقلاب على كل خطابه ومساره السيادي والسياسي منذ عودة ميشال عون من المنفى في العام 2005 ، ولكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه وجرت رياح العهد وداعمه الأساسي حزب الله بما لا تشتهي سفينة الوطن والناس ، فمن شب على التعطيل والإستكبار شاب عليه خاصة عندما يكون تنفيذا لأجندات خارجية وإنغماسا في مشروع إقليمي ظاهره مقاوم وباطنه مقاول يستدرج عروض شراكة وتعاون في السيطرة على المنطقة وضرب المكون الرئيسي فيها.

التعطيل والانقلاب

فالعهد الذي صادفت بدايته مع بداية عهد دونالد ترامب في الولايات المتحدة الأميركية الذي كان من أولى قراراته إلغاء الإتفاق النووي مع إيران ما أعاد الصراع معها في المنطقة إلى سابق عهده ، عاد إلى سيرته الأولى في التعطيل والإنقلاب على كل التسويات والإتفاقات بعد أن حظي بقانون إنتخاب جديد على قياس تياره السياسي الذي أوكل مهمة قيادته إلى وريثه السياسي الأوحد صهره جبران باسيل الذي كان دائما هو موضوع التعطيل على مدى سني الصراع السياسي قبل التسوية الرئاسية ، تارة لتوزيره برغم رسوبه في الإنتخابات وتارة من أجل منحه حقيبة معينة بدعم من الراعي الرسمي للحياة السياسية في لبنان بعد إتفاق الدوحة ألا وهو حزب الله ، ساعده على ذلك التطورات الإقليمية من التدخل الروسي في سوريا وما خلفه من تغيير للمعادلات على الأرض ، وكذلك تجدد الصراع الأميركي – الإيراني بعد إلغاء الإتفاق النووي ما جعل حزب الله يبدو حريصا على إرضائه أكثر ، فضلا عن عنصر مهم ورئيسي داخلي تمثل بالتطورات المثيرة التي حصلت مع الرئيس سعد الحريري في الرياض عام 2017 الأمر الذي أضعف الحريري شخصيا وموقع رئاسة الحكومة بطبيعة الحال بحيث بدا وكأن الحريري بات أسير ” رد الجميل ” للعهد أو هكذا على الأقل بات يتعامل معه سيد العهد وتياره السياسي وصهره الذي كان قد بدأ يطغى على سلوكه بعد إقرار قانون الإنتخابات طموحه في الحلول مكان عمه في كرسي رئاسة الجمهورية ، وبهذه الروحية خاض الإنتخابات النيابية التي تحالف فيها في بعض المناطق ودعمه فيها سعد الحريري مدفوعا برهانه على التسوية الرئاسية فكان أن وقع ضحية حسن ظنه بشريكه وكان أن تصدر جبران باسيل المشهد السياسي بأكبر كتلة نيابية في البرلمان بينما تراجعت كتلة سعد الحريري إلى حوالي النصف في حين إستفادت القوات اللبنانية من قانون الإنتخاب لتزيد عدد مقاعدها بأكثر من الضعف ، وهنا بدأ الإنقلاب على التسوية مع سعد الحريري أولا وهو ما تجلى في عرقلة تشكيل الحكومة بعد الإنتخابات تحت عدة ذرائع كان منها الإصرار على عدم منح كامل مقاعد السنة في الحكومة لرئيسها وتوزير ما أتفق على تسميته باللقاء التشاوري وهو الكتلة التي رعى تشكيلها تحالف حزب الله والتيار الوطني الحر ، كذلك الأمر مع ما أسموه كتلة ضمانة الجبل برئاسة طلال أرسلان التي وضعوها بوجه كتلة اللقاء الديمقراطي بقيادة تيمور جنبلاط وكل هذا كان للإستحواذ على الثلث المعطل للحكومة وهو ما أوحى بسوء النية لديه ، ومن ثم الإنقلاب على إتفاق معراب مع القوات اللبنانية بدافع الخوف من تمددها على حسابه بعد النتائج التي حققتها في الإنتخابات خاصة بعد أن تبين فيما بعد أنه كان إتفاقا للمحاصصة على المراكز المسيحية في الحكومة والإدارة ، كل هذه المناورات السياسية والتعطيل الذي أدت إليه في الداخل ، فضلا عن غياب السياسة الخارجية الحكيمة التي تولى حقيبتها أيضا جبران باسيل وجعلها صدى لسياسة حزب الله المعادية لدول الخليج أساسا ، كل هذا أوصل إلى الإنهيار الذي إنفجر يوم السابع عشر من تشرين الأول الماضي ثورة شعبية ضد كل الطبقة السياسية تحت شعار كلن يعني كلن وكان ما كان . 

من المفارقات بأن لبنان الكبير ولد على يد فرنسا نتيجة إنهيار السلطنة العثمانية واليوم هو في العناية الفرنسية الفائقة على وقع الصراع الفرنسي – التركي المستجد في شرق المتوسط

الحصار

في حكومة حسان دياب التي كانت حكومة اللون الواحد لم يتغير النهج ولا الأسلوب ولو من خلف الستار ، إستمر التدهور وزادت الضغوطات على البلد والناس جراء ” الحصار ”  المضروب على السلطة الفاسدة التي فقدت ثقة الخارج كما الداخل بها ، إزاء هذا الواقع المرير خرج سيد بكركي بطرحه لحياد لبنان للعلن وهو طرح لا يمكن أن يكون إبن ساعته خاصة وأنه يأتي عشية مئوية لبنان الكبير حيث يعيش البلد منعطفات خطيرة ومصيرية ما يبرر طرح السؤال عما إذا كان هناك من توجه دولي في هذا الإتجاه أو رسالة جس نبض أرادوها عن طريق البطريرك الماروني سيما وأن هذا الطرح قد قوبل بالترحاب على وجه العموم مع بعض التحفظات والإستفسارات من قبل حلفاء حزب الله في الساحة المسيحية ما إستدعى توضيحا من الراعي عما أسماه الحياد الناشط ، وكان لافتاً أن الطرف الوحيد الذي أعلن رفضه لهذا الطرح هو الطرف الشيعي ولو بطريقة غير مباشرة عبر التصعيد الذي مارسه المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان في رده العنيف الذي تخطى مسألة الحياد ليطال النظام بأسره وحتى إتفاق الطائف في حركة باتت مكشوفة في كل مرة يطرح فيها ما قد يمس بمصالح الثنائي الشيعي السياسية عبر ” تكبير ”  الحجر كما يقال حتى يصعب رميه وذلك عبر الحديث تارة عن مؤتمر تأسيسي وطورا عن الدولة المدنية وإلغاء الطائفية السياسية وهو ما يندرج تحت مقولة مطلب حق يراد به باطل ، ومرة عن الديمقراطية العددية وغيرها من الطروحات التي يعلم مطلقوها أكثر من غيرهم بأنها تثير حساسية ومخاوف المسيحيين في لبنان وكأنهم بذلك يخيرونهم بين القبول بالأمر الواقع أو بما هو أمرّ منه ، في ظل هذه الأجواء المتشنجة وعشية إستحقاقات مهمة كانت تنتظر لبنان إبتداء من حكم المحكمة الدولية الخاصة بجريمة إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه الذي كان مقررا في السابع من آب ، وليس إنتهاء بالتجديد لقوات اليونيفيل في الجنوب ومحاولات الولايات المتحدة للتغيير في بعض مهامها وفي ظل التوتر على الحدود الجنوبية على خلفية مقتل أحد كوادر حزب الله في سوريا ، جاء إعصار النار الغامض الذي ضرب مرفأ بيروت يوم الرابع من آب ليزيد الوضع تشنجا سياسيا  ومأساوية إجتماعيا بعد الأضرار الفادحة التي لحقت بأرواح الناس وصحتهم وممتلكاتهم جراء الإنفجار الذي إستدعى الكثير من التحليلات ولا يزال عن أسبابه وطبيعته وعلاقته بالوضع العام في البلاد خاصة من زاوية إرتباطه بإمكانية تواجد السلاح في المرفأ أو في إمكانية أن يكون تعرض لقصف من ضمن الصراع القائم في المنطقة وخاصة في سوريا وإمتداداته بين حزب الله وإسرائيل وهي لا تزال كلها فرضيات غير مؤكدة ولكنها ولا شك تركت أثرها على الوضع السياسي الداخلي  وأعطت دفعا لمواقف مؤيدي الحياد ، كما أن هذا الإنفجار أعاد الإهتمام الدولي للبنان وهو ما رأت فيه السلطة بكل أطيافها  ” فرصة ” لفك الحصار عنها دون أن تحسن إستغلالها حتى اليوم خاصة مع إستقالة الحكومة فلا تزال المقاربات على حالها وكأن شيئا لم يحصل في البلد ، وقد تجلى هذا الإهتمام الدولي بزيارة الرئيس الفرنسي إلى بيروت مع ما رافقها من مفارقات حين بدا وكأنه هو ” بي الكل ” شعبيا من خلال نزوله بين الناس وسياسيا من خلال جمعه لكل الأطراف حول طاولة واحدة في قصر الصنوبر محاولا وضعهم أمام مسؤولياتهم التاريخية وهو ما رأى فيه البعض عاطفة فرنسية تجاه لبنان عشية الذكرى المئوية لإعلان لبنان الكبير ، فيما يرى فيه البعض الآخر تحركا من ضمن الصراع الفرنسي – التركي المستجد في البحر المتوسط .

حكم المحكمة الدولية

في موازاة هذه التطورات صدر حكم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بعد أن كان قد تأجل بفعل الإنفجار في مرفأ بيروت وهو حكم جاء لتأكيد المؤكد برغم كل الإحباط الذي أثاره بين اللبنانيين العاديين من حيث أنه إكتفى بتوجيه الإتهام إلى سليم عياش كشخص وليس إلى حزب الله كتنظيم أو قيادة مع عدم وجود أدلة على علم لقيادة الحزب أو القيادة السورية بالعملية وهو ما لم يكن ممكنا بعد ” مقتل ” كل الخيوط التي كان من الممكن أن توصل إلى القيادات. وجاءت إستقالة الحكومة لتدخل البلاد مرة أخرى وكما هي العادة في أتون الصراعات والمناكفات السياسية وكأننا عدنا بالزمن إلى يوم إستقالة حكومة سعد الحريري العام الماضي ، المستجد الوحيد والأهم اليوم هو وجود طرح الحياد على الطاولة خاصة مع إصرار البطريرك الراعي عليه ووضعه في ورقة من سبع صفحات في7 آب الجاري تحت إسم ” وثيقة الحياد ” والحديث بشكل مباشر ربما للمرة الأولى بهذا الوضوح عن سلاح حزب الله رغم كل الحملات عليه من جانب أطراف ترتبط بحزب الله وكان آخرها مانشيت جريدة الأخبار بما ومن تمثل التي إتهمته بالتماهي مع مطالب العدو الصهيوني وهو ما إستدرج ردا قاسيا من أوساط مقربة من بكركي مع ما يعنيه هذا من خلافات إضافية تضاف على الخلافات حول تركيبة الحكومة الجديدة خاصة مع إعلان الرئيس سعد الحريري بأنه غير مرشح لرئاسة الحكومة وهو ما يوحي بصعوبة المرحلة الحالية وبدأ ينعكس على الوضع الأمني في البلاد كما العادة عند كل مفترق وإحتقان ومن هنا بدأنا نرى الأحداث المتنقلة بين المناطق من قرية اللوبية في الجنوب بين أنصار الثنائي الشيعي التي أدت إلى أن يهتف الناس في تشييع الضحية ضد الأمين العام لحزب الله في سابقة توحي بالكثير ، إلى الأحداث في بلدتي سعدنايل وتعلبايا إلى جريمة كفتون الخطيرة والتي لم يتم جلاء غموضها بعد وهي أعادت إستحضار داعش وأخواتها إلى المشهد ،  إلى حوادث خلدة الأخيرة.

اقرأ أيضاً: تسوية «مغرية» لعالم يلفظ لبنان خارجاً!

كل هذه الأحداث المتنقلة في بلد كلبنان لا يمكن  أن تكون ناتجة عن جملة مصادفات ، ولا يمكن فصلها عن التطورات المتلاحقة خاصة موضوع الحياد بما هو موضوع مفصلي ومصيري يحاول كل طرف فيه الإنتصار لوجهة نظره ولو عبر الضغوطات الموضعية ، ما يشي بأننا أمام أسابيع أو أشهر ساخنة أقله حتى موعد الإنتخابات الأميركية وفي الإنتظار يأتي ماكرون في الأول من أيلول ” للإحتفال ” بمئوية لبنان الكبير ، وفي محاولة ومسعى منه للإنقاذ قد تكون بارقة أمل ولو خفيف ، ومن بعده شينكر في الثاني منه ومعه حديث عن إمكانية  ” إتفاق ” ما على ترسيم الحدود البحرية وهو ما قد يشكل أيضا بارقة أمل صوب إنفراجة ما وكأن هناك سباق بين الإنفراج والإنفجار ، وهو بزيارته وتوقيتها كأني به يفتتح المئوية الثانية للبنان الذي لا نعرف إن كان سيبقى على حاله أو يتغير أو ” يزول ” كما حذر وزير الخارجية الفرنسي لودريان بوجود هذه النوعية من رجال السلطة عندنا ، ومن المفارقات بأن لبنان الكبير ولد على يد فرنسا نتيجة إنهيار السلطنة العثمانية واليوم هو في العناية الفرنسية الفائقة على وقع الصراع الفرنسي – التركي المستجد في شرق المتوسط ، صراع يأتي ليزيد الصراعات على الأرض العربية التي لم يتبدل بها شيء منذ قرن ولا زالت على مشرحة الدول الكبرى تنتظر مصيرها ولبنان طبعا من ضمنها ، فهل نحن على أبواب الإنفراج أو الإنفجار ؟ هذا ما ستكشفه ربما الأسابيع المقبلة وتطوراتها وما علينا سوى الإنتظار ما دام ليس باليد حيلة.        

السابق
ريفي: إيران وسوريا اغتالتا الحريري بأدوات «حزب الله»!
التالي
التحقيق الجنائي في مصرف لبنان على الأبواب.. ماذا يريد «صندوق النقد» والسلطة؟!