الفساد يطعن ياسمينة حمص.. حكاية صباح السالم من التحرش إلى السجن!

صباح السالم
هربت نحو حدود تحميها، فإذ بلعنة النظام تطاردها من عملها في الفن إلى الصيدلة، لتدفع صباح السالم الثمن من سنوات عمرها دون سند في حكاية مشبعة بالألم!

وكما غيّبت أقبية سجن تدمر العسكري وأسوار صجن صيدنايا آلاف القصص لمغيبين قضوا نحبهم وربيع سنوات عمرهم في زنازين الأسد، لم يكن الوسط الفني السوري بمنأى عن عقلية النظام العفنة في التهميش والإقصاء وكتم أي صوت ينشق عن القطيع ويصرخ لا لفساد يعتري منظومة الحياة بكافة قطاعاتها، لتكشف السنون حكاية فنانة ظنها أصدقاؤها ميتة وبات الجمهور يستذكرها كلما شاهدها بدور المراسلة في فيلم “الحدود” مع الفنان الكبير دريد لحام.

لكنّ صباح السالم خرجت من السجن قبل عدة أشهر لتروي الحكاية كاملة وتتلقف تفاصيلها صحف ومواقع عربية كاشفة عن رداءة النظام في التعامل وفي عدة مستويات بدءاً من قطاع الإنتاج السينمائي حيث تعرضت صباح للتحرش إلى تعامل رجال الأمن والابتزاز الذي نال من سنوات عمرها وصولاً لنقابتي الفنانين والصيادلة حيث تخلتا عن عضو بارز في النقابتين وتركتا صباح تواجه مصير حياتها لوحدها.

هي فنانة من الطراز الرفيع، حيث يمكن القول أنها تخطت بإرادتها الصعوبات التي قد تعترض الفنانة في بداية طريقها خاصة إذا كانت عازمة على احتراف العمل في السينما.

إقرأ أيضاً: النظام السوري قتل 13 ألف شخصاً في إبادة جماعية في سجن صيدنايا

صباح السالم ابنة مدينة حمص تولدت في عام 1959، قادتها الأقدار إلى السجن اثني عشر عاماً لأنها تجرأت على خلط الفن بالواقع وكشف الفساد في عملها كصيدلانية ضمن شركة سورية للأدوية.

قصة تحمل الكثير من الألم لحياة امرأة ستينية ظنها الجميع ميتة، وإذ بها ملقاة في السجن بعدما صدمت الجمهور بحقيقة ما حدث لها، حيث نجت بفضل مرسوم عفو رئاسي من حكم الإعدام وعادت للحياة طليقة تسكن مع أقاربها في مدينتها الأم حمص.

صباح السالم
صباح السالم

الذكاء منذ الطفولة

ولدت صباح في قرية المغلية شرق حمص، لتنتقل مع أسرتها بعد ذلك للعيش في حي الأرمن بمدينة حمص، وشبّت على ارتياد صالات السينما وقراءة الروايات. ومنها إلى دمشق لدراسة الصيدلة حيث دعاها المخرج محمد شاهين لتلعب دور البطولة في فيلم “مأساة فتاة شرقية”، وكفتاة تحصل على هكذا فرصة اعتذرت من المخرج وتذرعت بانشغالها في امتحانات جامعية كونها لم تعجب بالسيناريو، وكأي فنانة طموحة رفضت صباح الدخول في دوامة المصالح والاستغلال التي حاول النظام بنائها عبر تكاتف بين عاملين في الوسط الفني ورجالات الأمن فحاز الشهرة من هادن العقلية الأمنية وبارك بالقائد، وخسر من عارض ورفض الانصياع للدوامة.

شكل انتقال صباح من السينما إلى التلفزيون خطوة لإثبات نفسها في الدراما السورية حين توجهت للمجتمع اللبسيط وابتعدت في طرحها عن الإثارة

التحرش أولى المضايقات

المعاناة بدأت مع صباح في أستوديو المؤسسة العامة للسينما حين تعرضت لمضايقات من قبل مخرج دعاها لتجربة أداء، إذ قالت “وبدأ مع كل صورة يلتقطها لي، ومع كل حركة كاميرا يطلب مني وضعيات معينة لم ترقني، ولم تجعلني مرتاحةً له، إلى أن قام بالتحرش بي، فما كان مني إلا أن صفعته وهربت مسرعةً ودموعي تكرج على خدي”.

ولكن ذلك لم يثنها عن السعي للعمل في التلفزيون فأطلّت في مسلسل “تجارب عائلية” من إخراج علاء الدين كوكش، والذي أسند إليها دور الفتاة المتمردة، إلى جانب كبار الدراما السورية مثل نجاح حفيظ وملك سكر ونذير سرحان وتيسير السعدي وسامية الجزائري. ومن هذا الدور بدأت صباح بالصعود إلى صف النجوم الأوائل بعدما تعاونت مع سليم صبري في مسلسل “شجرة النارنج” و”الطبيبة” مع فردوس أتاسي.

إقرأ أيضاً: زهير رمضان يعود لمنصب النقيب.. فنانو سوريا يبكونَ مستقبلهم!!

لتخّط صباح بحضورها مساراًَ أبيضاً في ظل صعود التلفزيون ودخوله إلى كل منزل وتأسيس صورة عميقة للدراما السورية الاجتماعية الخالية من الإثارة والموجهة لكل مواطن بسيط بلغته اليومية ومشاكل حياته، كأول انشقاق غير علني بين بنية الدراما كفن كمستقل وعقلية السلطة الرثة في تلقين الشعب مصطلحات خشبية.

مكاشفات أودت بمستقبلها

العمل في الصيدلة كانت الخطوة التالية ضمن مخبر شركة سورية للأدوية، فاستطاعت صباح مع رفاق لها الاستغناء عن خدمات الخبير السويسري المنتدب للإشراف على المعمل، مناديةً بالاعتماد على الخبرات الوطنية، فطوّرت أنواعاً من حليب الأطفال مستغنية عن تراخيص شركة “نسلة”.

وعلى ضوء هذا ازدادت الضغوط بعدما اكتشفت عقوداً وهمية في الشركة المذكورة تنم عن صفقات مشبوهة وفاسدة في مجلس إدارة الشركة التي تعتبر من كبريات شركات الأدوية السورية.

وعلى إثر اصطدامها برجال نافذين وانتشار موضوع الصفقات في جريدة “الثورة” الرسمية، دفع ذلك أحد المدراء بحسب رواية صباح إلى وضع الهيرويين لها في فناجين القهوة عبر عملاء له، وهذه المادة لا طعم ولا رائحة لها، لتدخل صباح في مرحلة ابتزاز طويلة وتصاب بالإدمان من وراء تعاطي المخدرات.

عانت صباح من مضايقات بدأت بالتحرش وانتهت بالابتزاز منذ بداية مشوارها في الفن لينتهي بها المطاف في السجن

يمثل الانتقال الدراماتيكي في حياة صباح بهذه المرحلة عقلية النظام السوري في تأديب من يعصيه، خاصة أن صباح الصيدلانية امتلكت نفوذاً أكبر كونها فنانة والجمهور يعرف اسمها وخروج هذه الصفقات إلى الإعلام عن طريق فنانة سيسهم في شهرة صباح وتحويلها إلى قائد رأي عام، وهو ما لا يناسب نظام الاسد الذي يصدر زبانيته للواجهة في المناصب الخدمية والقيادية والبرلمانية والنقابية.

صباح السالم
صباح السالم

القصة القاسية والسجن

قصة الابتزاز وصلَت حلقتها الأكبر حين طالب أحد ضباط مكافحة المخدرات صباح بأن يقيم معها علاقة حميمة مقابل عدم إلقاء القبض عليها، تشرح السالم: “كان الضابط (أ.ف) مُصرّاً على سلبي كرامتي، وعندما لم أُذعن له، ولم أمتثل لرغباته الشهوانية الدنيئة، لجأ إلى تلفيق تهم عديدة لي، منها تصنيع المخدرات والاتجار بها، ومع أنني لم أكن أقوم بذلك إلا لتأمين الكمية الشخصية لي”.

وبذلك سُجنت صباح لأكثر من اثني عشراً عاماً امتدت على ثلاث فترات، وآخرها كان الحكم عليها بالإعدام، والذي تم تخفيفه بعد ذلك بمرسوم رئاسي، لتصبح عقوبة السجن مدة خمسة عشر عاماً، وتخفيفها بعد ذلك بالسجن مدة ثماني سنوات.

وحيث لم تنكر صباح إدمانها على المخدرات لكن قصتها تظهر حجم الذنب الذي يتعرض له السوري في ظل النظام إذا ما تمّرد على النسق العام وعبر بملْ إرادته عن رغبته في العمل بالفن بشكل مستقل وبمشروع طموح دون إذعان للأمن أو في أي مجال يكشف فيه فساد مستشرٍ لعقود في هيكل النظام.

وما أشبه الأمس باليوم فالنظام نفسه الذي حاولت صباح كشف فساد صناعته للحليب، قبضت الجمارك المصرية على شحنة حليب قادمة من سورية مليئة بالمحبوب المخدرة وتعود لأكبر رجالات النظام في هذه المرحلة رامي مخلوف، ما يعني أن صباح دخلت إلى السجن وخرجت وما زال المشهد القاتم لفساد النظام هو ذاته.

نهاية السجن وبعد الخلاص

في أول تصريح لنقيب الفنانين السوريين زهير رمضان بعد تجديد فترة رئاسته للنقابة لخمس سنوات مقبلة، صرّح أن النقابة غير مرحبة بصباح السالم، وهذا ليس موقفاً جديداً للنقابة التي تخلت حالها حال نقابة الصيادلة عن العضو صباح طوال فترة السجن، وفُصلت السالم كونها لم تدفع الاشتراكات لعشر سنوات متتالية.

إقرأ أيضاً: مسلسل سوري يتورط بنشر صورة لمعتقلة في سجون النظام!

لتخرج مؤخراً من السجن وتقضي أصعب فترات حياتها، بعد تدهور وضعها الصحي منذ قرابة الشهرين، وتتجه للإقامى عند أقرباء لها في مدينة حمص، فيما تتابع سفرها إلى العاصمة لاستصدار حكم بالبراءة بعد قرار بالطعن تقدمت به النيابة العامة في دمشق ضدها.

كشفت صباح عن حزنها بعد الخروج من السجن لأنها وجدت سوريا مختلفة بكل المقاييس، وحده الفساد من تبقى!

دوامة تلو الأخرى

تلّخص حياة السالم منذ وصولها دمشق لتحقيق حلمها في التمثيل وحتى يومنا هذا وضع الفن في سوريا تحت سلطة نظام الأسد المغرق في الفساد، فسادٌ استشرى في بنية الدولة من مؤسسات وهيئات وبلغ الوسط الفني فعانت صباح كنموذج لمرأة سورية من اضطهاد وتحرش جنسي وسجن قاسٍ دمرّ حياتها ودفعت ثمنها سنوات شبابها.

أدق وصف هو ما عبّرت عنه في نهاية مقابلتها مع “إندبندنت عربية” حيث وصفت وضع سوريا بعد خروجها من السجن وقالت: “كم أتمنى لو بقيتُ تلك الفتاة الحادة الطباع التي صفعت مخرجاً عندما تحرّش بها، لكن قلبي الطيب هو من أوصلني إلى ما أنا عليه اليوم، الحب والدفاع عن المهنة والتحزب لوطني ضد الفساد والفاسدين، لستُ ضحية، لن أكون، لكنني أخرج الآن من سجني لأجد البلاد وقد انقلبت رأساً على عقب، والحياة تغيرت، سورية التي تركتها قبل دخولي السجن هي غيرها اليوم، ما أكبر حزنكِ يا بلادي، وما أصغر قلبي”.

السابق
دولار السوق السوداء على رمالٍ متحرّكة.. اليكم سعر الصرف اليوم!
التالي
المركزي يُشكّل لجنة «إعادة هيكلة المصارف».. ماذا في التفاصيل؟