طهران وواشنطن… التنازل عن التفاصيل حفاظاً على الأصول

هاني فحص

في مقابلة على قناة “العربية” أخيراً قال السيد علي أكبر محتشمي أن المبادرة الإنسانية الأميركية إضافة إلى تجميد العقوبات الأميركية على إيران كما أعلن جورج بوش، “إنما جاءت بضغط من الشعب الأميركي الذي لا بد أن تقدر له مواقفه وعواطفه التي لا شك فيها” ، قاصداً بذلك التبرع السخي الذي قدمته واشنطن لضحايا زلزال مدينة (بم) الإيرانية.

اقرأ أيضاً: إنهم يرجحون الحوار مع واشنطن

الضغط الشعبي

هذا كلام مقبول، ولكن لا بد من أن نضيف إليه أن رئيس الولايات المتحدة، كغيره من الرؤساء في العالم، لا يخضع بسهولة للضغط الشعبي، خصوصاً إذا لم يكن هذا الضغط يعبر عن نفسه، والشعب الأميركي لم يعبر عن ضغطه على إدارته في ما يخص إيران كما هو معلوم، وإن كان موقف هذه الإدارة، أي خطواتها الإيجابية نسبياً، يمكن أن يحرز رضا الشعب الأميركي. إذاً فالخطوة الأميركية الأولى غير التامة والتي يمكن أن تتم، هي خطوة سياسية بامتياز، ويجب التعامل معها سياسياً في إيران، من دون أن يعني ذلك أبداً أن أي مستوى من التجاوب والقبول بهذه الخطوة من قبل الدولة الإيرانية يقع في مواجهة عواطف الإيرانيين. ومن دون أوهام الإجماع الشعبي على الطريقة الصدامية، فإن الأكثرية من الشعب الإيراني توافق على التعامل الإيجابي مع المبادرة الأميركية بما تقتضيه السياسة والمصلحة من الحذر والدقة والتروي، مع الأخذ في الاعتبار نصف الخطوة الأميركية صوب إيران في مسألة “مجاهدي خلق” ونصف الخطوة الإيرانية في خصوص معتقلي “القاعدة”، ونصف الكلام الإيراني عن الإرهاب.

وكان السيد محتشمي في منتهى الوضوح، ومن موقع العارف، عندما أعاد الذاكرة إلى بداية انتصار الثورة وتأسيس الجمهورية الإسلامية، عندما أعلن الإمام الخميني أن إيران لا تمانع في إقامة علاقات دبلوماسية حقيقية مع الجميع ولا تضمر عداء لأحد، مستثنياً إسرائيل وحدها… وهنا يحسن التذكير والتوكيد بأن إيران الثورة والدولة لم تتعجل أي إجراء سلبي مكشوف تجاه الولايات المتحدة، على رغم الذكريات والمحمولات المؤلمة من تاريخ علاقتها مع إيران الشاه ونظامه وضد مصالح الشعب الإيراني، إلى أن شرعت الأمزجة السياسية المشاركة في الثورة والدولة، تحاول الخلاص من شراكتها مع الإمام وتياره العريض، فاستولت على مفاصل الدولة وأحكمت قبضتها عليها، منفتحة في الوقت نفسه على أطراف دولية ذات علاقة إشكالية مع إيران ماضياً وحاضراً، فالتقى الدكتور إبراهيم يزدي بصدام حسين في كوبا (ولسنا هنا في صدد الإدانة) وقدم له عرضاً لعلاقات ودية مستقبلاً، وصرح صدام في ما بعد (لصلاح عمر العلي سفير العراق وقتها في مدريد) بأنه تعامل إيجابياً مع عرض يزدي، ولكنه أصر على السخرية منه ولمح إلى ما حدث من افتعال حرب ضد إيران لاحقاً. والتقى يزدي كذلك بغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي وقتها، في الجزائر. في هذه الأثناء كان هناك لغط يدور في الشارع الإيراني عن دور الإمام في ما يجري داخل الدولة، في السياسة الداخلية والخارجية، وفي أحد لقاءات السيد أحمد الخميني الشعبية الحوارية واجه النقد على الدولة بالقول: إن الإمام محاصر.

فك الحصار

في هذه الفترة، كان السيد حسين الخميني حفيد الإمام، يزور لبنان، ويؤكد أن الإمام محاصر ولا بد من فك الحصار عنه… وجاءت الأخبار باقتحام الطلبة الإيرانيين للسفارة الأميركية في طهران بقيادة عباس عبدي وأصغر زادة وغيرهما، وراء عدد من رجال الدين الشباب المقربين جداً في فريق عمل الإمام الخميني (موسوي خوئيني وهادي خامنئي وغيرهما) ما كان إعلاناً ميدانياً عن فك الحصار عن الإمام الذي شرع بالتوجيه الفعلي لعملية بناء الدولة، والتي انتهت بإقصاء الجبهة الوطنية (كريم سنجابي) وحركة تحرير إيران (مهدي بازركان وإبراهيم يزدي) نهائياً عن سياق الدولة، وإن بقي بازركان شخصياً فلأسباب تتصل بشخصه فقط، لتأتي حرب العراق على إيران بقرار أميركي فصلاً نهائياً بين إيران والإدارة الأميركية وفضائها السياسي العربي الداعم للعراق في حربه على إيران، بعدما أسهمت الثورة في رفع ظل الشاه الجاثم على صدور الحكام العرب المحيطين به والموصول عملياً بإسرائيل وسياستها ومطامعها في المنطقة كلها… ما انعكس قلقاً في العلاقات العربية – الإيرانية، خصوصاً في الخليج.

لكن ذلك كله لم يمنع العقل السياسي الإيراني أن يشتغل على تحسين العلاقات مع العرب… وفي أحد لقاءات السيد أحمد الخميني مع الدبلوماسيين العرب في طهران أثناء الحرب العراقية – الإيرانية وفي سنواتها الأولى، خاطب مروان الرومي القائم بالأعمال السعودي وقتها بأن إيران تريد علاقات حسنة وعميقة مع المملكة، وعندما حاول البعض أن يستفسر عما إذا كان هذا موقفاً شخصياً، أجاب بوضوح: هذه توجيهات الإمام… ما يعني أن العلاقات الإيرانية بالولايات المتحدة والدول العربية، الخليجية خصوصاً، لم تكن تخضع لموقف أيديولوجي مغلق، بل كانت علاقات متحركة، في السلب والإيجاب، على المعطيات والظروف المتغيرة، بدليل أنها في الجانب العربي تقدمت في شكل مطرد وبعمق ملحوظ وشفافية كبيرة… ومن هنا كانت تمظهرات هذه السياسة تختلف من فترة إلى أخرى، وبحسب ما يبدر من الأطراف الأخرى، خصوصاً العربية، وكل من له معرفة بالسياسة العربية يعرف أن أي دولة عربية خليجية خاصة، لا يمكن أن تذهب في التعبير عن إرادتها وعلاقاتها مع الآخرين إلى أبعد مما يتحمله الطرف الأميركي، ما يعني أن حركة الدول العربية نحو إيران كانت تتمتع بضوء أخضر أميركي، ويعني أن التعامل الإيراني مع هذا الوضع، هو تعامل مع الطرف الأميركي، في صورة غير مباشرة.

المناخ المرن

هذا المناخ المرن من السلوك الإيراني، كان محكوماً بمزاج شعبي ملائم، ومن هنا تمدد ليطل على الأفق الأوروبي، من دون أن يكون هناك توهم بانفصال أوروبا عن أميركا، ما يعني أن الخطاب الإيجابي والعلاقة الإيجابية بين إيران وأوروبا، هي، ولو نسبياً أو جزئياً، إيجابية في مسار العلاقة مع الولايات المتحدة (كبلد غربي)… وبقي هذا المسار يتعاظم إلى أن تجسد بوضوح في الموقف من أفغانستان حتى الآن، وبلغ ذروته في التعامل الإيراني مع العراق، ما يدخله بعض المسؤولين الإيرانيين في قرار إيران بعدم التدخل في الشؤون الداخلية اللدول الأخرى، وهو صحيح، لكنه يفسر جزءاً من الموقف، والذي يفسره ويفسر الموقف كله، هو أن الجمهورية الإسلامية، وبعدما صلبت موقفها ورسخت هويتها في ظل الإمام الخميني، شرعت على ضوء التجربة والظروف المستجدة، في إظهار ميلها إلى المرونة السياسية بدل الصلابة الأيديولوجية في السياسة… وهذا هو الكامن وراء توقيعها البروتوكول الإضافي النووي، وتعاملها الإيجابي مع مجلس الحكم العراقي، ونزعها لاسم خالد الإسلامبولي وصورته الكبيرة من الشارع الطهراني وإحراق الطوابع البريدية التي تحمل اسمه وصورته، رفعاً للحوار مع مصر إلى آخر تجلياته، من دون التوقف عند اتفاقية كامب دايفيد التي لم تعد عائقاً، كما لم تكن اتفاقية وادي عربة عائقاً مع الأردن ولا المكاتب التجارية الإسرائيلية عوائق مع دول أخرى. أما الجدل حول أوسلو فربما كان مرده أنه ليس للفلسطينيين دولة! وهذه نقطة ضعفهم أو سبب استضعافهم وابتزازهم.

اقرأ أيضاً: ورطة إيران في سوريا الخلفيات العميقة والآفاق

وكانت المبادرة العربية الخليجية بعد فاجعة الزلزال بإقرار 400 مليون دولار مساعدات لإيران كانت جرساً أخيراً شديد الوقع الإيجابي على الأذن الإيرانية. إنه الإجراء العربي الأخير، في ظروف صعبة، في تظهير موقع إيران العربي وما ينبغي أن يكون عليه دورها وسلوكها في المستقبل مع العرب. وبالتأكيد، لم تكن هذه الخطوة الاجتماعية خارج الإرادة والإدارة الأميركية… فهل تكون إيران على أهبة أن تنعطف بهدوء ودراسة وقوة وعمق وعقل لتتلافى مثال السقوط أو الانهيار القذافيّ الذي منع ليبيا بجهله وغروره وسفهه من وضع شروطها وأبقاها عرضة للشروط الابتزازية الأميركية؟ وفي حين علقت العقوبات على إيران قرر بوش استمرارها في ليبيا لأن هناك شروطاً أميركية لم تتحقق بعد من الطرف الليبي.

هل يحدث الانعطاف الإيراني الشجاع والمسؤول على إيقاع “التكويع” الكوري الشمالي؟ وهل تتنازل طهران عن بعض التفاصيل حفظاً للأصول، وترجيحاً لتنمية إيران على ما عداها؟ أليست التنمية سياسة استقلال وسيادة؟

(17/11/2004)

السابق
في «يوم القدس».. الصراخ في بيروت والصلاة في قم
التالي
بعد طفرة «الكورونا» في قضاء صور..لا إصابات جديدة لليوم الثالث على التوالي!