بين الشرق والغرب رهانات خاطئة.. «تُلدغ من الجحر مرتين»!

قوى عالمية

الدول المتوسطة الحجم ، نصيبها من القرار السيادي قليل، والدول الصغرى حظها من القرار الإستقلالي شبه معدوم.

موازين القوى العالمية في هذه الآونة  مندرجة في الواقع التالي: 

  • دول عظمى ثلاث وهي: الولايات المتحدة والصين وروسيا.
  • دول كبرى وهي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا واليابان، فيما الهند تتموضع في منزلة “المؤلفة قلوبهم”، أي أنها دولة كبرى لها مقومات الدولة العظمى. تحت الدول الكبرى، تحل الدول المتوسطة، وجلها يمتلك مقومات الدولة الكبرى، وهذه الدول متعددة ومنتشرة على خرائط  أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، وأما في خارطة الإقليم، فالقول ينحصر في مصر وتركيا وإيران والسعودية. 
  • دول الإقليم الأربع، لها تحالفاتها الخارجية الوطيدة وخصوماتها الإقليمية المتشابكة والمشتبكة. لماذا لا تنقلب الصورة؟

اقرأ أيضاً: الشعب يرفض السلطة ويفرض سلطانه!

وتغدو التفاهمات  الإقليمية تتقدم على التحالفات الخارجية؟ هذا سؤال عمره أكثر من مائة عام، إذا ما أريد عدم التعمق في التاريخ السياسي وعدم التوغل في عقود ما قبل القرن العشرين. لتكن البداية من القرن الفائت: قبل الحرب العالمية الأولى، انشغل العالم بـ”المسألة الشرقية” و”الرجل العثماني المريض”، وإذ بدت السلطنة العثمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر، متجهة نحو التفكك والإنحلال، فإن صراعات الدول العظمى على الإرث العثماني، أطال عمر السلطنة  وأمد سنوات حياتها، وحين وقعت الحرب الأولى، أو قبلها بقليل، كانت اتجاهات  السياسة العربية الناشئة آنذاك، بعضها متجه نحو فرنسا، وبعضها الآخر يمم وجهه شطر بريطانيا. ما النتيجة؟

احتكار الدول المنتصرة

النتيجة تمثلت في احتكار الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى صوغ  خرائط  الدول  العربية المتشكلة في مرحلة ما بعد الحرب، فضلا  عن إمساكها بكل أنواع القرار السياسي والإقتصادي والعسكري، وهي الحال نفسها التي جرى مجراها  في مرحلة  ما بعد الحرب العالمية  الثانية، حيث برزت معادلة الإنخراط الخطير في سياسات المحاور الدولية  القائمة على ميدان الصراعات بين الشرق السوفياتي والغرب الأميركي. في تلك المرحلة التي أعقبت الحرب الثانية، اتجهت تركيا عقلا وغربا إلى محور الغرب، ومعها العراق الملكي وإيران الشاه، وفي ظل التنافس المصري ـ السعودي على القرار العربي، تشرقت مصر سوفياتيا، وتغربت السعودية أميركيا، وكان ما كان بينهما، من حرب اليمن الأولى، إلى تحديات استمرار “الجمهورية العربية المتحدة”. وحين صعقت كارثة حرب الخامس من حزيران /  يوينو 1967، العرب أجمعين  من كبيرهم إلى الرضيع في السرير، لم يجد العرب المهزومون من يواسيهم  أو يكفكف دموعهم، لا في الشرق السوفياتي ولا في الغرب الأميركي، لا بل إن “الرفاق السوفييت”، حملوا العرب شر هزيمتهم على ما يروي محمد حسنين هيكل في كتاب “الإنفجار” وقائع اللقاء العاصف بين الرئيس الجزائري هواري بومدين ورئيس الوزراء السوفياتي اليكسي كوسيغن.

تغدو التفاهمات  الإقليمية تتقدم على التحالفات الخارجية؟ هذا سؤال عمره أكثر من مائة عام، إذا ما أريد عدم التعمق في التاريخ السياسي وعدم التوغل في عقود ما قبل القرن العشرين

في عام 1961، لمع نجم في السماء، إسمه ” حركة عدم الإنحياز”، انبثق من “مؤتمر باندونغ” عام 1955، وهذا الحدث الجلل الذي صنعه الثلاثي جواهر لال نهرو وجمال عبد الناصر وجوزيب بروز تيتو، سرعان ما انقلب على حاله، فبدلا من النضال المرير، والمرارة هنا تستحق التضحية بهدف الغاية السامية بتشكيل كتلة دولية غير منحازة، غدت كثرة  من الأعضاء يُفترض أنها  “لامنحازة”، أكثر انحيازا لسياسات الشرق أو لسياسات الغرب. سقطت فكرة عدم الإنحياز وخفت النجم الذي كان في السماء وعادت الأحوال إلى سابق عهدها بين الإلتحاق بـ”السفيتة” أو الإلتحاق بـ”الأمركة”. لم يشفع لتركيا انضمامها  إلى “حلف الناتو” منذ عام 1952، فقد  بقيت طرفا منبوذا من “النادي الأوروبي”، وما زالت  وستظل منبوذة، وحين أمسك رجب طيب أروغان عصا السياسة من منتصفها الروسي حينا والأميركي في حين آخر، لم يتوان الأميركيون عن الوقوف على رأس الجبل بإنتظار ما يمكن أن تؤول إليه  نتائج المحاولة الإنقلابية الفاشلة في عام 2016 في عهد الرئيس باراك أوباما، وفي عهد الرئيس دونالد ترامب علت صيحات التهديد والوعيد من سيد البيت الأبيض بتحطيم الليرة التركية وإبادة الإقتصاد التركي كما هدد وأرعد الرئيس ترامب نفسه بين عامي 2017 و2018.

شاه إيران

شاه ايران هو الآخر، الملتحق بالأميركيين عقلا وقلبا، لم يعثر على منفى حين ثار الإيرانيون على جور نظامه وأسقطوه في عام 1979، فأغلقت الولايات المتحدة أبواب المنافي أمامه، ولولا “بقايا عواطف” الصداقة التي ربطت الشاه  مع الرئيس أنور السادات، فـ”أنزله” شريدا في قصر ضيافة مصري، لأكله سمك البحر، وأما الروس في عهد القيصر الجديد فلاديمير بوتين، فلم يأخذهم مانع ولا رادع ولا وازع، من التشارك مع الأميركيين في دفع الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي واستصدار القرار 1929، في عام 2010، وهو القرار الأكثر قسوة وشدة وإيلاما من أي قرار آخر نزل  على إيران وأحاطها من جوانب عدة. في السياسة معروفة معادلات المصالح أليس من ضمن معادلات المصالح تفاهم دول الإقليم؟ 

يتجاوز عدد سكان ايران 84 مليون نسمة، ويقفز عدد سكان تركيا عن 82 مليون شخص، وفيما يتجاوز عدد سكان العراق 36 مليونا، وسوريا 25 مليونا، فإن مساحة ايران البالغة مليون و600 ألف كيلومترا مربعا، وتركيا 780 ألف كيلومترا، ومساحة العراق 440 الفا، وسوريا 185 ألفا، فإن تفاهما أو إطارا أو تكتلا، بين هذه الدول الأربع، يعني إيجاد سوق مشتركة ضخمة تعدادها  السكاني يتعدى 225 مليون نسمة على مساحة قارية تقترب من 3 مليون كيلومترا مربعا، وإذا ما أضيفت مجموعة دول الخليج إلى هذا الإطار، وعدد سكانها 51 مليونا بين مواطن ومقيم، ومساحتها مليونان و700 ألف كيلومترا مربعا، فذلك يعني أن التكتل أو الإطار أو الفضاء سيتمدد إلى مساحة إجمالية قدرها 5 مليون 700 ألف كليومترا مربعا، مع سوق واسعة ومغرية قوامها السكاني  275 مليون نسمة، ومع مصرو لبنان والأردن، سيرتفع حجم السوق إلى 387 مليون شخص على مساحة لا تقل عن 6 مليون و800 ألف كيلومترا مربعا.

ذلك يعني أيضاً: أن هذا الإطار يضم أول ورابع وخامس منتج للنفط في العالم (السعودية  ـ العراق ـ إيران) وثاني وثالث منتج للغاز على مستوى العالم (إيران ـ قطر)، ودولا ريادية في صناعة المنسوجات والجلود (تركيا ـ مصر ـ سوريا)، بالإضافة إلى الصناعات المتوسطة (تركيا ـ ايران ـ مصر) كما أن الإطار المذكور تتركز في دوله أهم المواقع الآثارية في العالم (مصر ـ سوريا ـ لبنان ـ الأردن  ـ العراق ـ تركيا ـ إيران). والأهم من ذلك، أن هذا الإطار تجمعه روابط  ثقافية وتاريخية، مركبة في تداخلها وصعبة الإنفصام، ففي البلاد العربية ملايين المواطنين من أصول تركية (العراق ـ سوريا ـ لبنان ـ مصر)، والتداخل  الجنسي الإيراني ـ العراقي ـ الخليجي لا يقل شأنا عن مثاله التركي وفي إيران وتركيا ملايين  المواطنين من أصول عربية، وفيما تشترك اللغتان التركية والفارسية في الجذور الواحدة، فإن اللغة الكردية  تنتمي إلى عائلة الجذور نفسها، ومثلما تشمل اللغتان الفارسية والتركية حجما ليس عاديا من المفردات العربية، فإن اللغة العربية ليست بعيدة على الإطلاق عن شمولها حجما غير قليل من المفردات الفارسية، وأما اللهجات العربية العامية،  فغزارة المفردات التركية والفارسية التي تحتويها، يصعب حصرها.

اقرأ أيضاً: «قيصر» ينتصر لقصير.. ولبنان يسأل بأي ذنب يُقتل؟!

أفكار مخالفة للواقع

هل هذا وهم؟ لا … ليس وهما الوقائع الكبرى كما يقول الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل تأتي في أحيان كثيرة من أفكار مخالفة للواقع، وهي تعترض عليه وتخالفه، بغرض  إصلاحه أو  تطويره أو  تغييره. ومثلما هي حبات المطر التي تستخف الجبال بخفة وزنها، فإن الحبات المطرية إياها، هي التي تفعل أفاعيلها في شواهق الجبال وسفوحها بفعل عوامل التعرية وتساقط الأمطار المستمر .من أين يمكن طرق أبواب البداية؟ من ثلاثة عناوين ـ أزمة  يمكن البدء:

ـ الأول: تفاهم مصري ـ تركي ـ خليجي على إدارة الأزمة الليبية كمرحلة أولى  تمهيدا لمرحلة الحل الثانية.

ـ الثاني: تفاهم إيراني ـ تركي ـ سوري لإقفال باب الأزمة السورية.

ـ الثالث: تفاهم إيراني ـ سعودي ـ  خليجي  لإخراج اليمن من وضعه الحالي وحربه الحالية.إن هذه “التفاهمات” الثلاثة لعناوين الأزمات الثلاث، بالرغم من كونها تبدو ضربة في ماء في وهلتها الأولى ، إلا أنه لا ينقصها سوى ” روح المبادرة الخلاقة  والجريئة”، ومن شأن  “هذه  الروح” أن تخفض إلى حد كبير حجم  مصادرة الدول العظمى لقرارات  الحلول التي لم تأت يوما ولن تأتي في لحظة  ولن تأتي  على حين غرة.وإذا ما ارتدت خاتمة القول إلى بدايته، فإن  لسان قرن كامل من الرهان مرة على الشرق، والرهان مرة على الغرب، ينطق بحقيقة لا تقول إلا: ولا مرة نجح الرهان، ولا مرة إلا وكان الرهان خسرانا مبينا.كم مرة  “يجوز” الرهان؟وعلام … نردد صبحا وأصيلا: الحكيم لا يُلدغ من الحجر مرتين؟

السابق
إشكال لاسا تابع: وفد من المجلس الشيعي يزور المنطقة.. ودعوات لحل النزاعات بالحكمة
التالي
بعد تسجيل أكثر من 40 إصابة في برجا.. هل من أنباء جديدة؟